كل شيء في البيت باهت، طوى الثياب وأغطية الفراش شاردا، رتب الأشياء كيفما اتفق، بعدها أغلق الأبواب والشبابيك بإحكام، تثاءب، وقف للحظات أمام الباب الرئيسي، امتدّ نظره إلى الأعلى، الفتاة التي تقطن في الطابق الثاني كانت تطوي آخر الدرجات صعودا، هكذا دون مقدمات وضع إصبعه على زر الجرس، سمع الرنين الحاد يملأ المساحة المتروكة والفضاء حوله، أراد أن يضحك، لكن دمعة انفلتت من العين وسقطت على وجنة باردة وهو يغادر المكان للمرة الأخيرة!!..
لم يكن الشارع الذي اختار السير فيه صغيرا، نظر، وأطال النظر، فما وجد له نهاية، كانت خطواته تخترق العتمة والغبش والصمت بملل، وضع يده في جيب بنطاله، وأخرج ورقة قديمة عرف من ملمسها أنها تعود لسنوات طويلة مضت، دون أن ينظر إليها مزقها ورماها لتأخذها الرياح قطعا إلى البعيد، وحده كان في الشارع الطويل، ووحدها كانت تطوي آخر الدرجات.
زوجته بشرى كانت مليئة بالحيوية والنبض والنزق الذي لا يرحم، أرهقته بكل شيء؛ طلباتها، آمالها، تطلعاتها ورغباتها، صوتها المرتفع الذي صار الجيران كلهم يعرفونه، ذات صباح وجدها جثة هامدة على السرير، سأل الأطباء عن السبب، قالوا أشياء كثيرة لم يفهم منها أي شيء، الجيران تهامسوا: استراح، وبعضهم قال همسا أنه كان القاتل -حتى هو شك بنفسه- هناك في حفرة بطول الحلم وعرضه دفنوها!! لم يعد يسمع صوتها تناديه صباح مساء: ((إلى متى يا أمجد ستبقى نائما، يا أمجد أحضر الخبز، يا أمجد قم بتنظيف الغرفة، يا أمجد، يا أمجد!!)) طواها الموت، غيبها وغيب صوتها، لا يذكر إن كان وقتها قد بكى أم ضحك فرحا في داخله!! كان يحس بمشاعر متناقضة متضاربة، وحدها الفتاة في الطابق الثاني كانت تفك أزرار وحدته، وكانت -دون أن يعرف لماذا– تنظر إليه وتغرق في الضحك!!3
في المعمل -حدث هذا في يوم ما– دارت الآلة بصورة غير معقولة، انكسرت المسننات، تطايرت القطع هنا وهناك، جن جنون صاحب المعمل، ورماه مثل فأرة كريهة في الشارع، صرخ، صاح، رفع صوته في كل مكان، لكن دون جدوى، الآلة الملعونة أهم من ألف أمجد!! الآلة عادت إلى الدوران وما عاد هو إلى العمل، أخبروه أن صاحب المعمل أقسم أن يقسمه إلى قطع صغيرة إذا رآه!! وخشي أن يفعلها ذلك الرجل السمين المكتظ مثل كيس، ومن يستطيع أن يمنع رجلا مثل معلمه أن يفعل ما يريد وما يشاء على هواه؟؟
تنقط حواف الشبابيك بقية من قطرات مطر ما زالت عالقة هناك، البرد يخترق العظام، أخرج علبة الكبريت وأشعل عودا واحدا ثم أخذ يحدق في جوانب العتمة، بدا له أن المساء شخص ذو ملامح، أشعل عودا آخر، واحترقت الأعواد كلها، فألقى العلبة الفارغة تاركا لصوت ارتطامها بالأرض أن يرسم عالما من خيال مبهم، قال في نفسه: ((ماذا لو برزت الفتاة التي في الطابق الثاني أمامه الآن؟؟)) أراد أن يضحك، المشكلة أن ملامحه ما عادت تستطيع التوافق مع الضحك، ارتسم كل شيء فيه على شكل إشارة تعجب...!!.. يعرف ذلك، ملامحه من ورق مقوى، كثيرون تندروا وضحكوا وطاب لهم أن يقولوا عنه الكثير!! صوت غريب يرتفع من الوسط والأعلى، ربما هو صوت الجوع والخوف والبرد معا!!
