بين التوهم والمرض .. هل من علاج؟
مرحباً.. أنا صاحبة الاستشارة رقم (14644) بعنوان "بين التوهم والمرض .. هل من علاج؟"
في البداية أود شكر إدارة الموقع جزيل الشكر على الخدمات التي تقدمونها، لا تعلمون كم أفادتني إجابة أ. حسن خالدي وكم ساعدتني خلال الشهور الماضية، فشكراً لكم.
وكم أتمنى أن يجيب أ. حسن خالدي عن هذه الاستشارة أيضاً إن أمكن........
بعد كتابتي لاستشارتي السابقة وإرسالها شعرت بارتياح كبير، فقد كانت المرة الأولى التي أقوم فيها بكتابة كل هذه التفاصيل وتفريغها، شعوري بالراحة دفعني للعودة إلى مقاعد الدراسة قبل صدور ردكم. ولكن كما قال أ. خالدي " فكل خطوة نريد الإقدام عليها متناسين العائق النفسي والمرض النفسي هي مجرّد إحباط سيظهر عاجلاً أم آجلاً نصنعه بأيدينا، إذ نفترض أننا يمكن أن نتجاوز الحالة لأنها مجرد حالة عابرة وتحتاج الوقت فقط وقليلا من العزيمة !" فما إن مرت بضع أسابيع حتى عدت لحالتي الأولى من العزلة و العزوف عن الخروج من البيت.
بعد قراءتي لردكم كانت التشخيصات المقترحة تبدو تفسيراً منطقياً جداً، عسر المزاج و الاكتئاب المضاعف والقلق والرهاب والأهم هو اضطراب الشخصية القسرية، وإجابة لسؤالكم عما إذا كانت الأفعال القهرية دائمة أم في فترات الاكتئاب فهي كانت غير دائمة وإنما تزداد في الفترات التي تزداد فيها الضغوط كفترات اندلاع الحروب في مدينتنا أو وجود مشاكل عائلية أو كوني لم أنم جيداً في تلك الفترة، ولكنني في نفس الوقت لا أنفي أنني شخص يقظ، مدقق لما يحدث حوله حريص على تفادي وقوع أي أحداث سيئة.
عموماً، خلال عزلتي ومحاولاتي البائسة في العودة للعالم الخارجي، كنت دائما أتذكر جملة " فمجموع اضطراباتك ومشاكلك النفسية تتجاوز طاقتك التسييرية لها ولا بد من معين وموجّه " لهذا قمت بحجز موعد مع أخصائي نفسي "Clinical Psychologist"بعد تردد كبير.
في زيارتي الأولى لم يسألني سوى "ماذا أتى بك هنا؟" ولم أعرف هل ألخص له أعراضي أو أخبره بالتشخيصات التي توصلت إليها؟ سألته أيهما أفضل فرد بأن أجيب بالطريقة التي تريحني، فأخبرته بمعاناتي الدراسية باقتضاب وبالتشخيصات المقترحة هنا، و بأنني أظن أنني في حاجة إلى علاج معرفي سلوكي، أخبرني أنه ليس شرطاً أن يكون علاجاً معرفياً سلوكياً وحالتي ربما يناسبها العلاج العقلاني الانفعالي السلوكي "REBT" وبأنه يرى أن اضطراب الشخصية ونظرتي للحياة و الأمور هي ما يجعلني "أظن" أنني أعاني من اكتئاب أو قلق وما شابه، وأن الحزن ليس شعوراً سيئاً فهناك من يستمتع بالحزن و يميل إليه، المهم ألا يكون الحزن مكبلاً له مقيداً لحياته.عندما أخبرته على استحياء بفكرة ترك مجال الطب شدد على أن تكون الخطوة العودة إلى نفس المجال.
شعرت بأنه لم يصدق ما قلته له و بأنني لم أفلح في إيصال المعلومات له وبأنه يفرض رأيه فرضاً؟ في نهاية الجلسة اتفقنا أن تكون الخطوة الأولى هي العودة لمقاعد الدراسة وغادرت وأنا في حالة اضطراب و قلق واضح وما أن خرجت من الغرفة حتى بدأت دموعي تنهمر انهاراً.
