ثلاث ظواهر باتت تحتل مساحة لا بأس بها من الأخبار اليومية والاهتمامات الإعلامية والحوارات البينية في مصر بعد الانقلاب، ويبدو أنها في تزايد مستمر مع مرور الوقت، وهي الانتحار والإلحاد والعنف.
تعزى حالات الانتحار عادة بشكل تلقائي إلى الضائقة الاقتصادية ومفرداتها، من خط الفقر إلى البطالة إلى تدني الأجور، بيد أن نظرة فاحصة ستظهر أن أسباب الانتحار -خاصة المحاولات التي تفضي إلى الموت- بعيدة نوعًا ما عن التقيد بالأسباب المالية والاقتصادية.
وإلا فما الذي يفسر تصدر ليتوانيا للقائمة العالمية لنسب الانتحار، وأن تكون سلوفينيا ولاتفيا واليابان ضمن الدول العشر الأوائل في نفس القائمة، التي تعتمد فيها أرقام منظمة الصحة العالمية؟!
إن السبب الرئيس لهذه الظاهرة هو فقدان الأمل، بغض النظر أكان صادرًا عن “كفاية” اقتصادية وغياب “التحدي” كما هو منتشر في بعض دول الشمال الغنية، أم عن انسداد الأفق وغياب الفرص كما في العالم الثالث، ومن ضمنه أغلب دولنا العربية.
وفي غياب أي أرقام أو معطيات محددة تمكننا من دراسة وتحليل ملف الإلحاد في مصر بعد الانقلاب، وهل يمكن اعتبارها “ظاهرة” أم مجرد “حالات” فردية متفرقة ومبالغ بها، إلا أنه يمكننا تفسير الأمر -كحالات أو كظاهرة- من خلال الأحداث السياسية التي تمر بها البلاد.
تشرح لنا بعض الأبحاث التاريخية ودراسات علم الاجتماع كيف أن انسداد الآفاق وانعدام الآمال -أمام الشباب تحديدًا- في ظل جو من الظلم الشديد والاضطهاد الكبير يؤدي بالأفراد إلى أحد خيارات ثلاثة:
الأول: ردة الفعل العنيفة على هذا الواقع الأليم، وله من الشواهد عبر التاريخ ما يزيد عن مساحة المقال المتاحة.
الثاني: الانسحاب من الحياة الاجتماعية والشأن العام، عبر عدة أساليب يمكن إطلاق اصطلاح “الانتحار الاجتماعي” عليها، ومنها الشطحات الصوفية أو الإلحاد أو العبثية… إلخ.
الثالث: الصمود واستخلاص الدروس والعمل على تغيير الأحوال، والتي ينتهجها قلة فقط في غالب الأحيان، لما تحتاجه من عزيمة وفهم وعمل دؤوب، وتضحيات كبيرة.
وهكذا نلاحظ أنَّ ثمة رد فعل مادي/ محسوس وآخر نفسي/ مجرد، الأول اندفاعي فاعل والثاني انسحابي سلبي، يمكن رؤيتهما على أرض الواقع، ويشكلان في كثير من الأحيان الظاهرة الأعم في الشارع إزاء الأحداث المماثلة، تبعًا لمستوى قسوة الواقع وسوداوية النظرة.
ولسنا نقول هنا إن السبب الوحيد لاتجاه الشباب للعنف وحمل السلاح من جهة وانكفاء البعض الآخر أو إلحاده من جهة أخرى هو الظلم الواقع عليهم أو فرط تشاؤمهم، فالظواهر الاجتماعية والتاريخية والنفسية أبعد ما تكون عن التبسيط ووحدانية التفسير ضمن إطار علاقة السبب- النتيجة، لكن وطأة الظروف الضاغطة تشكل الصاعق الذي يشعل فتيل هذه الظواهر ويذكي لهيبها، إذ تشكل بديلاً عما كان يرغب الشباب في إنجازه ابتداءً.
