قادة العالم واضطرابات الشخصية(1)
وقد يتساءل متسائل: ألا يدل انسحاب وتراجع أصحاب الأخلاق في مقابل أصحاب القوة والسيطرة على أحقية القوة فى القيادة والتأثير، وعلى أن منطق القوة هو منطق الواقع، وأن منطق الأخلاق هو منطق الخيال والأحلام ؟ والحقيقة أن البشرية عاشت وأنتجت حضارات وحياتها خليط من القوة والقيم مع تفاعل وتوازن بينهما، إلى أن جاءت الحقبة الأمريكية الحالية فضربت القيم ضربة قاضية لصالح القوة، فانطلقت القوة منفردة في الساحة متجاهلة كل القواعد الأخلاقية والشرعية بل ومستهينة بها ومسفهة إياها بشكل علني غير مسبوق، وهذا يحقق مثلا شعبيا مصريا يقول: "القوي عيب"، وهو يعنى أن القوة تميل إلى التجرد من الأخلاق ومن الشرعية، وهذا ما حدث بالضبط في عصر الإمبراطورية الأمريكية حين انفردت مستبدة بحكم العالم.
ولا نعنى هنا القوة العسكرية الباطشة المستعمرة بلا وجه حق لأفغانستان والعراق والمتواطئة في احتلال فلسطين والجولان والمتنمرة لاحتلال سوريا وإيران، ولكن نعنى أيضا القوة الاقتصادية التي تبحث عن الربح بأي شكل وتستنزف ثروات الضعفاء والمغفلين والمستغفلين، والقوة الإعلامية التي تخدع عين المشاهد وأذنه وتزيف وعيه وتوقظ دوافع العنف والعدوان والجنس لديه بصرف النظر عن أي اعتبارات أخلاقية أو مهنية.
ويمكن تفسير هذا الانشقاق والخصام بين القوة والقيم إلى طبيعة نشأة المجتمع الأمريكي المبكرة حيث تكون من المنفيين والمستبعدين وخريجي السجون والغاضبين والسا خطين على مجتمعاتهم الأصلية فى أوروبا (أي الذين يحملون جينات اضطرابات شخصية)، هؤلاء ذهبوا إلى أمريكا وهم يحملون في نفوسهم كراهية للقيم والقوانين السائدة فى المجتمع الأوروبي، تلك القيم التي عانوا تحت مظلتها واستبعدوا أو هربوا بسببها، لذلك لفظوها أو جنبوها وراحوا ينهلون من خيرات المجتمع الجديد، وحين واجهتهم مشكلة السكان الأصليين (الهنود الحمر) حسموا أمر هم بعيدا عن أي اعتبارات أخلاقية حيث قاموا بقتلهم أو استبعادهم أو استعبادهم كي تخلو لهم هذه الجنة الجديدة، وكان هذا هو منطقهم واستمر إلى الآن رغم ما يغلفه من مظاهر ديموقراطية وادعاءات الحرية والعدالة (راجع سلوكهم الوحشي وغير الأخلاقي في الحرب العالمية الثانية تجاه اليابان، وفي حربي الخليج وفي الإغارة على أفغانستان والعراق) .
والمشكلة أن طريقة وصول قيادات العالم للحكم سواء بالانتخابات في - الدول المتقدمة أو بالانقلابات في الدول المتخلفة – تعطى فرصة أكبر لمن استطاع أن يخادع أو يناور أو يشترى الذمم والأصوات أو يستولي على السلطة بالقوة والقهر أن يصل إلى سادة الحكم، في حين أن أصحاب الأخلاق غالبا ما يفشلون في الوصول عن طريق هذه الآليات فهم لا يملكون القدرة على المناورات الانتخابية في الدول الديموقراطية، وربما لا يملكون المال ولا يملكون القدرة للوصول بالقوة العسكرية في الدول المتخلفة، وفي الحالتين نجدهم مستبعدين من النخبة الحاكمة إلا فيما ندر.