وخلال الجلسات التالية كنت دائماً أشعر بأنني أحاول إقناعه بمدى سوء حالتي، بينما هو يقلل من شدتها ويرفض وصفها بأمراض أو اضطراب، فها أنا ذا أبتسم وأتحدث جيداً، فكل ما احتاجه في نظره هو "مهارات" و "تغيير عادات" ولكنه في ذات الوقت أقترح عرض نفسي على طبيب نفسي (Psychiatrist) لأجل العلاج الدوائي في الجلسة الثانية فقط؟
كما أشعر بأنني إذا لم أجهز نقاطاً أو محاور لنتحدث عنها فإن الجلسة تضيع هباءً، لأنني إذا لم أتكلم أو التزمت الصمت فإنه لا يقوم بسؤالي أسئلة مغلقة وإنما يكتفي بجملة "حدثيني عما يدور بخلدك؟"وإذا لم أجد رداً فان الجلسة تتحول إلى محاضرة توعية إرشادية عن "إيجاد الشغف" و "أهمية الإرادة" و "التفكير الايجابي و التفاؤل" و "كل الناس يعانون" و"بر الوالدين" و " إمكانية الشفاء"، وكثيراً ما يستدل بقصص من الصحابة و الصالحين أو تجاربه الشخصية أو تجارب أقاربه ومعارفه مما يشعرني بنوع من الضيق؟!
لا أعلم ما إذا كان ما نقوم به هو علاج ذو أسس أم هو مجرد تبادل للأحاديث، الجلسات جعلتني أعود إلى صراع "توهم المرض" و شعوري بأنني ربما "ألعب دور الضحية" وفي أحيان أخرى "تفاهة مشاكلي و تضخيمي لها" و كثيراً ما فكرت في التوقف عن الذهاب إليه و لكنني كنت أتذكر رد حضرتكم واعلم في داخلي أنني في حاجة إلى المساعدة المتخصصة.
لم أتحسن كثيراً على صعيد الدراسة و الالتزام بالحضور و المواظبة و لا الناحية الدينية، كما تحسنت في جوانب أخرى كالخروج من البيت و الزيارات الاجتماعية، أحاول الالتزام بالرياضة و الصلاة و النوم المنتظم، قمت بالتطوع في مؤسسة خيرية ولكنني لم ابدأ العمل بعد كما عدت لممارسة إحدى هواياتي، درجة الاكتئاب والقلق متوسطة ولكن سيل الأفكار والتفكير المستمر أتعبني ولا أفكار انتحارية حالياً. ولكني في الحقيقة لا أعزو التحسن إلى الجلسات وإنما هو تحسن كالذي حدث في السابق عشرات المرات وتلته انتكاسات عدة!!
في آخر جلسة أخبرني أنه يمد يده رغبة في مساعدتي ولكنه لا يستطيع مساعدة من لا يريد مد يه ومساعدة نفسه، ولا ادري ما العمل حقاً.. اشعر بالعجز الشديد.
أشعر أن ذهابي للأخصائي زاد الطين بله، و مازلت أدور في نفس الحلقات المفرغة من العزلة ثم الخروج مع شعوري بالفشل، فشل آخر يُضم إلى قائمة فشلي.
