ابئى افتكرني
السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته
حين أقرأ الاستشارات أقول إنني بخير، وحين أتلمس ذاتي أحس بتعبها وكم أنها على شفا جرف هار، وأقول: لا يُشترط أن نتساوى- نحن البشر - في المُصابِ ليكون ظاهرُ أحدِنا بخير، والآخر عكس ذلك، ما دمنا نتساوى في مقدار الحطام الذي تؤول إليه أرواحنا.
ثم حين أتأمل شريط حياتي، أرى أنه حافل بالكثير من الفصول التي هي بالنسبة للآخرين عقبات توقفوا عندها، فإن كان غياب الأبِ عن مسرح الحياةِ بإرادته مشكلة فقد مررت بهذه المشكلة، وإن كانت الغربة مشكلة فأنا غريبة في أكثر البلدان عنصرية، وإن كان غياب الهدف مشكلة فقد غابت أهدافي وانخفض سقف أحلامي كثيرًا ورغمًا عني، وإن كان الخجل والرهاب والقلق وضعف الثقة بالذات و.. كل هذه الأمور مشاكل؛ فقد مررتُ بها جميعًا، وتجاوزتها دون حاجة إلى استشارة ولا إلى طبيب نفسي، والماضي الآن لا يعني لي شيئًا ولا أحب استحضاره عدا الفصل الذي سأحدثكم عنه، والذي لا أعلم حتى الآن، هل هو عميقٌ حدّ أنه مشكلة مستعصية، أم أتفه من أن يكون مشكلة؟
منذ سبع سنوات، وفي شهر رمضان تحديدًا جمعتني بشخص صدفة الحوار الإنترنتي، هو رجل إعلامي وأنا أديبة - أو هكذا تخيلتُ الأمر - وكان حوارًا ثقافيًا في الغالب، لهذا لم تمانع والدتي من استمرار حوارنا؛ بل كانت تشاركنا فيه من وقت لآخر وهي مثقفة متزنة متدينة جدًا لكنها لا ترى حرجًا في التواصل المنضبط بين الذكر والأنثى وهي فكرة لها رفض واسع في مجتمعنا، لم يكن الشخص الأول الذي أحدثه ولم يكن الأخير، لكن حديثنا كان يحمل طابعًا عميقًا جعلني أرتاح له، كنت أقول لنفسي: لا تقلقي، الرجل ليس وسيمًا حتى تخافين من الوقوع في حبه، كما قراني كان قد عُقد على شخص بمواصفات جيدة إلى حدّ ما، وقد وافقت عليه بكامل إرادتي، هذه الأمور جميعها جعلتني مرتاحة لفكرة أن نتحدث لساعات عن الدين والحياة والمجتمع والسياسة والإنسان وغير ذلك، كان حديثًا مريحًا.. هذا أدقّ وصف لما كنا عليه.
سمعته في يوما ما، بدأ بالصوتِ ألطف، وأعمق، وأفكاره أكثر وضوحًا، ومع الوقت اعتدتُ عليه وأصبح جزءًا من واقعي الجميل، كفردٍ من عائلتي أحدثه مع شقيقاتي ووالدتي، عترف بالعديد من أخطائه، وأحببتُ ذلك منه، لأننا في العادة نهتم برسم صورة مثالية عنا أمام الآخرين.
قال يومًا إنه يحبني، رغم المسافات الفاصلة ورغم استحالة فكرة أن يتجاوز الحب محيط الشعور، هو يعلم أني مرتبطة وزواجي قريب، ادعيتُ أني متفاجئة والحقيقة أني شعرتُ بذلك وقد فرحتُ لفكرة أنه يحبني لأنه شخص مختلف تمامًا، تحول اهتمامي به إلى تعلق شديد وصامت، في ذلك الوقت استطعتُ السيطرة على مشاعري، بعد أشهر تزوجت وتوقعتُ أن تكون هذه هي النهاية، لكنها لم تكن، كنا نتحدث من وقت لآخر دون أن يتأثر واقعي بما أفعل فأنا أحترم زوجي ومهتمة بحياتي الزوجية، ولا أعرف كيف استطعتُ الفصل بين الواقعين الحقيقي والافتراضي، فأنا أعيش بشكل لا بأس به في الواقع، أحصل على ما أريد وإن كان هناك فارق ثقافي طفيف بيني وبين زوجي لصالحي، كانت حاجتي لذلك الشخص حاجة عميقة ومبهمة لا أفهمها، حاجة الشخص لجزء منه، نعم ربما كان جزءًا مني، وتمامًا كما لو أن هناك نوعين من الحياة.. حياة نعيشها كيفما اتفق، وحياة نعشقها بكل تفاصيلها، كان هو الحياة التي أحبها جدًا، وكان نافذتي إلى جنة الدنيا، وواقعي أعيشه وأؤدي واجباته دون تبرم مثل أي زوجة عربية.
