حمد حمدان الطاوي أبو الريش، في الثلاثين من العمر كان... طويل القامة إلى حد يلفت الأنظار، أصلع الرأس، محمر الوجه دائماً، يمشي، فتظن أنه يسحب نفسه سحباً. كثيرون استمعوا إلى كلماته اللاهبة عن الاستعمار والفقر وطبقة الأوزون... وكثيرون ضحكوا أو تضاحكوا، وكان على الدوام، ينسحب لاعناً شاتماً هذا الزمان الرديء، زمان الجيل الذي لا يهمه إلا الرقص والخلاعة، وسقط الكلام.. الله يرحم الأيام الماضية، هذه الأيام التي كانت رائعة وجميلة ومموسقة حسب ما يريد الواحد منا ويشتهي...
حين يتذكر أبو الريش، يبصق، ويلعن.. وعندما يشتد به الأسى ويزداد، يغمض عينيه وكأنه لا يريد أن يرى ما يحيط به من مناظر مؤذية.... وحسب اعتقاده الراسخ، فقد أصبح الناس، دون تفريق لا يساوون شيئاً... في هذا الوقت، وهو وقت سابق على ما تبع من أحداث، لم يكن حمد حمدان الطاوي أبو الريش قد وصل بعد إلى الحالة التي جعلت الناس يصفونه بالجنون.. لابد هنا، والحق يقال، من التأكيد، على أنه كان أقرب إلى الهدوء.. صحيح إن بعض الثورات كانت تأخذ به كل مأخذ، لكنه لم يصل في مرة من المرات، إلى عرض مواهبه في ضرب الجدران برأسه.. ولم يصل في مرة من المرات -وهذه حسنة من حسناته الماضية- إلى حد التحرش بالبنات والسيدات علناً، مسقطا كلّ ضوابط الأخلاق... فالرجل والله يشهد، كان غريباً.. ربما كان أغرب من غريب.. لكن حتى مثل هذه الأحداث، لا تستطيع أن تقدم حالة شبه نهائية عن أحوال حمد حمدان الطاوي أبو الريش...
فجأة وفي منتصف الشارع المزدحم بالمارة والسيارات والعربات والبائعين، وقف المدعو حمد حمدان الطاوي أبو الريش، وأعلن بصوت مرتفع أن الساعة قد "أزفتْ"... ولما كان الجميع دون استثناء، لا يعرفون شيئاً عن طيبة أو سيئة الذكر "أزفتْ" هذه، فقد وقفوا صامتين حائرين مأخوذين، ينظرون إلى الطاوي، المحمر الوجه، الطويل العود، وهو يشرح ويطنب ويمد ويمتد في معنى "أزفت".. متناسياً أو ناسياً في كثير من الأحيان ما أراد أن يقول... المهم بالنسبة له، أن الجمع الطيب أخذ يستمع، والأهم أن الرؤوس كانت تهتز مأخوذة مدهوشة، أو ربما متناغمة مع حركة رأس حمد حمدان الطاوي أبو الريش..
ولأن حمد حمدان الطاوي أبو الريش أطال وشدّ الأعصاب حتى آخرها، فقد ضاق الصدر، وتلاحقت الأنفاس، وتساقط الريش ريشة ريشة... ووصل الأمر حتى صارت فيه الكلمات تختنق وتسقط صريعة في أكثر الأحيان .وللحقيقة، وهي حقيقة لم ينتبه لها أبو الريش، فإن أكثر الكلمات لم تعد مفهومة.. عندها انفرط عقد الناس وانحل.. وبقي أبو الريش وحيداً دون ريش.. وهناك من روى أن المدعو حمد حمدان أبو الريش، هز رأسه وأعلن أن هؤلاء الذين ذهبوا مجرد رعاع لا يريدون أن يفهموا، وحسب ظنه أن الرعاع لا يمكن أن يخرجوا عن منطق الرعاع ولو حشوت رؤوسهم بكل الكتب التي في العالم، يومها مضى حمد حمدان الطاوي أبو الريش في الشوارع والحارات والأزقة يحدث نفسه، وكان يلوح بيديه مع كل خطوة، ويهز رأسه بعنف، وأحياناً يتوقف للحظات ليبصق ويلعن هذا الزمان وكل رعاع الأرض........
