المقامة الرابعة:
حدثنا يحيى بن حيان وقال: "إذا جاءت الأقدار عميت الأبصار", واستمعوا إلى قصة نصر بن سيار مع بني أمية ومنتهى المصار.
كان نصر بن سيار عامل مروان آخر خلفاء بني أمية على خراسان, وقد ظهرت الدعوة العباسية بقيادة أبو مسلم الخراساني وتنامت.
فأخذ نصر بن سيار يكاتب مروان ويكشف له عن أصحاب الدعوة العباسية, ويدعو لحسم الأمر بالقوة, وقد كتب رسائله الشعرية المحذرة فهو يقول:
"أرى بين الرماد وميض نارٍ
ويوشك أن يكون لها ضرامُ
...أقول من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أميّةُ أم نيامُ
ففِري عن رحالك ثم قولي
على الإسلامِ والعربِ السلامُ"
وقد وصف القائمين على الدعوة بقوله:
"مَن كان يسألني عن دينهم
فإنّ دينهم أن يهلك العربُ
قومٌ يقولون قولا ما سمعتُ به
عن النبي ولا جاءت به الكتبُ"
وما سمعه أحد, وتواصل مع عامل مروان على العراق مستنجدا, ولا جواب, فخرج من خراسان وكتب لمروان :
"...... كنا نرقبها وقد مُزّقت
واتسع الخرق على الراقع
كالثوب إذا أنهجَ فيه البِلى
أعيا على ذي الحيلةِ الصانعِ"
وتلك حكاية إنهيار إمبراطورية بسرعة متواترة, وبروز أخرى على أشلائها متظافرة, ونحو إبادتها متنافرة, وكانت القوة بيد المهزوم حاضرة, لكنها الغفلة وموت الحذر وفوز القدر.
وأذكركم بهذه الآية "إذا قضى أمرا فإنما يقولُ له كن فيكون" البقرة: 117
وبقول أمية بن أبي الصلت:
"تجري الأمور على وفق القضاء وفي
طيَّ الحوادث محبوب ومكروهُ
فربما سرّني ما كنت أحذرهُ
وربما ساءني ما كنت أرجوهُ"
وهكذا فإذا حلّ القدر عمي البصر, ولو حذّرت كما حذّر نصر بن سيار ألف مرة ومرة.
وتلك حكاية الخلق في الدنيا, وتلك الأيام نداولها بين الناس, ويوم لك ويوم عليك, ولا ينفع التنبيه من الخطر.
ففي الأمم نابهون وعارفون ومتيقظون ومستشرفون, لكن القوة العمياء تنال مصيرها, وتهلك وتُهلك بما فيها من نوازع فناء وانتهاء.
والأمم تدوس على موسوعات علومها وحِكَمِها وقوانين وجودها الأصيل فينالها السوء بما كسبت يداها!!
ويتبع >>>>: مقامات الأربعاء (5)