استيقظ ضميري بشكل مفاجئ وبدأتُ أدرك بشكل متسلط أن هذه خيانة، مهما كانت خالية من أدوات الخيانة الحقيقية تظل خيانة، لم يكن سهلًا أن أتوقف عن التواصل معه لكنني حاولتُ، وساعدني بشكل كبير، كان يستجيب لكل ما أطلب، إن عدتُ عاد وإن طلبتُ منه أن نتوقف فعل، ومررت بفترة تأرجح شديدة ومضنية تزامنت مع مشاكلي الصحية، كان عامًا صعبًا، ومر العام تلو العام وأنا وهو على هذا الحال، والحق أني بذلتُ كل ما يمكن أن يبذله بشر للتخلص من علاقة ما، فعلتُ كل شيء، دعوتُ الله في الحرم أن يقضي أمرًا بشأن ما بيننا، كنتً ألح في الدعاء في صلاتي، وفي يوم قلتُ له: إن كان الله سبحانه يختبر البشر في حياتهم بأمور معينة؛ فأنت اختباري الأصعب وقد أخفقتُ فيه.
عرفت يومًا أنه يتواصل مع فتاة أخرى، تزلزلت، يمكن أن أقول إن نضجي توقف في ذلك اليوم، وعمري العقلي عاد للوراء سنوات عديدة وقدراتي الكتابية تضاءلت، وكل ما كنت أملكه.. فقدته لحظة أن عرفت بأمر تواصله، كان هذا الحدث من الأحداث الفاصلة في حياتي رغم أنه وبالتأمل قد يكون مثيرًا للسخرية؛ فكيف أنزعج من تواصل رجل غير متزوج مع فتاة غير متزوجة لغرض الزواج الذي ادعاه، وأنا متزوجة وأعيش بشكل طبيعي؟ قد تكون أنانية وقد يكون تملكًا وقد يكون حبًا لا أعرف كيف أضع له خط نهاية، لا أعلم لكن هذا الحدث جعلني كائنًا آخر، قررتُ أن أنساه، درستُ وحصلتُ على عمل، أشغلتُ نفسي بالعديد من الأمور، لكنه كان ملحًا عليّ، كنتُ قد طلبتُ منه ألا يفعل شيئًا أمامي، فليتواصل مع من يشاء وبالشكل الذي يريده لكن عليه أن يفعل ذلك بعيدًا عني، ليس عليه أن يكتب أنه يحبها، أمامي، في الوقت الذي كنت أمتنع تمامًا عن ذكر أي شيء عن زوجي وطبيعة علاقتنا، أو عليه أن يتركني للأبد لكن لم يتوقف ولم يتركني ولم أستطع أن أتخذ قرارًا فاصلا بشأنه، تواصل مع فتيات أخريات، إحداهن صديقتي، أمعن في إيذائي وكان عليّ أن أستمع له بمنطق أذيته ويفلسفها ويشرح كم أنه يحبني وأنني الأفضل على الإطلاق و.. الكثير من الكلام الذي كان كلامًا فقط وطبيعي جدًا أن يكون مجرد كلام، ما الذي كنتُ أريده أكثر من الكلام؟ لا أدري.
