السيدة " لبنى " تبلغ من العمر أربعين عاماً وهي تعمل في وظيفة محترمة ……
ذهبت لتحضر حفل زفاف إحدى بنات العائلة، وجلست في الحفل بوقارها المعروف عنها، وما هي إلا لحظات حتى أحست برغبة داخلية تدفعها دفعاً لأن تقوم من مكانها وتشارك الفتيات المراهقات الرقص حول العروس، وحاولت جاهدة أن تقاوم هذه الرغبة ولكنها فشلت وأخيراً وجدت نفسها مندفعة وسط الراقصات وهي ترقص وتغني حتى بلغت حد الإعياء فجلست على أحد المقاعد وانهمرت في البكاء ثم تركت المكان وسط ذهول الحضور، وكلما تذكرت هذه الواقعة تشعر بخجل شديد، وهي تتوارى ممن رأوها على هذه الحالة، وعموماً أصبحت منذ تلك اللحظة تميل إلى العزلة، وإلى الاستغراق في أحلام اليقظة وسماع الأغاني العاطفية، وتغيرت ألوان الملابس فراحت تنتقي منها الألوان الزاهية والموديلات التي تليق بفتاة العشرينيات. ولم تعد تهتم ببناتها الثلاث ولا بزوجها وصارت أكثر تفكيراً في نفسها وفي احتياجاتها .
أما السيدة " هالة " فقد أصبحت كثيرة الشكوى من زوجها ؛
فهو لا يهتم بأسرته كما ينبغي ويرضى بوضعه الوظيفي المتدني ولا يحاول البحث عن فرص عمل أفضل، وهو كسول متراخ، يفتقد للطموح والرغبة في الارتقاء فهو يعود من وظيفته الحكومية فيلبس البيجامة ويجلس أمام التليفزيون وأمامه " كيس اللب " و "علبة السجائر " ومن وقت لآخر يقوم ليتناول شيئاً من الثلاجة ثم يعود لوضعه مرة أخرى. وهو لا يجد حرجاً في أن امرأته تعمل في الصباح في وظيفة حكومية وتواصل عملها بعد الظهر في وظيفة خاصة لتغطي مصروفات البيت، وتأخذ الأولاد بعد ذلك إلى أحد النوادي لكي يمارسوا أنشطة رياضية واجتماعية مفيدة، وهي تحرص على أن يحقق ولداها أعلى الدرجات في المدرسة وأعلى الأرقام في المسابقات الرياضية. وقد كانت هي راضية ومتقبلة لهذه الأوضاع، حتى وجدت نفسها في الأيام الأخيرة ثائرة على كل شيء ، وعصبية طول الوقت ، وتصرح لمن تثق بهم أن زوجها لم يكن أبداً فارس أحلامها، وأن ولداها اللذان أنهكت قواها حتى يعيشا في أفضل مستوى أصبحا يتنكران لجهودها، ويجحدان فضلها ، وأصبح مستواهما الدراسي في تدنٍ مستمر، ولم تعد لهما الاهتمامات الرياضية السابقة، أي أن حياتها ضاعت هباءً على الرغم من جمالها وذكائها وحيويتها، وهي تصرح أحياناً أنها لابد وأن " تعيش حياتها " ولا أحد يعرف ماذا تعني بتلـك العبارة .....!!! .
