منذ عشرين سنة تقدمت للالتحاق بالإذاعة المصرية فحذرني توأم روحي قائلاً: بالله عليك هل تدخلين برجليك إلي عش الدبابير، هذا الجهاز البوليسي الذي يكتب المذيعون في بعضهم تقارير، المكان الذي تخلى عن جلال معوض وأميمة عبد العزيز وسميرة الكيلاني وصلاح زكي وغيرهم وهم في أوج مجدهم والمبنى (كما نسميه نحن أبناؤه) في أشد الحاجة لخبراتهم.
أما وكيل الوزارة الذي كنت أتبعه في الجهاز المركزي للمحاسبات حيث كنت أعمل فقد صارحني متألما عندما علم بأني قد نجحت في اختبار الإذاعة وأنوي تركهم كي أعمل بها: "إنتي بنت ناس طيبين ليه تروحي النار برجليك" وكعادتي التي لن أشتريها نفذت ما انتويت.
وكانت أول كلمة سمعتها في بداية مشواري نصيحة مشهورة داخل المبنى بأنه "يأكل أبناءه". ومع ذلك، لست نادمة على السكة التي اخترتها رغم كل المعاناة فقد كسبت حب الناس وثقتهم واكتشفت مواهبي ونميتها كما تعلمت الكثير عن السلطة والصراعات.
واليوم كتبت خطاباً بإجازة بدون مرتب عندما أدركت أنني لم أعد قادرة على اللعب على قيثارتي ولا حتى الدفاع عنها، ليس عن يأس من نفسي ولا من موهبتي فالحمد لله أننا في عصر الخصخصة والسماوات المفتوحة فلكل شيء إيجابياته التي علينا الاستفادة منها رغم سلبياتها،
هكذا تقول دروس الحياة التي طالما شجعت بها البشر المحبطين الطارقين أبواب الخط الساخن لبرنامج اعترافات ليلية، الذي استكثر القائمون على الإذاعة المصرية وقتها الخمسة وأربعين دقيقة اليتيمة المتاحة لهم بعد منتصف ليل الجمعة من كل أسبوع لكي يبوحوا بهمومهم في محطة هي من أموالهم، أموال دافعي الضرائب.
وواصلت المشوار بفضل شبكة أوربيت من خلال برنامج أرجوك إفهمني الذي بدأ بسهرة أسبوعية مدتها ساعة ونصف وتطور إلى سهرتين مدة كل منهما ساعتان. مشوار آخر غير محدد وغير مرسوم أوقن أنه ينتظرني مع إعلاميين بالتأكيد موجودين ومتفقين معي في أهمية الرسالة الإعلامية الشفافة التي تُعلي قيمة الحقائق وتبغض الزيف والموائمات والمكافآت السياسية.
صحيح أني لن أقابلكم بعد الآن عبر نشرات الأخبار على القناة الأولى والفضائية المصرية وهي فكرة تصيبني بالشجن، فالعشرة لا تهون إلا علي ابن الحرام. لكني على يقين بأنه فراق بلا وداع فحكايتي لم تنته. وأعود إلى صديقي الذي لا يكف عن الأسئلة: هل الإعلام المصري الآن أسوأ من ذي قبل؟ فأجبته: بالطبع لأ ولكن الفرق أنه لم تكن هناك وعود ولا آمال في التغيير ولكن أن تعدني بالأفضل ثم يستمر نفس مسلسل القبح فهذا محبط للغاية.
اقرأ أيضا:
عُقدُنا كيف نتخلص منها؟(2) / الشفافية هي مطلبي