أعلن قبل فترة عن خطبته، كبناءٍ كنتُ أتهاوى لسبب لا أعرفه، رغمًا عني كنتُ أبكي، حتى وأنا أفكر بشكل منطقي كنت أبكي، حتى وأنا أقول إن هذا من حقه وإنني أعيش حياتي بشكل جيد ولا يمكنني التفريط بهذه الحياة، كنتُ أبكي أيضًا، قلتُ له إنني فقدتُ آخر صديق في هذا الكون، ربما كان صديقي؟ لا أعلم، ليس لي صديقات ولا يمكن أن أقيم صداقة مع أحد ولا أهتم لذلك، لديّ عمل أحبه ومنزل جميل وزوج محب وحنون ومثالي، مع ذلك.. أنا أفكر بذلك الصديق دائمًا، والمشكلة أنني أراه رغمًا عني في كل مكان، في التلفاز وفي الجرائد وفي صفحات الفيسبوك وتويتر، وكأنه يُراد لي أن أتعثر به على الدوام، لقد شاركني كل تفاصيلي على مدى سبع سنوات، كيف يختفي هذا فجأة؟
وأنا أكتب أشعر بحجم التفاهة لكن وقع ذلك على نفسي ليس تافهًا، لا أستطيع نسيان سبع سنوات من عمري بشكل كلي، أريد فقط أن يتألم مثلما تألمتَ، أن يحاول نسياني فلا يستطيع كما يحدث معي، أريد أن نتساوى في العقاب.
شكرًا للإنصات.
10/07/2013
رد المستشار
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة السيدة "سوسته" حفظك الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
رسالة أدبية ؟ نعم أما أديبة ؟! فلا أعتقد!!
سيدتي الفاضلة أعتذر عن هذه البداية من الرد ولكننا في غالب الأحيان نستعمل عبارات صادمة لكي يستفيق المريض من سباته ونوقظ فيه الضمير الذي تبقيه اللامبالاة في حالة غيبوبة عميقة يقبع فيها ما لم تجتاح الإنسان صدمة كهربائية أو علاجية تساعده على الاستفاقة.
أنا لا أتساءل لماذا تحدثت معه طوال السنوات السبع واختليت به في فراغات حياتك، تبادلينه الهمسات، وقطعا بعض المجاملات والإطراءات التي تفعل فعلها فيكِ وفيه إلى أن تتحول أخاديدا نفسيةً اعتادت على المخدر وهي اليوم تحتاج إليه لتشبع "عضّات الإدمان" إذن لا أتساءل كيف تحدثت معه، ولكنني أفكر بالعذر الذي أعطيته لضميركِ لكي تنيّميه طوال سبع سنوات، فأدخلته في ثباتٍ عميق.
أفكر في نفس الوقت في والدتك التي أدخلتها في ترهات تلك العلاقة، فكانت ضحية عطفها عليكِ وحنانها الأمومي وكذلك فعلت مع أخواتك اللواتي يحتجن إلى ناصح حاذق في العائلة يجيرهن من الوقوع في مطبات مماثلة.
أما بالنسبة إلى ما ذكرته بأسلوبك الأدبي الجميل من مشاكل ومآسي وظروف صعبة قد تكونين قد مررتِ بها، فهذا مؤسف للغاية ولكننا لو سألنا كل الناس من حولنا لوجدنا أنهم جميعا تعرضوا لمآسي مختلفة كلٌّ على حجمه وقدرة تحمله وكما يقول الإخوة المسيحيون: لكل صليبه وهو يتناسب مع طوله وقدراته.
السيدة سوسن : نشكر لك ثقتك بموقعنا كما أننا نتعاطف مع حزنك على ما قد تفقدين أما إبقاؤك على هذه العلاقة لمدة دقيقة واحدة بعد قراءة رسالتنا فقد يكون إثما كبيرا ترتكبينه وقد يكون حسابه أكبر بعد قراءتكِ هذه السطور.
أما لكل مثيلاتكِ ممن دخلن عالم النت ويتحادثن مع الشباب الأغراب في عتمات الليل وهدأة السكون، في أوقات الضعف والقوة، فأقول لهن أن يحذرن هجمات الذئب الغريزي المتربص خلف أزرار "الكيبورد" والمنتظر لأي ضعف، كي يقفز على جمال البراءة، فيهشّمها بمخالب الخبث ويتركهن جثة هامدة على صفحات الضياع... والندم.
والسؤال يبقى: ألا يشبه الإنترنت والدش كثيرا بمواصفاته مواصفات "أعور الدجال" الذي قرأنا عنه كثيرا في آخر العصر والزمان؟
لكِ منا أفضل الأمنيات في صيام وقيام شهر رمضان المبارك .
وفي صيام وقيام.. كل العمر .
والسلام
ويتبع >>>>>: عضات الإدمان والأعور الدجال م