ساعة، ساعتان، يوم، ربما عدة أيام، ما عاد يشعر بشيء، قدماه صارتا قطعة من آلة انكسرت مسنناتها، كان يمشي وكأنه مجرد قطع متناثرة!! كانت معدته تضرب ضربات متوالية حتى صار الجوع جزءا منه، تمنى فقط أن تمطر السماء والأشياء والاتجاهات حتى يرتوي، القطرات القليلة كانت لا تكفيه، صار البيت البعيد روحا جميلة ووردة تشعره بالأمان، البيت الذي صار خلفه بأيام، أخذ يتحسس أعضاء جسده، كل شيء متعب مرهق مهدود، لماذا أرادوا أن يشربوا نخب انتصار زميلهم سعيد على زميل آخر بلعبة الورق؟؟ أحيانا تبدو الأمور تافهة إلى حد غير معقول!!..
مثل تفاحة حمراء طازجة طرية كانت، قربها من شفتيه، تقف في المنتصف تماما، تنورتها القصيرة لا تبقي شيئا مستورا، مرات حاول أن يصرخ الرحمة يا بنت الحلال، الرحمة يا سناء، كانت تتلذذ باحتراق نظراته واشتعال وجهه احمرارا، وكانت أذناه تلتهبان نارا وطنينا، سنوات وهو يتمنى أن يضمها إلى صدره، كانت تطوي الدرجات نحو الطابق الثاني على مهل، تشعل النار فيه وتدخل بيتها بكل هدوء، كانت فتاة لا ترحم!!
الخيالات تزدحم، أشياء كثيرة أخذت تغزو أمجد!! الشارع الذي طال صار مكسورا وملتويا وملتفا، كان يمشي وكل الأشياء تمشي معه، جسده المحموم ربما يعرق يتلوى يشيخ يهرم باطراد عجيب، ما عاد يعرف كم من الوقت مرّ، كم من الوقت تبقى، نهضت أمه وأخذت توبخه لأنه كسر زجاج شباك الجيران، أبوه ضربه، نهال بنت الجيران وقفت معه أمام الباب وطبعت قبلة على شفتيه البريئتين، دارت الدنيا ودار، كانت الدراسة مثقلة بالهم، في الصف الخامس الابتدائي مات والده، ترك المدرسة، نهال صارت تعصره عصرا أمام الباب، كان لا يفهم ماذا يحدث، كانت أكبر منه بسنوات، كان يتحسس جسدها بتلذذ، بعد حين صار يفهم، وصار يعصرها مثل ليمونة عند الباب وفي الغرفة الصغيرة المليئة بالخشب والتنك وأشياء أخرى كثيرة، صاح أبو أحمد البقال أنت ابن حرام، بعد أن اصطاده والبنت نهال في الغرفة، وبدل أن يشكوه للآخرين كما ظن، أخذ مكانه وصار يلتقي نهال في بقاليته، لم يتغير شيء، من جهته ظل يلتقي نهال، وظلت نهال تلتقي البقال!!..
شاخ الجسد وجف الريق ويبست العروق، صار على يقين أن النهاية صارت قريبة، الفتاة على الدرج تطويه صعودا، تنورتها تمزقت وهرب ابن الجيران عندما رآه. خطوات قليلة ويصل إلى مكان ما، إلى أين؟؟ هناك سيضع رأسه على حجر أو عتبة دار وسينام طويلا، لم يعد يشعر بأي شيء بعد أن تثاقلت حركاته تماما، كان الشارع الطويل يمشي، الشبابيك تمشي، قطرات الماء تمشي، لا يدري تماما أين هو!! باب بيته قريب جدا من يده، حتى ليكاد يشعر ببرودة خشبه، الفتاة مازالت واقفة هناك، خطواته في الشارع الطويل مستمرة، رذاذ من مطر خفيف يملأ المكان، غبش وشيء من حلم يطرق جفنيه، تمنى أن يضع رأسه وينام، ضحكت الفتاة الواقفة على الدرج، امتد الشارع واستطال أكثر، وبقيت عيناه معلقتين في الفراغ مثل إشارتي استفهام!!..
واقرأ أيضاً:
أسرار صغيرة / الغضب / امرأة تسرج صهوة الروح / غزل من نوع خاص / الذي / سنةُ مضتْ / أبو الريش.. وحالة ضياع / عيد بحجمكَ يا وطن / يا أهل غزة / شكراً يا بوش