إليكم استفساراتي:-
- كيف أعلم ما إذا كان من الأفضل الاستمرار مع نفس الأخصائي أو التغيير لآخر؟ وكم عدد الجلسات الكافية لاتخاذ هذا القرار؟
- كيف أستطيع تحسين تواصلي مع الأخصائي وإيصال أفكاري ومعلوماتي إليه بشكل أكثر فاعلية؟ وكيف أساعده على مساعدتي؟
- كيف يمكنني أن أكون أقل حذراً و أكثر صراحة و لم لا استطيع الوثوق فيه وكثيراً ما أشكك في كلماته وآراءه؟
- هل من اللائق أن يذكر الأخصائي تجارب مرضاه الآخرين لي و التحدث عن تجاربه الشخصية وتجارب زملاءه و أصدقائه وأقاربه؟ وهل حديثه عنهم أحد أسباب عدم ثقتي الكاملة به؟
- لم تكون بعض الجلسات مفيدة وغنية بالنقاشات وفي أخرى أشعر بالتهجم من قبله؟ ولم أتجه للتوقف عن الحديث و الصمت في بعض الجلسات؟
- هل تقليله من شأن "مشاكلي" هو وسيلته العلاجية؟
- فكرت في طباعة استشارتي السابقة وعرضها على الأخصائي ولكنني لازلت مترددة؟ هل تنصحون بهذه الخطوة وهل ترون أن جميع التفاصيل المذكورة فيها مهمة؟
- وأخيراً، كيف أفصل بين ما إذا كانت أرائي واستفساراتي السابقة ناجمة عن تفكيري الوسواسي المرضي وبين ما إذا كانت أراء وتساؤلات منطقية ولها أساس من الصحة؟
وشكراً، حاولت الاختصار بقدر الإمكان.
6/9/2018
رد المستشار
السلام عليكم وأهلاً بك مجدداً أختي "عُلا" بعد 9 أشهر تقريبا من أول استشارة لك.
اضطررت لإعادة قراءة رسالتك الأولى لأنظّم الأفكار مجدداً، ولا أدري هل أكون سعيداً بصحّة توقعي من معاودة الحالة أو أكون تعيساً لكوْن التخلّص منها شيئاً أصعب مما يظنّ الناس.
لاحظتُ أنّ يقظتك ودقّتك (التي سأعود إليها لاحقاً) هي ما جعلتك تضعين باحترافية ودقة رقم الاستشارة في الأول، لا عنوانها كما يفعل الأكثرية، هذا لأقول لك أنّ سماتنا مهما كانت مزعجة فلها جانب إيجابيّ. بل إنّ ما نتغنّى به من قصص العباقرة والعلماء والمخترعين والكُتاب، ما هو إلا ذلك الجانب المشرق من معاناتهم النفسية، التي نحتفظ منها فقط بما نحب أن نَملكه، وننسى أن العبقرية قد تكون تجسّدا لمعاناة معيّنة، وأنّ الإبداع يكون وليد الألم.
بمعنى أنّ وسوستك وسماتك القسرية تعطيك أسلحة لن تكون لغيرك حتى لو أراد الحصول عليها، فهي طريقة تفكير، هي ميكانيزمات التفكير نفسها التي تختلف. قد يعتقد البعض أن هذه الملاحظة غير مهمّة، لكنّها في غاية الخطورة، لأنّ الإنسان ينشأ في مثاليات (ذاتية واجتماعية) تُصوّر له النجاح والإنجازات كعُملة ذات وجه واحد ! في حين أنّ النجاح ذو أشكال مختلفة، يحضر شكل منه برحيل الآخر، ولا نكتسب خبرة كافية لتمحيص ودحض هذا التصور إلا بتأملات وتجاربَ حياتيّة وقراءات في سيَر المشاهير، فتتكسّر المثاليات بصعوبة بعد أن كسّرت نفوسنا الهشّة !
بالنسبة للمختصّ الذي ذهبتِ إليه، لا بد أنْ أعلّق على بعض النقاط التي ذكرتِ. وسيكون هذا مقترنا بأسئلتك الأخيرة بشكل أو آخر، خصوصاً سؤالك الأوّل.
يبدو بأنّ هذا المختص، الذي أكنّ له احترامي، لديه نوْع من "الصرامة الأخلاقية" rigidité morale فهو لا يتقبّل أن تكوني ضعيفة ولا يقبل الشكوى منك (فكل الناس يعانون كما يقول !) ويخبرك عن الشغف والإرادة والعزيمة، ويفرض عليك رأيه وكأنّه يحاول أن يضع قناعاته وأحاسيسه ورؤيتَه مكان قناعاتك وأحاسيسك بهذه السهولة، ويُحبّ أن يرَى "كل شيء تمام وفي مكانه الصحيح".