وأخيراً " أبلة حورية " (كما يطلقون عليها) ؛
التي اكتشفت أن سنوات العمر تضيع من بين أيديها مع زوج قاهر لها ومسفهٍ لآرائها ومشكك في إخلاصها ومعطل لحركتها وخانق لتطلعاتها، لذلك قررت أن تطلب الطلاق وتأخذ ابنتها الوحيدة وتبدأ حياتها من جديد فافتتحت مصنعاً للملابس الجاهزة وداراً للحضانة ومدرسة خاصة ومشتلاً للزهور، وصارت لها علاقات واسعة في محيطها فأينما ذهبت رحب بها الجميع وأحاطوها بالحب والإعجاب ووجدت هي في نفسها طاقة هائلة للحب والعمل والعطاء ، وكأنها كانت في كهف مظلم وخرجت منه إلى الحياة، فهي تعمل ليل نهار ولا تتعب وكأنها مشتاقة للحياة ومشتاقة للحرية التي حرمت منها طول سنوات زواجها التعيسة. ولا يعكر صفو حياتها الآن إلا احتياجات شخصية تتحرك بداخلها من آن لآخر وهي تحاول كبح جماحها ولكنها تكاد تفلت منها في بعض الأحيان، فهي أولاً وأخيراً إنسانة تحتاج " للكلمة الحلوة " و " اللمسة الحانية " و " للود الدافئ "، ولكنها لا تستطيع أن تغامر بفقد حريتها مرة أخرى مهما كان الثمن، وما يزعجها (ويفرحها أيضاً) هو طمع الرجال فيها فشخصيتها آسرة وروحها تفيض على من حولها فتجذبه إليها بقوة، وحضورها لا يقاوم، ومشاعرها حية ومتدفقة، وودها وحنانها يشعران من يتعامل معها أن الدنيا دائماً بخير. ولكنها مع الوقت تعودت أن تضع حدوداً لمن يحاول الاقتراب منها من الرجال مع أنها أحياناً تتحسر على فرص ضائعة أو تتمنى فرصاً سانحة، ولكنها في النهاية تعود إلى وحدتها وتسأل نفسها إلى متى؟…… وما قيمة ما أفعله؟…… وما هو مصيري حين يتقدم بي العمر وتتزوج ابنتي وينفض عني الناس؟
تلك هي أزمة منتصف العمر والتي تحدث في المرأة حول سن الأربعين حين تراودها أفكار وتساؤلات لم تكن تخطر ببالها قبل ذلك فقد كانت طوال حياتها السابقة مشغولة بالدراسة والخطبة والزواج ورعاية الأطفال، وبناء الأسرة، أما الآن وقد كبر الأولاد، وانشغل الزوج عنها، وأصبحت تشعر بالوحدة وتشعر بتسلل التغيرات الجسدية شيئاً فشيئاً فلم تعد بجمالها وحيويتها ونضارتها وسحرها كما كانت وبدأت ترى بعض شعرات بيض تظهر في رأسها، صحيح أنها تنزعها بسرعة ولكن سرعان ما تظهر غيرها. وأبناءها أصبحوا يفضلون الذهاب مع أصدقائهم على الجلوس معها وزوجها أصبحت مشاعره فاترة نحوها إلى درجة باتت تقلقها، هذا بالإضافة إلى ما تسمعه عنه من شائعات توحي بأن عينية امتدت خارج البيت وربما مشاعره أيضاً.
إذن فيم كانت التضحيات من أجل الزوج والأولاد وهم الآن يتسللون واحداً تلو الأخر بعيداً عنها، وأين جهودها في ارساء قيم التفوق والنجاح في أبنائها وهم الآن يسلكون عكس ما كانت تتوقع لهم ويتمردون على كل توجيهاتها، وأين أحلامها في أسرة ناجحة مترابطة وهي الآن تراها تتفكك شيئاً فشيئاً فلم تعد تجمعهم مائدة طعام واحدة منذ مدة طويلة ولم تعد تجمعهم أحاديث سمر . ولم يبق لها إلا الوحدة والملل والكآبة والخوف من المستقبل وما تخبئه الأيام لها ولأسرتها.
لقد باتت تشعر أن زوجها هو السبب، فهو لم يكن أبداً فارس أحلامها وأن زواجها منه كان أكبر خطأ في حياتها، فهو لم يقدر مميزاتها ولم يقدر تضحياتها، وأصبحت لا ترى منه غير الإهمال والتقليل من شأنها حتى أمام الناس، وكل هذا يهون أمام الفتور العاطفي الذي لاحظته عليه من زمن ولا تعرف له سبباً .
وهي غارقة في وحدتها وحزنها تدخل في دوامة حساب الضمير فتتذكر زلاتها وأخطائها التي ارتكبتها في مراحل حياتها المبكرة فتتألم وتشعر بالخزي والعار… كيف فعلت هذا؟.. ولمـاذا فعلته... ؟!!
لقد بدت لها سنوات عمرها الماضية وكأنها كابوس ثقيل، فهي غير راضية عما تحقق فيها وتشعر أنها فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق أحلامها على كل المستويات وأنها كانت تجري وراء سراب، وبحسابات الحاضر هي أيضاً خاسرة لأنها ضيعت عمرها هباءً ولم تعد تملك شيئاً ذا قيمة فقد أنهكت قواها وذهب شبابها وضحت بفرص كثيرة من أجل استقرار أسرتها ومع هذا لا يقدر أحد تضحياتها، ولذلك تشعر بأن الأرض تهتز تحت قدميها .
