إذلال الذات بين الوساوس وإظهار الرهاب
أنا طالب بكلية طب إحدى الجامعات المصرية، كانت تربيتي منذ بواكير مراهقتي على المثالية الكاملة والمعايير الأخلاقية شديدة الصرامة والعمق، وهو ربما ما أثر على قبولي المعدوم لذاتي، ونقدي المتواصل لها بداع أو بدونه..
كنت في فترة ما قبل الجامعة موضع أعجاب بل انبهار الجميع في كل شيء(الأخلاق، التفوق، الاعتزاز بذاتي، اللباقة، قوة التأثير على فكر الآخرين...) حتى والله المدرسين ذوي الشخصيات الصارمة كانوا لا يخفون انبهارهم بي، وتم اختياري أكثر من مرة الطالب المثالي... المهم أن كل هذا هو نقيض ما أعانيه الآن..
حيث فوجئت ذات يوم داخلي بهاجس غريب، وهو حقدي على ذاتي؛ حيث دوما يتردد الهاجس مثلا عندما أجد رجلا أعمى فأقول عندما أضع يدي على عيني: لماذا لا أعمى مثله؟.. أو عندما أجد أحد أقل وسامة: أقول لماذا لا أصبح قبيحاً مثله؟.. أو لماذا لا أموت مثل هذا الرجل؟!..
وهكذا في كل مواقف حياتي وأدقها بلا أية استثناءات، بل لقد وصل الحد لأن أخدع نفسي بوجود عجز عند فلان، لأواصل الحقد الأعمى على نفسي بلا هوادة، وكأن هذا يريحني!.. وكلما قررت مواجهة هذه الأفكار بالثقافة العقلانية، أو بالتحدي تزداد شراستها ضدي أكثر وأكثر ويزداد عمق مواجهتها لي.. حتى أصبحتْ منذ وقت وقريب تسيطر على كل أوقات حياتي صباحاً ومساءً... حتى أنني أصبحت لا أجرؤ على الاعتراف بيني وبين نفسي بأية ميزة لي كيلا تسحقها أفكاري الحاقدة.. بل وأصبح يرضيني الإقبال غير المنطقي على أسوأ وأبشع ما يمكن أن يسبب لي إحراج أو ضيق من مواقف وأحداث، أو الإقبال الغبي على أفكار تساعد في تضخيم قيمة الآخرين أو تصغير قيمة نفسي في نظري دون داع.. نعم لم تخطيء فهم العبارة..فكأني أسعى ضمنيا وعلى مستوى اللاوعي لأن أرتكب أفعالا تؤدي إلى أن أسمع انتقادات الناس وخصوصا المُنفرة القاسية كالانتقاد بالجبن وضعف الشخصية.
ولأن هذه الانتقادات تكون أصعب عندما تأتي من الجنس الآخر، تجدني حريصاً على ذلك! حيث يصاب جسدي بحالة غريبة من التصلب والذهول والقلق بمجرد أن أحس بأن أحدا ينظر إلي، إمعاناً في أن أظهر أمام الجميع بأسوأ صورة..حتى صديقي الأعز أصبح يلاحظ ذلك علي خصوصا في الجامعة ويحرج مني ويكون على وشك تركي خجلا مما أبديه، وكأني أحرص على مسببات الحزن لكي أنعم به!.. على الرغم من كم العذاب والتأنيب الهائلين اللذين أعانيها بعد ذلك...
وقد وضح ذلك لي عندما اكتشفت وجود أفكار وهواجس تنشط عند التعرض لموقف ما وكل هدفها أن أبدو بأسوأ ما يكون، وكأني أتحدى العُرف أو ما يظهره باقي الناس في مثل تلك المواقف من تحفز وتفاني من أجل الظهور بأحسن ما يكون... حيث يتهيأ أمامي أسوأ ما يمكن أن يحدث في الموقف على الرغم من كونه يومي عادي، ثم أرتجف رعباً عندما أتصور أنه يمكن أن تخونني نفسي لأقع في هذا الإحراج المتوهم لدرجة أنني لا أجد أمامي سوي أن أبدو كما كنت أخاف! ويا لها من معاناة!..
يحدث ذلك حتى عندما أكون بين أفراد عائلتي أنفسهم، وألا حظ في عيونهم (كما ألاحظ من الآخرين) نظرات الاستغراب أو النقد اللاذع.. غالبا أجلس وحدي بين جدران حجرتي أفكر في مواقف الماضي السخيفة وأنشغل بها.. أو يمتلكني الرعب عندما أوقن بأني مقدم على مواقف أسوأ وأسوأ.. تعبت وربي لدرجة أنني كرهت حياتي وأدعو الله أن يخلصني ولو بالموت..
أرجو من حضراتكم الإفادة..
وآسف على الإطالة..
13/5/2005
رد المستشار
الحقيقة أنني احترت في إفادتك هذه، ويبدو أنها لم يكن من قبيل الصدف أن تردها لي د. داليا مؤمن قائلة هذا ملعبك، ثم يقول لي أخي الدكتور أحمد نفس التعبير، عليَّ إذن أن أحلل نصك هذا، وأسأل الله أن أكونَ صائبا في تحليلي، وكان من الغريب أنك لم تبين لنا مدى تأثر مستواك الدراسي بهذه الحالة خاصة وأنك تدرس دراسة صعبة وتحديد تأثيرها على أدائك الأكاديمي مهم جدا قبل القفز إلى أي تشخيص.
الابن العزيز، من الواضح أن نوعية التفكير الذي أحسبه سّر معاناتك كلها هي النوعية الاجترارية (Obsessive Ruminations)، وذلك بغض النظر عن المحتوى المعرفي الذي يملأ مادة التفكير نفسها، فإذا استعدنا الطريقة التي نشأت بها والتربية "المثالية" الوسواسية التي ميزتها والتي جعلتك تعتاد التضييق على النفس ومحاولة ضبطها بإفراط من الصغر، عندئذ نستطيع استنتاج السبب في نزوعك إلى التنغيص على نفسك بهذا الشكل، وقد يفيدك هنا أن تقرأ من على مجانين أن من سمات الموسوسين فرط الشعور بالمسؤولية والذنب:.
برغم ذلك التخمين السريع، يبدو أن معلومات ناقصة في إفادتك، فمسألة الحقد على الذات وتقريعها وكونها بدأت هاجسا ثم أصبحت فكرة تسلطية ثم موقفا أو توجها عاما ضد ذاتك، هذا التوجه يبدو ملتبسا بعض الشيء وتظهر معه أعراض كالقلق الاجتماعي الذي تضع نفسك فيه وما إلى ذلك، ولكن من الواضح أنك تعاني مزيجا من الوسوسة والاكتئاب كما تحمل أبعادا مازوخية، وأنصحك بأن تقرأ ردينا السابقين على صاحب مشكلة:
جلد الذات عقدة أم قفص؟
جلد الذات عقدة أم قفص؟.. م
ولابد على أي حال من عرض نفسك على أقرب طبيب نفسي ليتمكن من تشخيص الحالة ووصف العلاج اللازم مع التنبيه على أهمية العلاج المعرفي السلوكي، وتابعنا أخبارك.
ويتبع ..... : إذلال الذات أم جلد الذات؟ ولمَ؟، م