وربما أهمّ مؤشّر لتلك "الصرامة" هي استدلاله بأخبار الصحابة والصالحين (يعني المجتهدون من الناس الأسوياء)، وإسقاطها على وضعك، ومعلوم أنّ حال الأسوياء مختلف عن غيرهم، وحتى إن سلّمنا أنّ من يستدل بهم تجاوزوا مشاكل معيّنة بسهولة فلا يعني أنّ ما تعانين منه مجرد "دلال" أو أنّهم لا يعانون من ضعف وانهزام في مشاكل غير التي يحلو لنا الاستدلال بها ! ومحاولته إرجاع الأمور والأحداث لنظام مثالي يسير دون مشاكل وتناقضات هي ما جعلك تشعرين بالتهجّم (في سؤالك الخامس) في حين تحتاجين للتفهّم. ومحاولته التقليل من معاناتك (سؤالك 6) تبدو (في نظري) نابعة من امتعاضه الداخليّ على عدم "توافقك مع ما يجب أن يكون" في نظره.
فهل هي وسيلة علاجية ؟ نعم، لكنها ذات تأثير عكسي معك ! وهذا يؤدّي بنا إلى سؤالك 3 و4، ولم لا تستطيعين أن تثقي فيه وتصارحيه، فهو لم يحترم معاناتك في نظرك، واستخفّ بها إلى حدّ أنّه شكّكك في قدرته على مسايرتها وإخراجك من براثنها، وكأنّه يقول لك بطريقة "أبويّة": "أنت لا تعانين من شيء، هو مجرد دلال منك ومبالغة" ("ها أنت تبتسمين وتتحدثين جيدا" ومتى كانت الابتسامة والتحدث جيدا من علامات السلامة من القلق والاكتئاب؟ !).
وواضح أنّ هذا الأسلوب لن يقبل به مُقْدِم على مُختصّ وهو يسمعه كل حياته ! إضافة إلى أنّك أقدمت على خطوة العلاج مع توجّسات كثيرة ومخاوف عديدة، متعلقة بسمعتك كطبيبة وكشخص في مدينتك الصغيرة، واحتمالية إفشاء سرّك فيما بعد... نعم هذا أحد أسباب عدم ثقتك به، خصوصا أنّك تعتبرين حديثه عن مرضاه وزبنائه شيئا غير "مهنيّ ولا أخلاقيّ"، مع أنّه أمر عاديّ، ولولا ذلك لما سمعت قصص الطب النفسي وعلم النفس، طبعا مع إخفاء المعلومات الشخصية وعدم الإشارة إلى مكان السكنى أو السن أو أي شيء يُحتمل معرفتُه به، مع بقاء احتمالية أن يتعرّف أحد على المرضى ضعيفة جدا، لكن هذا الاحتمال يقل إن كان المختص النفسي يمارس في قرية أو مدينة صغيرة.
وعودة على سؤالك الأول عن مناسبتِه لك، غيّريه إن كان في نطاق مدينتك وسافري لمكان قريب لتلقي العلاج، وإن كان أسلوبه لا يُعجبك ويفترض تحسّنَك بشكل أسهل مما تُطيقين فصعب جدا أن تثقي فيه وتمضي معه في رحلتك العلاجيّة.
نأتي للجانب الخاص بك، بخصوص انهيارك باكية عند الخروج، وإحساسك بالفشل في إيصال المعلومة إليه، أرى أنّك تصفين كل شيء بالفشل لمجرّد أنّك تعجزين عن "التحكّم" في الأوضاع.