إن تراجع ظاهرة الجماعات الأصولية المسلحة بعيد البشائر الأولى للثورات العربية التي تقدمتها جماعات الإسلام السياسي “المعتدل” إلى درجة أن الكثيرين وصلوا باستعجالهم واعتسافهم حركة التاريخ بأن بشروا بانقراضها، ثم عودتها أكثر انتشارًا وعنفًا بعد خبوتها أمام الثورة المضادة لمشهد يستحق التأمل.
كما لا يجب إغفال السياسات الممعنة في “دفع” الشباب لهذا الخيار، عبر سد كل الطرق السلمية لتداول السلطة والتعبير عن الرأي والإيغال في الظلم والفساد والاستعلاء: إن المشهد ليوحي بأنهم “يريدون” من الشباب حمل السلاح، ليس فقط لأنه يبرر لهم -أمام جمهورهم وأمام العالم- الاستمرار في البطش والظلم، ولكن أيضًا لاستفادتهم من الحالة الأمنية والعسكرية المضطربة.
ولنا في مختلف دول العالم أمثلة عديدة عن قيادات عسكرية وأمنية كانت حريصة على تقوية وتسليح مجموعات مناهضة للنظام، لاستدامة تدخلها وسيطرتها على المشهد وللاستفادة من صفقات السلاح، ليس آخرها ارتباط بعض جنرالات الجيش التركي مع حزب العمال الكردستاني.
كما يمكن -بنفس المنهجية- تلمس الأسئلة المشككة والحيرة العميقة التي عرضت لطيفٍ لا بأس به من الشباب إثر تراجع “المشروع الإسلامي” وهزيمته الحالية أمام الثورة المضادة، بعد أن اطمأنت نفوسهم إلى أن الدرب الطويلة قد وصلت إلى نهايتها مع الربيع العربي، وفي ذلك أيضًا معنى نفسي كبير، يؤكد على تضاعف وقع الصدمات السلبي حين تخلف آمالاً عريضة.
ولئن كنا نقرر أن موجات الثورة المضادة العاتية، وخاصة الانقلاب في مصر، كان لها أثر بالغ في هذه الثلاثية، ورغم أن الغوص في أعماق الظواهر الثلاث وتحليلها والتعقيب عليها أبعد من مجال هذا المقال، إلا أننا يجب أن نشير إلا أن التيارات الإسلامية تتحمل جزءًا لا بأس به من المسؤولية عن هذه الثلاثية، إذ هي ساهمت في ترسيخ معنى “انتصار الإسلام” وهزيمته بدلاً من تقدم أحد تياراته وتراجعها.
وتعميم التجربة السياسية على كل المشروع الإسلامي ككل، بحيث أصبح التراجع السياسي فشلاً تامًا للمشروع ثم الإسلام ككل، قاصدة أم غير قاصدة بالتصريح أو التلميح أو التقرير الضمني.
وعليه، فإن المسؤولية الواقعة على عاتق التيارات الإسلامية في مواجهة هذه الظواهر (خاصة الانتحار والإلحاد) كبيرة جدًّا ومعقدة، باعتبار أن الظواهر المركبة تحتاج إلى حلول مركبة، على رأسها تفكيك بعض الأفكار التي تطابق بين الفكرة والشخص والمشروع أو بين الدين والجماعة والتجربة السياسية، وفي مقدمة ذلك الابتعاد عن مفردات الحرب الصفرية والمواقف الحدية مثل “الحرب على الإسلام” أمام كل موقف وبين يدي كل تطور، وشغل الشباب بالعمل لا الجدل من خلال مشاريع عملية وواقعية، وتقديم الأجوبة الشافية على التساؤلات الصعبة بدل التهرب منها.
يضاف إلى ذلك أهمية ومحورية بث الأمل والتفاؤل العملي قبل اللفظي والنظري في صفوف الشباب. ولا أجد بين الوسائل المساعدة على ذلك أنجع من تحقيق الإنجازات -ولو البسيطة والمتراكمة- التي تفتح آفاق الأمل وتشحذ الهمم للفعل لا لرد الفعل، ولا للانكفاء أو الانتحار المادي والاجتماعي.
واقرأ أيصاً:
على باب الله: انتحار جماعي / الانتحار بين المرض والاختيار : الجزء الثاني/ اغتراب الشباب / الشباب.. لماذا يلحدون وكيف يعودون؟