وحين أكد الناس، بعد واقعة "أزفت" المشهورة أنه مجنون وأن جنونه من النوع الخطير المؤذي.. لم يكن حمد حمدان الطاوي أبو الريش مجنوناً ولا يحزنون. لكن مشكلته التي لا يستطيع أحد إنكارها، تتعلق -حتى ذلك الحين- في كونه كثير الشرود والنسيان.. يتكلم، وفجأة ينسى الموضوع الذي يتحدث حوله، فيضيع كلامه ويصير كلمات متقاطعة لا تعبر عن شيء.. وإذا ذهب إلى مكان ما، فإنه ينسى تماماً المكان الذي يريد أن يصل إليه، لذلك تتوه خطواته، ويتجول في الشوارع دون هدف.
هل كان كل هذا نوعاً من الجنون؟ حتى ذلك الحين، كان الأمر مجرد تخمين.. ولم يكن أبو الريش مجنوناً... في تطور لاحق للأحداث، وهو تطور مهم في قضية المذكور.. أعلنت الزوجة الطيبة سلافة النهري، أن زوجها المدعو حمد حمدان الطاوي أبو الريش ما عاد يطيق فراش الزوجية... وأنه أصبح يتهمها -والله يشهد أنها تعشق النظافة- بالتعفن، ويقسم أنها تحمل رائحة جثة متحركة... لذلك، وبناء عليه، ما عاد بمقدوره -والكلام على لسان المدعو حمد حمدان الطاوي أبو الريش- أن ينام معها.. وآثر أن يتمدد على فرشة يفردها على الأرض في غرفة أخرى...
سلافة النهري هذه، وهي امرأة عشقها كثيرون من رجال وشبان الحي لجمالها ودلالها ورقتها، أعلنت أيضاً أن رجلها حمد حمدان الطاوي أبو الريش، أصبح يحدث الجدران والأبواب والشبابيك... يقول أشياء غريبة عجيبة... وحين تحاول في بعض الأحيان أن تتقرب منه ملاطفة، يدفعها وكأنها جرباء... وقالت والدموع تملأ عينيها، أنها ستطلب الطلاق... فالرجل ما عاد يطاق... حتى أولاده، كما تقول سلافة النهري الحسناء المغناج.. ما عاد يطيق الجلوس معهم، يرمق الواحد منهم، ويهز رأسه، ثم يأخذ في بكاء طويل مرير....
وحين تسأله عن السبب يقول: "لم نترك لهم شيئاً يفرحون به".. وتحاول أن تفهم، فيأخذ في ضرب رأسه بالجدار ويبكي، عندها كانت سلافة النهري تصر أنه مجنون.
هل وصلت قضية حمد حمدان الطاوي أبو الريش إلى حالة ما عاد ينفع معها حديث أو دواء.
وهل وضعت زوجته سلافة النهري النقاط على الحروف بشكل نهائي؟؟ ربما يمكن القول إن هناك بقية من حديث علينا أن نتابعها... إذ يفترض أن قضية حمد حمدان الطاوي أبو الريش قضية شغلت الرأي العام في الحي الذي يقع فيه، وفي الأحياء المجاورة، ولا يمكن أن تطوى أوراقها هكذا ببساطة...
صحيح أن الجدار، أو الجدران، قد اهتزت من ضربات رأسه، وصحيح أن الجيران قد ضجوا من بكائه ونواحه ووقوفه على الأطلال دون أن يشاهدوا أطلالا أو ما يشبه الأطلال.. وصحيح أن زوجته ملت الحياة دون رجل يداعبها ويناغشها ويضمها إلى صدره، وهو حلالها على كل حال... كل هذا صحيح.. لكن علينا أن نعترف حتى هذا الوقت أن حمد حمدان الطاوي أبو الريش لم يكن مجنوناً... لم يكن على الإطلاق كما يظنون... كان البكاء أعلى من قدرتهم على الاستيعاب والفهم، فظنوا ما ظنوا... وبقي هو كما هو، أو هكذا بدت الأمور حتى ذلك الحين...
