«أزهر الحزن يا عائشة، أزهر الحزن.. البيت طار، نسفوه.. نسفوه يا عائشة.. والولد راح، قتلوه، قتلوه يا عائشة.. والآن قولي لي ماذا أفعل يا بنت الحلال.. هل أقف هكذا طويلا أمام ركام البيت أندب حظي وأبكي ولدي.. أولاد الكلب لم يتركوا لنا شيئاً.. لو كان باستطاعتهم أن يسحبوا الهواء حتى لا نتنفس.. لسحبوه.. ماذا أفعل يا عائشة.. ما عاد عندي صبر.. أشعر بالذهول يا عائشة.. زمن مثل القطران.. الشيب صار ملء العمر يا عائشة.. ماذا أفعل يا بنت الحلال.. ماذا أفعل يا عائشة.. ماذا أفعل؟؟».
هذا الصباح لم تقم عائشة لترتب الخيمة كما كانت تفعل كل يوم، كانت تنظر إلى البيت القريب المكوم على بعد أمتار وتتنهد، تحاول قدر المستطاع أن تشرح لعبد المجيد أن ذهوله هذا لا يفيد، لكن دون جدوى، كان يروح ويجيء وكأنه مربوط يخيطان تحركه من بعيد، كلامه ما عاد مفهوماً، تصرفاته صارت أغرب من أن تفسر، ينظر في وجهها طويلا ويتنهد، يدور حول ركام البيت وينوح، ينادي الولد الذي استشهد بصوت مجروح، يطلب منه أن يقوم ليرى ماذا فعل أولاد الكلب بهم، وعائشة اليوم لم تقم، وحده كان يطلق كلماته في الفضاء المخنوق.
الولد مثل كل أولاد المدينة حمل الحجارة ورماها على المحتلين، والولد مثل كل أولاد المدينة هرب من رصاصهم والنار، كان يراهن أن الصباح سيلد عصفورا بجناحين من ذهب، وكان يراهن أن البحر سيعود جميلا كما كان، وأن عروس البحر ستطل ذات يوم وتغني أغنيتها الساحرة، يقول الأصحاب يا مصطفى أنت ولد كثير الأحلام، مشكلتك أنك وحيد والديك، عرفت الدلال حتى مللته، كان يغضب ويصرّ على أنه مثل أي واحد منهم. وما كان يهمه غضب الوالد والوالدة حين يفر لاهثاً من أزيز الرصاص.
كان يعانق أباه وأمه ويضحك من خوفهما، رصاصة واحدة كانت كافية لتدلق شلال الدم على الأرض، رصاصة واحدة كانت كافية لتجعل عائشة وعبد المجيد في حالة ذهول، وطار البيت، صار خيمة لا أكثر ولا أقل. عبد المجيد يحوم حول عائشة ويحكي، عائشة تركت كل شيء ورحلت بعد أن ملتْ هذا العالم المليء بالظلم، ومصطفى وحيد والديه صار عصفورا يحط على أسلاك الكهرباء ويحاول أن يقول للوالد الذاهل أن عائشة ما عادت معه وأنها لن تعود، وحدها الخيمة كانت تئن من برد ورعد وزمهرير، وحدها الخيمة كانت تشكو من كثرة الثقوب والشقوق والجراح، خيمة من قماش لا يحتمل مثل هذه العواصف، لذلك قررت أن تفعل شيئاً، وقبل أن تنفذ كانت طعاما للريح، الخيمة طارت، لم تأخذ عائشة الممددة معها، ولم تأخذ عبد المجيد الذاهل معها.
أراد العصفور الواقف هناك على أسلاك الكهرباء أن يعود ولداً، فما استطاع.. أرادت الخيمة التي صارت قشة في مهب الريح أن ترجع، فما استطاعت.. أراد عبد المجيد أن يأخذ عائشة إلى مكان آخر أكثر دفئاً وأماناً، فما استطاع.. وحده الرصاص كان يلعلع في الجوّ، وحدهم جنود الاحتلال كان يطيب لهم المنظر، وكانوا يضحكون، يقتربون من عبد المجيد الذاهل ويضربونه على رأسه لمجرّد التسلية ليس إلا، خمسة كانوا، اللعبة أعجبتهم، فصاروا يمرون كل يوم، ويضربون عبد المجيد على رأسه كل يوم، ويأمرونه أن يدفن عائشة كل يوم.
العصفور الواقف على الأسلاك كان غاضباً، والركام الذي كان بيتاً في يوم مضى كان غاضباً، والخيمة التي لاكتها الريح ومزقتها كانت غاضبة، حتى الجثة التي كان اسمها عائشة كانت غاضبة، والأرض التي تلقت قطرات الدم من رأس عبد المجيد مرات ومرات كانت غاضبة، وحده كان صامتاً، يجيء الجنود الخمسة ويذهبون ويبقى صامتاً، يضربونه بتلذذ على رأسه ويبقى صامتاً، عيناه صارتا جمرتين، يداه صارتا خيمتين، والقلب صار طيراً من نار.
لا شيء تغير في المكان، الركام ما زال ركاماً… فقط تحركت بعض الأشياء وتبدلت، العصفور الذي يقف على أسلاك الكهرباء ما زال هناك، لكنه لأمر ما كان ينفش ريشه ويضحك، والخيمة التي لاكتها الريح ورمتها بعيداً قطعاً ما زالت كما كانت، لكنها لأمر ما تفخر أنها ضمت عبد المجيد وعائشة فيما مضى، عائشة واراها التراب وأصبح لها قبر مزين بأغصان طرية من شجر قريب، صار قبرها قوياً صلباً يستطيع أن يقاوم الرياح والزوابع والبرد، وحده عبد المجيد غاب.. ما عاد يعرف أحد أين هو، قلبوا الأرض بحثاً عنه فما وجدوه، صار حكاية وأسطورة، وهناك قرب ركام البيت، في حفرة للقمامة والأشياء المتعفنة، كانت خمس جثث لجنود كانت أحذيتهم مثقوبة، وكانت الضحكات قد غادرت وجوههم إلى الأبد.
واقرأ أيضاً:
أسرار صغيرة / النهر / امرأة تسرج صهوة الروح / غزل من نوع خاص / الذي / سنةُ مضتْ / أبو الريش.. وحالة ضياع / عيد بحجمكَ يا وطن / يا أهل غزة / شكراً يا بوش