فتشوه، قلبوا البيت وما تركوا شيئاً، كان في وهمهم أنه وضعه في مكان ما لا تصل إليه الأيدي، فحاولوا أن يدخلوا في الثقوب الصغيرة والكبيرة، لكن شيئاً لم يحدث، ما وجدوا شيئاً ولم يقل لهم حرفاً واحداً يمكن أن يدلهم على الطريق، كان صامتاً مثل قبر، أو هكذا هيئ لهم، عندما خرجوا من بيته دار في خلده أنهم ملوا البحث، لكنهم عادوا بعد قليل، وعادت دورة البحث والتنقيب من جديد، حتى أنهم أخذوا يبحثون في جسده، ظناً منهم أنه خبأه في هذا المكان أو ذاك.
كان يحلم بالنوم وإن لساعات قليلة، حتى النوم صار مصادراً مثل الوطن... مرة، بينما كانوا يبحثون، أغمض عينيه خلسة، فانقضوا عليه مثل الكلاب الجائعة، فارتعش وبقي مفتوح العينين يحلم بالنوم.
الصورة أعجبته رغم إرهاقه وتعبه وألمه، فما تعود أن يحلم الناس بالنوم، إذ من المعروف أن الناس ينامون ثم يحلمون... لكنه، ولطرافة الحدث أو لغرابته، كان يحلم بالنوم، كان يحلم أن يبتعد جنود الاحتلال قليلاً كي ينام، أراد أن يصرخ بأعلى صوته: تعبت يا أولاد الـ… لكنه آثر الصمت، قرر أن يبقى هكذا مثل إشارة استفهام أمامهم مهما فعلوا، ومهما تمادوا في التعذيب والبحث،
زوجته الشيماء أوصته مرات قبل موتها أن يحافظ عليه في مكان أمين، ومرات جعلته يحلف بالله وبكل المقدسات وبرأس أبيه أن يدافع عنه حتى الموت، قالت: «لا تسلمه إلا لابننا يا أبا عبد الله، أقسم..» وأقسم، وها هو يحافظ على القسم، ها هو يدافع عن سنوات عمره الطويلة، يدافع عن ثمانين عاماً، يعرف رغم كبره وانحناء ظهره أنه أقوى منهم، لأنه صاحب البيت والشارع وحتى الهواء الذي يتنفسون..!!
قال: «أخذتم كل شيء يا أولاد الزانية، ماذا تريدون بعد؟؟ حتى شجرة الليمون التي عشقتني وعشقتها لم تنج منكم يا أولاد الحرام، ألا تعرفون غير السرقة والقتل والتخريب؟؟..»، سقطت الضربة فوق رأسه، غاب عن الوعي، حقق حلمه في أن ينام، لكنهم أيقظوه من غيبوبته بعد أن دلقوا عليه من الماء ما دلقوا، وكأنه ماء أبيهم، صاح أحدهم محاولاً لفظ الحروف العربية بشكل صحيح دون جدوى: «لن نتركك قبل أن نعرف أين هو، إلى متى ستصمد يا خرفان!!.. هل تظن أننا سنتعب، لا تخف الوقت أمامنا طويل!!» ضحك في سره «قال الوقت أمامهم طويل قال!!» قرر أن يحلم أنه نائم، ليكن حلم يقظة، لماذا لا يحقق المعادلة الغريبة العجيبة، أن يحلم حلم يقظة أنه نائم، وذهب... كانوا يتكلمون ويسألون ويلوحون ويصرخون، ولم يكن معهم، حقق معادلته واستطاع أن يهرب على طريقته، استطاع أن يبعد وجوههم الكالحة وأن يفرد جناحي الحلم كما يريد.
قال في حلمه مخاطباً الزوجة التي رحلت: «ماذا يريدون أن يفعلوا به، لماذا كل هذا الإصرار على الحصول عليه؟؟..»، قالت الزوجة: «يا أبا عبد الله حتى إذا أخذوه فلن يكون لهم، سيرفضهم، لكن من واجبنا المحافظة عليه، كل واحد منا يسلمه إلى الآخر، فكيف نتيح لهم الحصول عليه..» ضحك في حلمه وقال: «ماذا لو فتشوا قلب الواحد منا، افرضي يا امرأة..» ضحكت في حلمه أيضاً وقالت: «حتى لو فعلوا فلن يجدوه، يا أبا عبد الله المهم أن يروه، هناك أشياء كثيرة لا تراها كل العيون.. هم أعجز من هذا!! دعهم يقلبون الدنيا فلن يجدوا غير فشلهم..!!» ضحك في حلمه قال: «عندما يعود عبد الله سيجده وإن وجدني ميتاً، ما أسهل أن يجده، أما هؤلاء المجانين، فلن تجدي بنادقهم شيئاً، سيدورون في حلقة مفرغة، لن يجدوه!!»؛
قالت خارج حلمه بعد أن ضربوه وسال الدم من عينه على وجهه: «جن جنونهم يا أبا عبد الله، الآن عليك أن تصمد، إياك ثم إياك أن تستسلم» هز رأسه، قال «صعب، الرجال لا يستسلمون»، قالوا: «ماذا تقول أيها الخرفان؟؟» مسح الدم، نظر إلى كل واحد منهم من خلال الغبش الأحمر، كانوا غرباء في كل شيء، الوجوه، الملامح، الحركات، الكلمات، الخطوات، طريقة البحث، صاح أحدهم بسخرية: «والآن هل ستقول أين هو؟؟» كان الدم يسيل من عينه اليمنى، وكان الألم يتفجر من كل مكان في جسده، قال: «لن أقول، ولن تعرفوا»!! دفعة واحدة انهالوا عليه بأعقاب البنادق، أرادوا أن يكسروا كل قطعة من جسمه، صارت دوائر الدم تزداد اتساعاً، قال ببرود: «الآن سأقول لكم..!!» توقفوا عن ضربه، تحولوا إلى آذان مصغية، فرد سنواته الثمانين، ضحك، أغمض عينيه، بقي واقفاً، رغم موته الغريب العجيب، بقي واقفاً مثل شجرة رائعة العطاء.
واقرأ أيضاً:
النهر / الغضب / امرأة تسرج صهوة الروح / غزل من نوع خاص / الذي / سنةُ مضتْ / أبو الريش.. وحالة ضياع / عيد بحجمكَ يا وطن / يا أهل غزة / شكراً يا بوش