(ولهذا علاقة بشخصيتك القلقة) فأنت كنت تتخيلين أنه بدخولك عند المختصّ ستدخلين عالَما تُمسك فيه كرة الصّوف الخاصة بك، وخيوطها المتشابكة ثم تخرج بقدرة قادر لتنتظم بشكل سلس وتخرجين وقد حللت كل العقد !؟ بمجرّد أنّك وجدت من لا يفهمك اتهمت نفسك بالفشل في إيصال المعلومة، وشعرتِ بالضّياع واللاجدوى: "ها هو المختص النفسي الذي حدّثونا أنه يحل كل المشاكل النفسية، لم يقدّم ليَ جديدا !" من الأوّل تحقّقتْ أو حقّقتِ نبوءة التوجّس والفشل وانعدام الثقة فيه، ولم تُعط نفسك فرصة ولا له، مع أنّ غموض الكائن البشريّ وعوالمه ممّا نتعايش معه منذ قرون وحضارات وهو منّا ونحن منه. فلا لوم عليه إن شعر أنّه يمدّ يدَه لشخص يتهرّب !
هذه رحلة علاجية تتجاوز كلّ تلك التحرّزات التي نضعُها، وقد تكون مؤلمة جدا مثلها مثل أي علاج طبي، فما إن تخافي من إبرة أو جراحة أو ينقُصك العزم لإكمال الطريق إلى آخرها.. ستفوّتين عليك مواجهة المشكل وإيجاد الحلّ.
أما عن توهّم المرض (الذي هو عنوان استشارتك ) ولعب دور الضحيّة، لا أريد أن أدخل في موضوع صعب المراس مثل "السببية والارتباط" بخصوص ما قاله المختص عن أنّ حالتك هي سلوكات ومهارات منعدمة تؤدي بك لتوهّم الاكتئاب،
أو أنّ الاكتئاب هو ما يؤدّي بك إلى تلك السلوكات ويمنعك من اكتساب مهارات يستدمجُها الناس بشكل تلقائيّ أو يطبقونها بعناء أقل متى اكتشفوها ! قد أتحدّث عن دور الضحيّة، فكلّنا حقيقة قد نلعبه بشكل أو آخر، إلاّ أن لعب ذلك الدور يختلف من شخص لآخر، كلّنا نحبّ أن نجترّ الآلام حتى لا ننسى معاناتنا ولنثمّن تجاربنا، ونعطي الأعذار لأنفسنا وللناس حتى يعذرونا، لكن لا نرضى أن نرى ذلك الدّور الذي نلعبه إلا من الخارج، من بعيد، لا نريد أن نبقى فيه كل حياتنا ونسعى لمحاربته، وفي تلك المحاربة والمكابدة قد ألعب دور الضحية وأشتكي. وهذا يبقى صحيّا جدا،
لأنّ فيه اعترافا بالبشرية وحقيقة الحياة، لكن من الناس من يلعب دور الضحية ليكون دائما ضحيّة فعلا، يريد أن يشاهد نفسه من داخل الدور نفسِه يخاف أن يفقد مميّزات إن هو حلّ مشكلات أو تجاوزَها، فيكون ضحيّة إذا عاش الدّور وليس إذا وصَفَه فقط كما الصّنف الأوّل. فتأملي أيّ الصّنفين أنت. وحتى مع وجود ذلك التلذّذ بوصف المواقف بسلبية مثلا، وبقائك منعزلة متألّمة، لا يُمكن الجزم بسهولة والتفريق بين لذة من يلعب دور الضحية حقا (مثل متلازمة Münchhausen)،
وبين من يجد أن تغيير نمط تفكيره وإدراكه أكثر صعوبة وقهرا من مجرد الاستسلام لأساليبه القديمة في الإدراك والتصرّف، فتكون اللذة في الحقيقة عنده عبارة عن شيء أقلّ مرارة فقطْ بين خيارين كلاهُما مرّ وأحدُهما أقلّ تكلفة، وليس لذة خالصة يبحث عنها. بمعنى آخر ما هو إلا ميل لاختيار الأقل ضررا فيما هو متاح لك.
