مصر تزرع بمياه المجاري. لم يستوقفني هذا العنوان, ولكنه وضعني أمام معضلة مع نفسي. سافرت هذا الصيف للخارج مرتين, وكأي إنسان مصري يسافر ثم يسألونه ماذا وجدت, أرد وأقول وجدت "النظافة"! إجابة يرددها الكثير من المصريين على مدار عشرات السنين ممن كان لهم حظ السفر للخارج, وكأن النظافة التي نفتقدها هنا هي معجزة مستمرة وخيال علمي ورغم أنها, أي النظافة, من الإيمان!
أجد المدارس عندنا تكرر ذات اليافطة على طول مصر وعرضها "مدرستي نظيفة, جميلة منتجة.. إلخ"! سنوات كثيرة مرت وأنا أقول وأكرر أن بلدنا أولى بنا, وأن التغيير سيأتي على أيدينا وأيدي أولادنا, اخترت أن أبقى هنا رغم كل عروض العمل المغرية في الخارج. علمت نفسي أن أقاوم الإحساس بالإحباط والألم وحتى الخوف من تهديدات مباحث أمن الدولة وتدخلات الأمن في كل كبيرة وصغيرة وكأنهم أصحاب البلد ونحن أعداؤها, هو إحساس بالقرف أكثر من أي شيء آخر.
ولكنني عندما سافرت صدمني السؤال البسيط, هل أريد لابنتي الوحيدة, ولأحفادي في المستقبل أن يأكلوا من مياه المجاري؟ لا أعرف, مصر حبيبتي أم الدنيا تخشبت تحت حكم شخص واحد لعشرات وعشرات السنين, ثم سيتم إعطاؤها "كادو" لابنه الأصغر ليحكمها من بعده, وخلال هذه السنوات تحنطت مصر وخرجت من التاريخ. وتطرف كثير جدا من أبنائها, لا أستطيع أن أفهم هؤلاء الذين لا يتركون فرضا أو سنة, ولا يكفون عن الكلام عن الحجاب والخمار واليشمك, ومع ذلك يخشى سواد الناس فيها أن يقولوا الحق أمام سلطان جائر, ويتركون دستور البلد ليتم العبث به بهذه التعديلات الكارثية, ثم تنزرع أرض مصر بمياه المجاري, ما هذه الازدواجية؟ إلى أين نحن ذاهبون؟ أرى الناس في الخارج يبحثون عن الجديد في كل شيء, الأفكار, الأعمال وحتى الأشخاص والحكام, ونحن خارج كل هذا وكأن شيئا لا يعنينا, نخوّن ونكفّر ونحبط كل من يجرؤ على أي تجديد أو إبداع.
يقولون أن الأمراض منتشرة في مصر, السرطان والكبدي الوبائي (حتى قبل المجاري), لا رعاية صحية باعتراف وزيرها نفسه ولا تعليم, الخبراء على سلم وزارة العدل لستين يوما ينامون على الأرض وسيادة الوزير لا يبالي. أين سمعنا في أنحاء الأرض وعلى مر التاريخ عن حكام يدخلون في عناد مع شعوبهم؟!! أنا اخترت بلدي وهذا حقي وسأظل دائما متمسكة به, فلقد حاولت (ولو على أدّي) وبذلت وسأظل, ولكنني لا أعلم ماذا أقول لابنتي التي لا تزال حياتها أمامها والفرص مفتوحة لها على مصراعيها, وهي تريد مصر هي الأخرى, أعترف, وبأنانية الأم أن الإجابة قد استعصت عليّ لأول مرة في حياتي, استعصت عندما قرأت أن الفلاح المصري المتدين ذو الزوجة المحجبة أصبح يزرع ما يأكله المصريون بمياه المجاري, يحدث هذا على أرض مصر التي تقدس حكامها كل التقديس, مصر بلدي, مصر.. أم الدنيا!
اقرأ أيضاً:
قوة الأذان / قطعة من التاريخ تمشي على الأرض.. كان صديقي