ونتيجة هذا الخلل هو في النهاية خلل في التركيبة النفسية للأفراد والشعوب حيث تتجه الأنماط والسمات الشخصية إلى الجانب الأيسر من المنحنى فيتبنى الناس الكثير من قيم الكذب والخداع والاستغلال والابتزاز والتحايل والتلون والتزوير والتلفيق والعنف والتسلط والقهر، يقابل هذا حالة من غياب القيم الدينية أو تغييبها أو تشويهها أو وصمها بالتطرف والإرهاب، والقيم الدينية هي منبع القيم المطلقة المرتبطة بالسماء وليس بأطماع الناس وشهواتهم، وهي مطلقة بمعنى أنها لا تتغير حسب الظروف أو الأشخاص أو المصالح فالصدق صدق فى كل الأحوال والظروف والأمانة كذلك والرحمة والتسامح والإخاء والتكافل والحب... .إلخ.
وقد أضحى أصحاب القيم الدينية الأصيلة والمطلقة مشغولون – بفعل القادة العالميون – بالدفاع عن أنفسهم ضد محاولات الوصم والتشويه والاختراق، وبالتالي لم يعد لديهم نفس القدرة على التأثير والتوجيه والقيادة، هذه الأشياء التي انتقلت لمن ملكوا أسباب القوة.
إذن فهذا الواقع ينذر بأننا أمام حالة من التلوث الوبائي يصيب الشخصية البشرية على نطاق واسع، أو فيروس يخترق البرنامج الإنساني ويشوهه. وهذا التلوث أو هذا الفيروس عابر للثقافات والقارات والمجتمعات، وهذه خطورته، لذلك لا تفيد فيه المحاولات ا لبسيطة أو المحلية للمواجهة، بل يحتاج لعقل الحكماء والعلماء الموضوعيين الموجودين على سطح الأرض ليقوموا بالتشخيص واقتراحات العلاج وآلياته ومتابعة تنفيذه بعد أن يخترقوا سحب الزيف والكذب والخداع والضلال لكي يصلوا إلى جوهر الحقيقة وينبهوا البشرية إلى الطريق الصحيح بعد أن ضلت أو كادت أن تضل الطريق.
وقد كان هناك اتجاه في الجمعية العالمية للطب النفسي بأن تقترح آلية لاكتشاف الاضطرابات النفسية لدى القادة والرؤساء والملوك والزعماء واتخاذ ما يلزم لتجنيب المجتمعات البشرية مخاطر قرارات هؤلاء الناس الذين يملكون في أيديهم ترسانات هائلة من الأسلحة أو مليارات الدولارات أو الجنيهات أو الدينارات أو الفرنكات أو الريالات، ويمكن أن يهددوا بقراراتهم الملايين من أرواح البشر ،أو يهددوا راحة واستقرار ونمو شعوبهم.
ومن المعروف أن أي فرد في أي مجتمع يطلب رخصة لحمل سلاح لابد وأن يعرض أولا على طبيب نفسي لتقرير مدى سلامته من الناحية النفسية، فكيف لا يتم هذا مع قادة وزعماء يملكون تحت أيديهم قدرات عسكرية (نووية أو بيولوجية أو تقليدية) واقتصادية هائلة.
وهناك مشكلات منهجية وتقنية تصعب من هذا الأمر، إذ كيف يتم تقييم الحالة النفسية أو الاضطرابات الشخصية لهذه الفئة من الناس، ومن له الحق فى ذلك، وكيف نضمن حياده وعدالته، وإذا تم التقييم فمن يملك القدرة على المحاسبة، وكيف نضمن أن هذا الأمر لن يتم استغلاله بواسطة القوة الأمريكية المهيمنة (أو أي قوة تهيمن بعد ذلك) لمعاقبة من لا يسيرون في فلكها بحجة إصابتهم باضطرابات نفسية أو شخصية.
عموما ما زال هذا الأمر يستحق الكثير من التفكير الجاد والمنهجي لتجنيب البشرية مخاطر التشوهات النفسية والخلقية التي تصيب بعض قادتها وتؤدي إلى تشوه شعوبها وتلوث البيئة العالمية والمجتمع الإنساني.
واقرأ أيضًا:
سيكولوجية المنافق، الضلالي .. والبلطجي / نحو حركة اجتماعية جديدة / إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(1)