قلت لها وقد ظهرت على الشاشة بعد الواحدة: الوقت تأخر جدا، وأنا أنهيت ما أريد على النت وأستأذنك للذهاب، وحين نبهتها أن الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، قالت: وماله؟!! طزززززززز!!!
أعتقد أن لدينا عامة، وفي الخليج خاصة ما هو أكثر من البترول، مخزون هائل من الضجر!! والطزززززززز!!
وأعتقد أن هذا المناخ، وذلك الشعور مسئول عن كثير من التصرفات اللامعقولة التي تصدر عن البعض منا، وربما عن أغلبية القابعين في بيوتهم أمام الشات، أو في المكاتب المغلقة المكيفة، وليست عندي أبحاث تربط عدم رؤية الشمس والخضرة ومشاعر السأم، وإن كانت العلاقة بين الاكتئاب وغياب الضوء معروفة!!
وأرجو أن أدرس يوما إدمان الشاشات التي صارت حياتنا!!
ولا تسألني جماهير القراء عن الحكمة من البقاء في أماكن محجوبة عن رؤية النهر الذي يجري، أو بحر تتلاطم أمواجه، أو الخليج، أو غيرها من مجاري المياه، والماء يذهب الحزن كما الخضرة، والوجه الحسن!!
لماذا لا نخرج لنتنفس ونتلاقى ونتعارف؟!
لماذا نقضي كل هذه الأوقات الطويلة في محابس مذهبة ممتلئة بأنواع الترفية المنزلي السخيف مثل الحواسيب والتلفزة، وأجهزة الألعاب الالكترونية؟!!
لماذا لا نخرج للضوء والشمس والناس؟!
ثم نسأل عن انقطاع العلاقات وتفكك المجتمع!!
مساجين وحراس نتناوب الأدوار، كالفئران نجري من صندوق إلى صندوق، ولا شمس نستمع بها، ولا أزهار ولا أشجار ولا أطيار، بين الجدران نختنق رجالا، فما بالنا بالنساء؟!!
المرأة العربية محبوسة غالبا، لا تخرج إلا لضرورة قصوى، ثم لا تلب أن تعود ، والتخويف يزداد منها ولها، فهي الفتنة لو خرجت، وهي في خطر لأنها مطمح الرجال، وأتذكر قصيدة لنزار يتحدث فيها عن الموقف من المرأة في الثقافة العربية المعاصرة لتنتهي القصيدة بأن ما يشيع في تربيتنا وثقافتنا قد زرع في أذهاننا أن العالم جنسا وسريرا!!
وصديقي العائد من الخليج بعد رحلات عمل متوالية يتندر حول زملاءه الذين لا يفكرون إلا في النساء والجنس رغم أن حركة المرأة هناك محكومة جدا ومحدودة ونادرة ومحاصرة حجبا للفتنة!! ألا في الفتنة سقطوا!!
والحصار نفسه مضروب حول الأنشطة التي يمكن أن يتلاقى فيها الناس: لا شعر، ولا فن، ولا موسيقى، ولا إنشاد ولا هوايات رياضية، ولا تجمعات مدنية عادية!!
حياة خانقة لمن يسبح فوق بحر من النفط، أو من يغوصون في ضجر الفقراء حتى أنوفهم!!
وبخاصة النساء!!
وحتى الجنس بوصفه ترفيه الجميع تقليديا وتاريخيا، الآن صار متعثرا، وصعب المنال، محاطا بالمشكلات والمحاذير إلا للأغنياء!!!
وملايين الرجال والنساء في نكد الليل والنهار من هذا الباب وبؤسه عندنا!!
هذا الضجر في أوطان مخنوقة مترفة أو مخنوقة معدمة يؤدي إلى يأس وعجز وقنوط وانعدام إنتاجية، ويؤدي إلى تصاعد معدلات الانتحار بشكل غير مسبوق، ويؤدي إلى زيادة معدلات الإدمان، ولا أحد يرصد، أو نرصد ونتحسر!!
عقولنا وأوضاعنا كلها في أسر قبضة التحريم الصارمة الرهيبة، والناس خائفون من كل شيء إنساني لأن وصمة التحريم، ولهجة الترهيب أقوى من إيمانهم الهش برب رحيم كريم واسع وحكيم!! ألوذ به حين تنغلق العقول والأبواب، ألجأ إليه فهو صاحب الأمر ليرزقني وقومي وعيا أقوى من معرفتهم الهشة بدينه القويم، حيث الأصل في الأشياء الإباحة، وحيث هدي الرسول في الأخذ بالأيسر ما لم يكن إثما، والإثم قليل في مقابل الحلال الكثير الواسع، لكنه ضاق بفتاوى الجهال العميان، ووراءهم تسير القطعان تظن الجنة تحت أقدام الموت والغثاء والضجر الذي يعيشونه!!! وكأن البشر ذئاب وحملان، والأقفاص لازمة لحماية هذا من ذاك!! وذاك إسلام يميت الحياة ويتعس أهله، فكيف يمكن أن نقدمه للعالم، ونقول لهم: هلم إلى خير الدنيا والآخرة؟!