حتى المبادئ والقيم التي عاشت تعلي من قيمتها أصبحت تبدو الآن شيئاً باهتاً، فلم تعد ترى لها نفس القيمة، ولم تعد متحمسة لشيء ولا مهتمة بأي شيء ذي قيمة في المستقبل فقد خارت قواها وانطفأ حماسها واكتشفت أن الناس لا يستحقون التضحية من أجلهم، وأن المبادئ التي عاشت لها لم يعد لها قيمة في هذه الحياة ، ولم يبق لها شيء في هذه الحياة الدنيا غير صلة بربها تشعر بها حين صلاتها وحين تلاوتها للقرآن .
أحياناً تشعر أنها تريد أن تبدأ صفحة جديدة من حياتها، ولكن ذلك يستلزم الابتعاد عن الزوج والأولاد والتحرر من قيودهم ، وبالفعل بدأت في الاشتراك في دورة كمبيوتر، وكانت تشعر بأنها تولد من جديد حين تترك البيت وتقضي عدة ساعات في هذه الدورة مع فتيات صغيرات تملؤهن الحيوية والرغبة في الحياة، أحست معهن أن شبابها قد عاد وبدأت تهتم بنفسها، بل تبالغ في ذلك الاهتمام حتى اتهمها زوجها في يوم من الأيام أنها متصابية… نعم هي تشعر أنها تعود مراهقة من جديد وتفرح أحياناً بهذا الشعور، ولكنها تفزع حين تشعر أن الأمر ربما يخرج عن سيطرتها، فقد أصبحت ضعيفة أمام أي كلمة إطراء من رجل ولو على سبيل المجاملة، وأصبحت تتمنى أشياء لا تناسب سنها .
إنها تشعر أنها ظمآنة وضعيفة أمام اي قطرة ماء تلوح لها في الأفق خاصة وأن الساقي الشرعي أصبح يضن عليها بقطرة الود والحنان، ولولا بقية من دين وحياء لسقطت في كثير من الامتحانات التي تمر بها يومياً ، وأحياناً تشعر بالاشمئزاز من نفسها فتهمل مظهرها وتفضل العزلة بعيداً عن الناس وتفقد الاهتمام بكل ما حولها إلى الدرجة التي تجعل زوجها يتهكم عليها ويناديها بـ "أم 44" معَيِّراً إياها بسنها وبشكلها في آن واحد .
وفي لحظات أخرى تشعر بميل إلى الزهد في الحياة فتقبل على الصلاة والصيام وقراءة القرآن فتستعيد صفاءها وتوازنها من جديد، وترضى بما قسمه الله لها، وتعترف بأنها فقدت أشياء كأنثي ولكنها اكتسبت أشياء أخرى كأم .
ثم تدور الأيام دورتها وتفكر مرة أخرى في اللحاق بالفرص الأخيرة للحياة قبل أن يغادرها شبابها وجمالها وتلقى في غياهب النسيان والإهمال فتفكر في الانفصال عن زوجها وبدأ حياة جديدة مع شخص يستحقها ويقدر مميزاتها، ولكنها تعود إلى نفسها مرة أخرى وتتذكر أطفالها وما ينتظرهم من معاناة حين تنهدم الأسرة بسببها .
هذه هي بعض معالم أزمة منتصف العمر التي تمر بها معظم النساء ، ولكن يدركها بإبعادها بعض النساء ممن لديهن درجة عالية من الوعي والإحساس، وبعض النساء يتقبلن الأمر بسهولة وتمر هذه المرحلة الأمور بلا مشاكل خاصة في النساء الناضجات، حيث تدرك المرأة أنها ربما خسرت بعض الأشياء كأنثي، ولكنها كسبت مساحات كبيرة كأم حنونة أو كموظفة ناجحة أو رائدة في مجال اهتمامها.
وفريق ثان من النساء يشعرن بآلام الأزمة ولكنهن يتحملن ويقاومن في صمت ويحاولن إخفاء الأزمة عمن حولهن، ولذلك تظهر عليهن بعض الأعراض النفسجسمية كآلام وتقلصات بالبطن أو صعوبة في التنفس، أو آلام بالمفاصل أو صداع مزمن أو ارتفاع في ضغط الدم .
وفريق ثالثٌ يفضلن الانطواء والعزلة بعيداً عن تيار الحياة ويمارسن واجباتهن المنزلية والوظيفية في أدنى مستوى ممكن.
وفريق رابعٌ يزهد في الحياة وينصرف إلى العبادة ويتسامى عن رغبات البشر ويشعر بالصفاء والطمأنينة والأنس بالله.
وفريق خامس يستغرقن في العمل والنشاط والنجاح في مجالات كثيرة على أمل التعويض عن الإحساس بالإحباط والفشل في الحياة الماضية.
