نحن في ليلة العيد، الناس بين غادٍ ورائح، أصوات الباعة تصدح هنا وهناك، البسمات بادية، والتحيات شائعة، الأطفال يتراكضون ويقفزون ابتهاجاً، ينشدون بصوت واحد: جاء العيد، جاء العيد،
يتأمل أبو سعيد برهة هؤلاء وهؤلاء ويتنهَّد ثم يتابع طريقه إلى بيته بعد أن انفضَّ الناس من صلاة العشاء من هذا المسجد القريب.
كلمات الإمام بعد الصلاة لا تبرح مخيّلته حين حثَّهم على آداب وسنن العيد، وأن يُفَرِّحوا جيرانهم ويزوروهم ولا ينسوا أولاد إخوانهم وأرحامهم..... صور كثيرة ازدحمت في مخيِّلته، وحوار يدور بينه وبين زوجته قبل أن يصل البيت، ثم يتمتم: يا فارج الهمِّ.. يا الله!.
يطرق أبو سعيد باب بيته فتفتح زوجته متهللة:
- عيدك مبارك يا زوجي الحبيب..
- عيدك مبارك يا حبيبتي.. أكل الأولاد؟
الزوجة: أكلوا.. ولكن.. أم سعيد زوجة صالحة تقدّر حال زوجها، وتقاسمه شؤون حياته بحُلوها ومُرِّها، بعسرها ويسرها، لا تذكر أنها قالت له مرَّة: لا معنى للحياة معك، أو أنت قليل المال، سيء الحال، لست كفلان أو فلان.
يشدُّ أبو سعيد طرفه.. تقولين: ولكن.. ولكن ماذا؟!
قالت متنهدة: نحن نصبر، نحتمل، لا نريد جديداً في هذا العيد، فعندي وعندك، الحمد لله على كل حال، ولكن أولادنا.. يحزُّ في نفسي والله.. قلبي يتقطع عليهم..
الزوج: خيراً.. خيراً!
الزوجة: أنت تعرف أولاد الجيران غداً سيخرجون وهم بالملابس الجديدة، والألعاب والحلوى، وأولادي.. وهنا تذرف دمعتين ساخنتين تترقرقان على خدِّها الحَيِيِّ، الذي ما عرف ذل السؤال، وتكفُّف الناس في يوم من الأيام.. ثمَّ تخفي وجهها بكفيها.
يقول الزوج متجلداً: يا امرأة.. الله كريم، ألا تقولين لي دائماً: الله أكرم الأكرمين؟!
يُطرق الباب هنا، فيقطع حوار وأسى الزوجين.
يفتح الزوج، وإذا بحمزة ولد صاحب أبي سعيد بيده ظرف، واقفاً بأدب جمٍّ: هذه أمانة من والدي لك!.
- تفضل يا حمزة! تفضل يا بني! خذ ضيافة العيد.
- سنزوركم إن شاء الله.. أستودعكم الله..
انفرجت أسارير أبي سعيد، يفتح الظرف ويعدُّ مائة دينار، ويخاطب زوجته: ألم أقل لك: الله كريم؟! نسيتِ قولك دائماً: الله أكرم الأكرمين!..
الزوجة: لا أكرم منه سبحانه، الذي يُعَطِّف قلوب العباد.
التف الزوج، أنا راجع بعد قليل إن شاء الله.
ما فترت مئة الدينار في يد صاحبنا الصالح أبي سعيد حتى تذكَّر صاحبه أبا أنس ربَّ الأسرة الكبيرة، والد الذكور الستة والبنات الأربع، المدين، المكروب.
ما وصل أبو سعيد إلى بيت جاره إلا وعشرات الصور في ذهنه: صورة زوجته وأولاده، اللعب والحلوى والملابس الجديدة، صورة صاحبه مع أهله وأولاده وديونهم ومطالبة الناس لهم.
لا.. لا.. يقولها وكأنه يخاطب أحداً أمامه يقول له:
اسمع منِّي! ادفعها لأولادك، ادفعها لزوجتك الجميلة تريد ثوباً جديداً، الأقربون أولى، أفضلُ دينار دينارٌ أنفقته على أهلك حتى اللقمة يضعها في (في) امرأته له بها أجر.
(خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
يبتسم أبو سعيد وكأنه أمسك بتلابيب الشيطان: ما أخبثك يا لعين! تريد أن تصرفني عن الخير بالأحاديث يا فقيه؟!.
نسيت؟! ما رأيك بـ (إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إَخْوَةٌ)[الحجرات: 10].. (لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه) ...
لا.. لا.. سيشاركني أخي وجاري بهذه العطيَّة رغم أنفك، أعوذ بالله منك!
وهنا يصل إلى بيت صاحبه، يطرق الباب، تفتح أم أنس الباب، تفضل يا أخي....
أبو سعيد: شكراً لكم، سلّمي على أخي أبي أنس، وقولي له: أخوك أبو سعيد أوصل لك هذه الأمانة، والسلام عليكم.
أم أنس: جزاك الله خيراً.. جزاك الله خيراً..
تتحسَّسُ أم أنس الظرف وتقول في نفسها: كثَّر الله هذه الدنانير، زوجي -والله- طيب، وهذه هدية إلهية لنا ليلة العيد.
ما أكرمك يا رب!.. الحمد لله..
يستيقظ أبو أنس فيرى زوجته تقفز من الفرح وهي تقول: هدية من صاحبك، أكيد.. أكيد.. والله نِعمَ الأخ، أليست هدية لك؟!
يفضُّ أبو أنس الظرف.. يعدُّ.. خمسون ديناراً، فرَّج الله عنك كما فرَّجت عنَّا يا أبا سعيد! ما خَلَتِ الدنيا من الرجال..
يدخل أبو سعيد بيته متهلِّلاً، والله يا امرأة ما فرحت في حياتي كلها فرحة هذه الليلة، أدخلتُ السرور على أسرة من أسر المسلمين، ليس مني، بل كله من فضل الله تعالى.
الزوجة: بارك الله فيك، ما رأيت من زوج شاكر صابر طيب مثلك.
الزوجان معاً: الحمد لله.
المصدر: قصص لا تنسى من حياة الناس
نقلًا من موقع نسيم الشام
اقرأ أيضاً:
ضرورة التأسيس المعنوي للكيان الوطني!/ الوطنية حقوق وواجبات.. وليست هي (الوطنية المترفة)!/ خطورة خلق صور ذهنية سلبية!/ .... مفتاح نهضوي افتقدناه..!