اللعب فى الحدائق العامة
يخشى المصريون أن يتورطوا في الاستمتاع بالحياة، فالحياة بالنسبة لهم ليست سوى مرادف لأكل العيش وتربية الأبناء والوصول إلى سن المعاش مصحوبا بالستر، ولهذا فهم يتجاهلون أو يجهلون فكرة "الخروج/الفسح" يرونها رفاهية لا تناسب طبيعة حياتهم.
يحدد المصريون أماكن ومواعيد ثابتة للفسح لا تخرج عن أسبوع في المصيف الإجازة الرسمية السنوية والتي تعتبر كفيلة بسد ظمئهم لمتعة الفسح طيلة عام كامل، يكسرها على مضض سفر إلى الريف في الأعياد الرسمية فيما تظل الإجازة الأسبوعية حكرا على الحفاظ على لم شمل الأسرة أمام التلفزيون، زاد من قوة ارتباط الجمعة بالعائلة.
الأحداث اليومية المتتابعة على مدار الثلاثة أعوام الماضية التي حولت يوم الجمعة –الإجازة الأسبوعية- يوما للتظاهر تخلو فيه شوارع المدن الكبرى وكأن القاهرة فقدت أهم ملامحها "الزحمة".
مسلمة أن الفسحة أمر طارئ وليست جزءً من الحياة جعل الأمر يتحول إلى معضلة حقيقية لدى المصريين، فأصبحت جملة "يالا نخرج" بابا للحيرة يفتح على سؤال يبدو أنه بلا إجابة "هنروح فين" فالمصريون لم يعرفوا أبعد من "جنينة الحيوانات" و"الهرم"كأماكن رسمية للفسحة، وعليه فإن الجلوس في البيت يبدو خيارا أفضل مما هو متاح.
ولهذا فإن كسر المسلمة بالنسبة لمجتمع لا يهوى تغيير مسلماته أو الحديث عنها، يبدو أمرا مستغربا وربما منتقدا، لهؤلاء من اكتشفوا متعة الفسح والاستمتاع بالإجازات عبر ممارسة أنشطة مختلفة في أماكن جديدة وتمردوا على أعراف المجتمع فجعلوا من متعة الفسح جزءً لا يتجزأ من حياتهم.
يستند النقد الموجه لهم على كونهم أصحاب حياوات فارغة من مهام الحياة المقدسة، أو كونهم مجرد عابثين لا هدف لهم في الحياة سوى تضييع الوقت والمال الذي يكسبونه دون جهد كبير بالتأكيد!!
ربما لهذا لم يتعاطف معظم أفراد هذا المجتمع المناهض للمتعة، مع الشباب التائه في جبال سانت كاترين - الحادثة التي وقعت فبراير الماضي والتي توفى فيها 4 من الشباب – بالنسبة لهم كان سبب ذهابهم إلى هناك غير منطقي ولا مقبول فهم ذهبوا للفسحة! يقصدون المتعة ولا شيء سوى ذلك!! والمتعة لا تقصد في حد ذاتها في مصر. وربما كان الأقرب إلى تصورهم أن متعة ما "محرمة" هي الأكثر إغراء بالقيام بمثل هذه الرحلة الصعبة في الظروف المناخية الصعبة، فتقبلوا ما أشاعته عنهم أجهزة الإعلام لأسباب سياسية حول كونهم شباب وفتيات يقضون أياما سويا دون رقيب في مكان مقطوع!!
يبدو أن المصريين لا يؤمنون سوى بالمتع المادية مثل: الأكل والجنس والمال، لكن متعة غير ملموسة كالاستمتاع بجمال الطبيعة الخلابة في جبال سانت كاترين، أو حضور حفلة موسيقية، أو الذهاب في رحلة سيرا على الأقدام في أحد الأماكن التاريخية، أو الذهاب إلى نادي للرقص، أو حتى ممارسة رياضة مثل ركوب الدراجات لا تبدو مغرية للحد الذي يجعلهم ينفقون في مقابلها مالا أو وقتا يفضلون تقضيته في اللاشيء.
فالفسحة في مصر التي لا تتضمن في برنامجها حلة محشي لا معنى لها، ربما لهذا حظيت حديقة الأزهر التي افتتحت من عشر سنوات تقريبا بإقبال جماهيري متزايد خاصة مع تخلي إدارة الحديقة عن شرط عدم دخول مأكولات في أوانٍ معدنية، لم تقوَ الإدارة التي قدمت مكانا مميزا في نقطة عالية من القاهرة بخضرة وفيرة ومياه بأشكال متعددة من أن تفرض قيمة المتعة البصرية البحتة على المصريين، وخضعت لمنطقهم المادي، فتحولت الأزهر إلى بديل مناسب لجنينة الحيوانات.
بنظرة سريعة على موقع كايرو 360 والذي يقدم دليلا للفسح في القاهرة الكبرى، تجد أن أكثر الأقسام زخما هي الأقسام الخاصة بالمطاعم والكافيهات، فيما تفتقر الأقسام الأخرى التي تحوي ترشيحات لأماكن ثقافية أو لأفلام إلى مثل ذلك الزخم والمتابعة، في حين لا يوجد قسم للمسرح مثلا.
ربما لا يحتاج تقدير حجم إقبال المصريين على فسح "الحفلات والأفلام والمسارح" إلى الاستعانة بمثل هذه مواقع يكفي النظر إلى حجم الإنتاج في هذه القطاعات والتي تعد مؤشرا شديد الوضوح على اتجاهات المصريين نحو المتع وطبيعتها وسلوكهم تجاهها، من المعروف أن المسرح لم يعد له جمهور منذ سنوات طويلة جعلت المغامرة بإنتاج عرض مسرحي بعيدا عن مسارح الدولة تعتبر مقامرة، وأن السينما لا تحقق إيرادات إلا في مواسم الأعياد حيث يقصدها الشباب للترفيه عن أنفسهم فيما يعرفه المصريون بـ"خروجة العيد" مما دفع السينيمائيون إلى تحديد خططهم الإنتاجية وعينهم على "العيدية".
من الممكن تفهُّم الأسباب التي جعلت من المصريين شعبا لا يرى الحياة سوى في صورتها المادية ولا يقدر المتعة، ولا يجد معنى للإجازة سوى في الاستلقاء أمام التلفزيون، أسباب ترجع إلى الحالة الاقتصادية بالأساس، والمناخ الثقافي والاجتماعي الذي انقلب على رأسه فلم يعد مشجعا على ممارسة الحياة إلا في نطاقها الضيق الخاضع للضرورة فقط، لا يمكن تجاهل الأوضاع السياسية ورغبة الحكومة في جعل المواطن يدور في ساقية دون أن يلتفت حوله عما ينقصه حقا، وربما يبدو كلامي عن المتعة في مدن تمتليء شوارعها بالزبالة وجوها لا يخلو من التراب، وزحامها لا يخضع لمنطق، بعيدا عن الواقع، لكنه ليس كذلك، بل شديد الصلة بالواقع الذي قد تغيره فسحة في ليلة خميس!
واقرأ أيضا:
لعبة ممتعة لتعلم ابنك نقد أفلام الكرتون/ متعة أن تكون دارسا للطب/ على باب الله خدعوك فقالوا أجازة/ نجعل العيد سعيدا/ تهنئة بالعيد/ فرح ذات ليلة - ليلة العيد