وفريق سادس يلجأن إلى التصابي والتصرف كمراهقات في ملابسهن وسلوكهن، وربما تستعجل الواحدة منهن الفرصة التي تعتبرها أخيرة (نظراً لقرب غروب شمس الشباب) فتقع في المحظو.
أما الفريق السابع من هؤلاء الذين يعانين أزمة منتصف العمر فإنهن يتحولن إلى المرض النفسي كالقلق أو الاكتئاب او الهستيريا أو أعراض الجسدنة أو توهم المرض او الرهاب أو أي اضطراب نفسي آخر.
ومما يدعم من تأثيرات أزمة منتصف العمر أنها ربما تكون قريبة من الفترة التي تتوقف فيها خصوبة المرأة وينقطع حيضها وتقل فيها هرمونات الأنوثة مع ما يصاحب ذلك من تغيرات جسمية، فتضاف العوامل البيولوجية إلى العوامل النفسية والاجتماعية فتزيد الطين بلة.
إذن ما الحل؟....… وما العلاج؟ .
الحل هو أن نستعد لمواجهة هذه الأزمة قبل حدوثها ، وذلك بتحقيق إنجازات حقيقية راسخة ومتراكمة في مراحل الشباب، وألا نضيع سنوات الإنتاج هباءً، وأن يكون في حياتنا توازن بين عطائنا لأنفسنا وعطائنا للآخرين حتى لا نكتشف في لحظة أننا ضيعنا عمرنا من أجل إنسان لم يقدر هذا العطاء بل تنكر له وجحده في غمضة عين.
وأن يكون لدينا أهداف نحاول تحقيقها وأهداف بديلة نتوجه إليها في حالة إخفاقنا في تحقيق الأهداف الأولى، فالبدائل تقي الإنسان من الوقوف في الطرق المسدودة، فالواقع يقول أن الحياة مليئة بالخيارات، وإذا انسد طريق فهناك ألف طريق آخر يمكن أن يفتح، وإذا فقدت المرأة بعض شبابها فقد اكتسبت الكثير من النضج والخبرة والوعي والقدرة على قيادة أسرتها والحفاظ عليها واكتسبت الخبرة في العمل وفي الحياة . وإذا فقدت هويتها كفتاة جذابة وجميلة فقد اكتسبت هوية الأمومة ومكانتها وكرامتها .
ونحرص أن تكون لنا علاقة قوية بالله تحمينا من تقلبات الأيام وجحود البشر .
أما إذا وقعت المرأة فعلاً في براثن أزمة منتصف العمر، فإن علماء النفس ينصحونها بان تتحدث عن مشاعرها لقريبة أو صديقة لها تثق في أمانتها، فإن ذلك التنفيس يسهل عليها مرور الأزمة بسلام، وإذا لم تجد فرصة لذلك يمكن أن تلجأ إلى أحد علماء الدين أو أخصائية اجتماعية أو نفسية أو إلى طبيب نفسي، فهؤلاء يمكن أن يقدموا لها المشورة والمساندة. وبعض النساء ربما يحتجن لعدد من الجلسات النفسية الفردية أو الجماعية لمساعدتهن على تفهم جوانب الأزمة والتعامل معها بفاعلية أكثر، والخروج منها بسلام .
أما الأسرة فعليها واجب المساعدة للأب أو الأم حين مرورهما بهذه الأزمة وذلك من خلال السماع للشكوى وتفهمها وتقديرها وتقديم المساعدة اللازمة .
وعلى نطاق المجتمع ككل فنحن نحتاج إلى نشر الوعي بهذه الحالة الشائعة والتي يعاني منها الكثيرون والكثيرات في صمت وأحياناً تؤدي إلى تفكك الأسر وضياع الأبناء وأخيراً وليس آخراً علينا أن نتذكر أننا نمر في عمرنا بمراحل قدرها الله سبحانه وتعالى وهيأنا لها ولكل مرحلة مزاياها ومشاكلها. وعلينا أن نتقبل ذلك راضين شاكرين وأن لا نأسى على ما فاتنا فكل شئ يسير بتقدير من الله، وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وأن مردنا في النهاية إلى الله وأننا نوزن عنده بأعمالنا الصالحة وقلوبنا المحبة للخير ولا نوزن بأموالنا أو وظائفنا أو جمال وجوهنا وأجسادنا :" إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم" .
واقرأ أيضًا:
حين يتصدع العقل / الصندوق الأسود لمذبحة ذكرى / بائع الورد : قراءة في شخصية عمرو خالد