توهم المرض للسليم خطير وفيه تًصنّف أمراض طبنفسية كثيرة (مثل المذكور آنفا و Malingering) لكن توهّم العافية للمريض يشكل خطرا أيضا على الوعي بالمشكل ومعقولية أساليب التدخّل ونجاعتِها فيستمر في مرضه، مع بقاء توّهمه أنه معافى يتجاذبه الصراع وهل يعذر نفسه أم يحاكمُها، هل يتعامل معها على أساس أنها قادرة أم عاجزة.. والفيصل هنا هو كيف هي حالُه! بمعنى أن توهّم المرض لا يكون مُضرّا إلا إن أثّر على حال المريض، مثل حالة hypochondrie التي قد تنقلب إلى أعراض حقيقية. وأنّ توهّم العافية، سيؤثر على الفرد حتى ينسى (أو لا يلاحظ مرضَه) إلى أن يصل إلى ساعة الصفر، كأصحاب سرطان الرئة يدخنون ولا يشكون لحظة حتى يسقط سقطة واحدة. فماذا عن الذي يقول لنفسه "أتوهم المرض وأبالغ" ثم كل مرة يرتطم بحقيقة أنّه "عاجز" ! حتى لو أقنع نفسه وأقنع أنّه "مجرّد متوهّم" فيُقدم ولا نتيجة.
أعترف أن الأمر معقّد إذا أدخلنا خاصية Nacebo في المعادلة، إذ أن توهّم المرض قد يؤدي بنا إلى إقناع العقل والجسد أننا مرضى مما يجسّد الوهمَ واقعا معاشا. وقد أتّفق معك في قضية توهّم المرض من جهة اتخاذ الخطوة العلاجية، فإن تحدّثنا عن الفوبيا الاجتماعية مثلا، فقد "تتوهّمين" في بدايات المواجهة استحالة أن تؤدي هذه الخطوة الأولى التافهة الثقيلة في آن واحد إلى مسار التعافي الكليّ، بمعنى تتوهمين مرضاً دائماً ومستحكماً يصمد ضد أي محاولة وتُعطينَه الحقّ في البقاء معك دائماً وأبداً، أما أن تجدي صعوبة بالغة في اتخاذ خطوات يقوم بها معظم الناس، فهذا دليل على أنّك فعلا مصابة برهاب اجتماعي وإلا لما كُنت تحتاجين التفكير مرّتين في مخالطة الناس، لأن الناس لا تفكر في تلك الخطوة فهي تلقائية !
بكلمات أخرى الحد بين التوهم ودور الضحية، وبين خلل نفسي حقيقي هو محاولاتك الصادقة والجادة للخروج من ذلك، فالذي يلعب دور الضحية سيتحايل حتى يبقى فيه بصرف النظر عن الوسائل الناجعة المتاحة له، أما الذي هو ضحية حقيقية فلن يستلذ وضعَه وسيحطّم أي قيدٍ يُبقيه في محيط ذلك الدور.لذا وجّهي غضبك لتغيير وضعك لا لجلدها وتحطيمها، اتخذي قرارات مؤلمة إن كانت في صالح التعافي.
وبالنسبة للاستشارة، لا أرى فائدة في قراءة المختص لها، خصوصاً أن التشخيص يتتبعه برنامج علاجي يخضع لقناعات المختصّ، ولا يُمكن أن يأخذ برأي مختص غيره ويطوّعه. فإن كان سيهتدي لما قلناه بالذات، فلن تزيده الاستشارة شيئاً، وإن كان تشخيصه مختلفاً، فسيسعى إلى تطبيق برنامج على خلفية قناعته وتشخيصه.
وأخيراً، أعود لسؤالك الثامن، وعلاقته بالدقة التي أشرتُ إليها... في الحقيقة قد تبسّمت لما قرأت سؤالك الأخير بسبب وجاهته ومعقوليّته ، حتى إن كان نابعاً من معاناة وحيرة. ليس ضرورياً أن تتعارض الأفكار الوسواسية مع كونِها منطقية تماماً، الوسواس من جهة هو "قدرة تفكيكية" وبحث حثيث عن التفاصيل المُهملة عادة من قِبل غير الموسوسين، لهذا قد تنفع الشخصية الوسواسية في بعض المهن التي تحتاج يقظة وتدقيقاً وتفكيكاً أكثر من غيرها.