يمكن هنا أن نتحدث عن تطور آخر في قضية أبو الريش، حيث كان رئيسه المباشر في العمل جالساً خلف مكتبه العريض الطويل يمسد كرشه بيد غليظة منتفخة، وينفث الدخان من فتحتي أنفه الكبيرتين. وللحقيقة، فقد كان -أي رئيسه المباشر- يشعر بسعادة حقيقية بعد أن استطاع إقناع الموظفة الجديدة، التي اعتبرها في غاية الجمال، أن تذهب معه بعد الدوام مباشرة لتناول الغداء في أحد المطاعم. كان السرور يسيطر عليه.. إلى هنا والأمور تبدو في أحسن صورة.. لكن ما حدث وقلب كل شيء، تعلق بصاحبنا الذي نبحث في جوانب قضيته.. فماذا حدث؟؟
لا أحد يعرف من أين نبت حمد حمدان الطاوي أبو الريش وأمسك برئيسه ورفعه من خلف مكتبه وانهال عليه بالضرب الذي لا يرحم ولا يعرف حدا... الأمور حدثت بسرعة غريبة لا تصدق...!!
الموظفون الذين التموا، وقفوا مأخوذين، كأنّ على رؤوسهم الطير، لا أحد يتنفس، لا أحد يستطيع أن يتحرك، المفاجأة شلتهم تماماً. وحين تعالت صرخات رئيسهم في العمل بدأوا يتحركون ببطء... ثم بسرعة، وقع حمد حمدان الطاوي أبو الريش بين أيديهم. ولم يتركوه إلا بعد أن قطع النفس أو كاد. ولأن الرجل الذي كان منتفخاً وراء مكتبه قد وقع له ما وقع، فقد ألقوا بحمد حمدان الطاوي أبو الريش خارج الشركة، ونفضوا أيديهم.
كان كل واحد منهم يؤكد أنه أول من ضرب، وأول من خنق وأول من أبعد أبو الريش عن سيادة رئيسهم المباشر المحترم... ولأن رئيسهم المباشر كان يلعن ويشتم، ويهز كرشه بغضب، فقد آثروا أن يصمتوا، وأن يجلسوا في أماكنهم، وراء مكاتبهم بهدوء...
مسكين حمد حمدان الطاوي أبو الريش فقد صار حديث الناس في كل مكان وزمان... يحكون ولا يصمتون.. يحكّون رؤوسهم ويذهبون في الحديث كل مذهب.. يؤلفون القصص والروايات عنه ويستفيضون.. ووصل الأمر بهم إلى أن أعادوه ثلاث مرات إلى مشفى الأمراض العقلية... يهرب لأيام أو ساعات.. ثم يعاد... وهناك يتعرض لكل أنواع التعذيب والتجارب التي تجرى عليه بأسماء مختلفة.. ومرة أخرى يخطط من أجل الهرب.. رغم زيادة المراقبة والحصار..
جنون حمد حمدان الطاوي أبو الريش، حسب التقارير المضروبة على الآلة الكاتبة، تقول انه قد وصل إلى حالة يصعب معها الشفاء... الرجل ضيع آخر ذرة عقل.. وما عاد له في الدنيا أحد بعد أن استطاعت الزوجة أن تحصل على الطلاق والأولاد.. كان الرجل حزيناً... يشرح للمحيطين به عن الساعة التي "أزفت".. عن الزمن الرديء.. عن الجيل الذي لا يحب إلاّ الخلاعة والرقص.. عن الجثث التي تتحرك ليل نهار في ثياب الأحياء..
واقرأ أيضاً:
أسرار صغيرة / النهر / الغضب / امرأة تسرج صهوة الروح / غزل من نوع خاص / الذي / سنةُ مضتْ / عيد بحجمكَ يا وطن / يا أهل غزة / شكراً يا بوش