خرج إلى الشارع ونادى بأعلى صوته، اجتمع الناس وتزاحموا فرحين بعودته إلى الكلام بعد طول صمت، وقف على حجر كبير وصرخ: "أنا عبد الرحيم الذي تعرفون، أعلن على الملأ أنني أريد أن أبيع أذنيّ في مزاد علني... من يدفع أقل سيأخذهما" عندها اعترف الجميع أن عبد الرحيم جن وفقد آخر ذرة من عقله.. صاح: "صدقوني ليس هناك أي تلاعب بالألفاظ... من حقي أن أبيع أذنيّ.. إنهما ملكي الخاص.. وأنا أريد أن أبيعهما"؛
ازداد الناس استغراباً وشفقة على عبد الرحيم،بعضهم طيـّر الضحكات في الفضاء، فانتقلت العدوى، وأخذ الجميع يضحكون، اقتربوا من عبد الرحيم وأخذوا يتحسسون أذنيه، امتلأ الشارع وغصّ بالناس، كان الخبر قد شاع وامتد ووصل إلى كل مكان "رجل مجنون يريد أن يبيع أذنيه، رجل فقد عقله ويريد أن يفقد أذنيه"، تمادى البعض وأخذ يمط هذه الأذن، ويضغط على الأخرى، وكأنه يريد أن يمتحن ما يريد شراءه، وعبد الرحيم صامت، كان يشعر أن المزاد قد انعقد، وأن على الحاضرين أن يفحصوا البضاعة المعروضة للبيع كما يريدون، لكن المشهد لم يدم طويلاً، إذ أخذوه في سيارة مغلقة...
قال رشدان الذي شعر بالمرارة تأكل حلقه: "يا حمار ألا تريد أن تعترف... فقط أذكر لنا أسماء المحرضين، سأعقد صفقة معك، صدقني سأتركك ترحل... تصور، عندما تعطيني قائمة بأسماء هؤلاء الأنذال سأتركك ترحل، سترى جمال الحياة من جديد، ستسمع الموسيقى وزقزقة العصافير، لا تخف سنؤمن لك الحماية، كم دفعوا لك لتفعل ما فعلت، المسألة كما ترى بسيطة جداً.... فقط اعترف...".
في رحلة الغثيان كان يشعر أن الكلمات تسقط وتسقط، لم يجد وعاء مناسباً يضعها فيه... قال لزوجته بألم: "اللعنة على كل شيء لا أريد أن أسمع"، قالت الزوجة: "سلامة عقلك يا عبد الرحيم، ما بك يا سندي"؟؟ ولم تعجبه سندي هذه، قال: "عندما يكبر الأولاد ماذا سأقول لهم..؟؟ أنا خائف من هؤلاء الذين سيكبرون ذات يوم ويكشفون الزيف والكذب والنفاق".. لم تستطع الزوجة أن تفهم كيف يمكن للأب أن يخاف من أولاده، أخذت تبكي بحرقة، وأخذ يبكي بألم حتى ضعف بصره...
صاح رشدان: "اسمع إنني أحذرك -كانت الجراح تزحف بأوجاعها- عليك أن تحدد الجهة والأسماء، -هل يذكر أسماء أولاده؟؟-، لابد من ذكر العناوين بالتفصيل، وأسماء أولاد الحارة، وإلا سلخت جلدك، وأسماء كل الأولاد في المدينة، لن تفيدك المراوغة، واسم الحاضر الغريب الكئيب؛
سنعرف كل هؤلاء الذين حرضوك، واسم المستقبل،.... سنجعلك عبرة لمن يعتبر، -الجراح تمتد ألسنة من نار، لا يبدو أنك تعرف مصلحتك-،.... وأسماء الأولاد الذين سيأتون، والأشجار، والأنهار، والفضا، واللغة، لابد أنك من الأعداء" رفع ذراعيه، قبض على أذنيه، أخذ يشد، خرجت الأذن الأولى بيده اليمنى، الثانية بيده اليسرى... تدفق الدم، لم يعد يسمع أي شيء، تمدد على الأرض وأخذ يتخبط بدمه وهو يضحك، بينما كان رشدان يفتح فمه ويغلقه بانفعال شديد...
واقرأ أيضاً:
أسرار صغيرة / النهر / الغضب / امرأة تسرج صهوة الروح / غزل من نوع خاص / سنةُ مضتْ / أبو الريش.. وحالة ضياع / عيد بحجمكَ يا وطن / يا أهل غزة / شكراً يا بوش