فإن لاحظتِ أن سؤالك الثالث والرابع قد يُدرجُه من لا يفكك المواضيع إلى عناصر أصغر تحت السؤال الأول (هل المختص مناسب لي) لكنّك جعلت من السؤال الشامل أسئلة أصغر تغطي جوانب متفرّعة من السؤال الرئيسيّ، وهذه القدرة مفيدة جدًا إذا ما استُخدمت في مجال يحتاج الدقة والبراعة في التفريق بين التفاصيل الصغيرة والمتشابهة ظاهرياً (ومنها الطبّ)، وقد أمثّل هذا بآلة تستطيع أكثر قدرة من غيرها على تفكيك مادة خام إلى عدة مواد قابلة للاستغلال، في حين تكون آلة أخرى أضعف منها غير قادرة على استخراج نصف تلك المواد لغياب القدرة على التفكيك الجيد، وإن كانت المواد المستخرَجة في حالتك هي عبارة عن أفكار غنية ومتشعّبة يغفل عنها الكثيرون، فهنا ستكون مهارة وموهبة في حقّك.
إلاّ أني قد أتفق معك في حضور الوسواس كعائق في قولك (وَلِمَ لا استطيع الوثوق فيه وكثيرا ما اشكك في كلماته وآراءه؟) فهذا التشكيك نابع من سماتِك القسريّة في تقييم الصّحيح من الخاطئ، وحاجتك للتثبّت من أي نصيحة أو معلومة، فأنت ممّن يفضّل الأخذ من المصادر العلمية والمكتوبة ومن عدة مصادر، وعدم فتح "عقلك على مصراعيه" لأي خطاب، مع أنّك لو فكّرت قليلا لما وجدت معيارا سليما تحكمين به على آرائه والمعلومات التي يقدّم لك عن العلاج وعن نفسك، ومع ذلك تتخذين موقف النّقد والتشكيك لمجرّد فعل ذلك وليس على خلفية نقدية سليمة، وربما يعود هذا أيضا لكل تلك الأفكار عن العلاج النفسي والتوجّس والدفاعات التي أتيت محمّلة بها.
ما أريد أن أقوله من هذه النقطة الأخيرة والمهمة،(إضافة إلى ما قلتُه عن النجاح والتفوق والقدرات وكونها سوى وجها من وجوه التميّز التبرعم التي تستمدّ قوّتها من جذور في ظلمة التربة) أنّ السمات القسرية قد تكون مدمّرة إذا كانت المادة التي تفككها وتسحقها هي التفاصيل التافهة للحياة اليومية، والنظرة إلى الذات وتحقيرها وجلدها واستحضار المواقف التي تُشعر صاحبها بالدونية ونسيان الأخرى... أمّا لو استخدمت في مجالات ذات فائدة ولم يُترك لها المجال لتستشري في أمور يجب أن يتعامَل فيها الإنسان براحة وتلقائية أكثر، فإنها تصير لعنة. ومن الاستخدامات المفيدة أيضاً (مفارقة عجيبة) أنّ السمات القسرية تعين في تشخيص أكثر دقّة وفهم أكثر عمقا للذات في الرحلة العلاجية.
هذا وأتمنى لك حظا موفّقا وعزيمة وهمّة وانتفاضة على كلّ ما يسحبُك للضّعف والهوان والعجز، سواء كان ذلك نابعاً من نفسك أو نابعاً من وسطك. واستمرّي مع مختصّ ترتاحين له وافتحي قلبك له وإن كنت كان العائق "المختص الرجل" فاختاري امرأة وابدئي العلاج في جانب الفوبيا الاجتماعية وتقديرك لذاتك (وأيضا نظرتك لجسدك) لأن هذا كفيل بصدّك عن حياة صحية وتفاعل مريح تضطرين له كل يوم
تحياتي الطبيبة "عُلا".