والسلطات العربية غارقة في الحبور وفرط السعادة من هذه الأوضاع، فماذا تريد تلك السلطات أكثر من حجب ثلاثة أخماس المجتمعات بين جدران أربعة باسم الدين!! أعني النساء.
والباقي محبوسون أيضا لأن الهوايات حرام، وكل شيء حرام، والتجمعات غير صلاة الجماعة حرام!!
والناس صارت تخاف أن يجتمع رجل وامرأة أو رجال ونساء في أي مكان ولأي هدف لأن الفتنة تتربص بنا وتنتظر لتهجم علينا فنحن مستهدفون من الغرب ومن الشياطين، ومن كل قوى التدمير، ونحن بلهاء ضعفاء يسهل أن يسقينا أي أحد "حاجة أصفرة" لنغيب عن الوعي، ونقع في المحظور، والعياذ بالله!! ألا ساء ما يحكمون!!!
الحدائق لدينا خاوية إلا في الأجازات، والمتاحف خاوية، والندوات العامة تكاد تكون مكررة المضمون والجمهور والأسئلة!! الحياة مخنوقة في أوطاننا، والبشر ـ يختنقون، ولا أحد يعترض!
لا أحد يصرخ: نريد مساحات خضراء للجميع، نريد فرص وأنشطة وهوايات وتجمعات تتلاقى فيها كبشر!! نريد ضوء الشمس، وعبير الأزهار، ومنظر جريان الماء للجميع في الهواء الطلق!!
ورغم أن السجناء يستمتعون في زيارتهم لأوروبا لا أحد يعود ليطالب: نريد حياة بلا قضبان ولا أسوار ولا قيود ولا سدود، ونعرف سلفا حدود الله، وهي اسمها حدود أي أنها حواف وخطوط على هامش مساحات البراح الإنساني والاجتماعي!!
المجتمعات الخائفة من الحرية ومن الهواء الطلق هي مجتمعات مريضة ومثالية لعمل الفوضى الأمريكية، ومثالية لنشاط الشياطين لأن القلوب إذا كلت عميت فلا تفرق بين حق وباطل!!
القلوب تمل، ونحن غارقون في الملل، والترويح قرين التحرر والحرية، وفشلنا في تقديم حياة طيبة لأنفسنا وأهلنا هو الطريق الذهبي للكفر أن يملأ الأرض ظلما وفسادا لأنه يغري الإنسان بحياة منفلتة من كل حد، وإليه يهرب الناس من ضجر مجتمعاتنا "الإسلامية" التي تعتقد الكآبة تقوى، والضجر عبادة، والسأم قربى إلى الله!!!
كأن لعنة حلت بنا فمسخت أرواحنا، وشوهت نفوسنا، ومكنت لكارهينا من رقابنا، وصار الضجر والفشل وانعدام الأفق يحاصرنا، ولكن تبديد هذا وتجاوزه يبدو أيضا قريبا وممكنا لو أردنا، فقط نحتاج إلى جسارة وتجرد ومصارحات وإنضاج لعقول وحوارات حتى تتغير أوضاعنا هذه التي يبدو منها وكأن الله قد أنزل علينا القرآن لنشقى!!! وكأن الوحشة والتعاسة والكدر قدرنا المكتوب!!!
إن هناك تشويشا واسعا، وجهلا عميقا ومتراكما يتغطى بأقنعة وأردية وعباءات وعمائم وتيجان، وهناك أهواء تتجمل بديباجات شرعية، وتخاريف تروج أكاذيب على أنها حقائق، وتنشر أساطير على أنها حلول وحملات تنشيط، كثير من الخلط والتخبط وضبابية الرؤية وضجيج أصوات الواعظين الصارخين، والزعماء الخونة، والناصحون يقولون عن رعونة، والمستشارون يدلون بخفة وخواء، هذا كله يحيط بنا، ونحن وسطه في الضجر والضياع، لكن هذا الركام الضخم هش منفوش ستزيحه أضواء النهار، وأشعة الحرية، وتنثره غثاءا في مهب الريح، والهواء الطلق.
واقرأ أيضًا:
على باب الله: الإنسان أولا ودائما/ على باب الله: كوابيس حواء