الذاكرة أرشيف وجودنا المطاوع الذي يستنهض ما فيه، ويعيد صياغته بأساليب تفاعلية ما بين العصيبات الدماغية، تتفق والحالة المثارة أو القائمة في أي وقت.
والعصيبات الدماغية تتفاعل وفقا للمنبهات وما يترافق معها من الانفعالات وطبيعتها، كأن تكون سلبية أو إيجابية.
والذاكرة القصيرة أو الوقتية تتحقق من خلال تفاعلات ما بين العصيبات الدماغية، وبواسطة التواصل ما بين العصيبات الحسية والحركية، وكلما كان المنبه شديدا ازداد التوافق التفاعلي بينهما.
وفي دماغنا ألف بليون عصيبة ذات تفاعلات معقدة ومطلقة مع بعضها، لأنها تؤلف أبجديات السلوك وأساسياته، وهي التي تصنع التنوع والاختلاف في الاقتراب والفهم والإدراك، والقدرة على التلقي والتفكير والخيال، والانطلاق في مسارات تفرضها تلك الطاقة المعرفية المتولدة، والمتناسبة مع درجة وقوة التفاعل العُصيبي.
والذاكرة الطويلة تحتاج إلى بروتينات، وهذه بحاجة إلى تبدلات جينية لكي تنتجها، فالبروتينات عبارة عن إنتاج التأثيرات الجينية الصادرة من كروموسومات النوايا، إلى سلسلة التواصل والتفاعل ما بينها وبين سايتوبلازم الخلايا، وعندما يتم إنتاج البروتين يؤدي ذلك إلى تحقيق السلوك.
وكل سلوك بشري مرهون بقدرات البروتين الناجم عن تأثير الجين الموجود والمحفز، والجاهز للاستجابة والتفاعل مع المحيط.
وكلما تفاعلنا مع المحيط بمفرداته وتداعياته، كلما أيقظنا الجينات وأسهمنا في بناء الترابطات الجديدة المتفقة مع الحالة التي نحن فيها، وكلما تكررت التنبيهات وتنامت الاستجابات وتسارعت، تحولت إلى فعل أوتوماتيكي لا يحتاج إلى جهد، لأن قدرات التعبير عنه قد ترسخت وتنامت وصارت متحكمة ومتأهبة للجواب على اي سؤال أو تحدي يواجهها. وبهذا فأننا نصنع وجودنا الذاتي، ونساهم في بناء ما فينا ورسم خارطة أعماقنا.
وبمعنى آخر، أن المحيط الخارجي يدفع بالعصيبات الدماغية إلى التفاعل المتفق معه، وهذا يؤسس لترابطات جديدة، وبتكرارها تتعزز وتزداد قوةً وكفاءةً وقدرةً على الإنجاز السريع اللازم لمواجهة الحالة المحيطية. وقد يساهم أيضا في استنفار تفاعلات أخرى متنوعة للمساعدة على قوة وفاعلية الاستجابة المتحققة.
فبتعاون العصيبات الحركية والحسية بامتداداتها وموصلاتها، وكذلك بفعل التكرار، يصبح من الواجب على الخلايا أن تستعين بجيناتها، وتسعى لإحداث تغيير في التفاعلات القائمة داخل الكروموسومات، مما يؤدي إلى الإقدام على صناعة بروتينات جديدة مؤهلة للقيام بدورها.
وهذه البروتينات تتراكم في أعماق الخلايا ونواياها حتى تؤسس لذاكرة إنسانية لا حدود لها، ويمكن استنهاضها وإعادة ترتيب ارتباطاتها وفقا للتفاعلات القائمة والمطلوب الاستجابة المناسبة لها.
وعليه فإننا ومن خلال ما يجري حولنا نكون كالمرآة العاكسة والصوت الذي هو الصدى.
ولكي نكون وفقا لما يجب أن نكون عليه ونرتقي إليه، لابد من وعي مؤثرات المحيط علينا، وما هي الأفكار والرؤى والتصورات والمعتقدات، التي تسهم في بناء أرشيف ذاكرتنا، والكيفيات التي تؤثر بها على إنشاء الترابطات والتفاعلات القائمة ما بين العصيبات الدماغية والموصلات الفاعلة فيما بينها.
ومن هنا فإن ما هو قائم من حولنا يصنعنا، وما فينا عبارة عن إنتاج أكيد للمنبهات والتفاعلات التي تدور في المحيط الذي نعيش فيه.
وبين الذات والموضوع هناك تفاعل متواصل ومرهون بالبروتينات، المحكومة بالتفاعلات الجينية وما يطرأ عليها من تغيير مؤثر في السلوك.
فهل أن الذاكرة بوصلة سلوكنا؟؟!
واقرأ أيضاً:
الجُهلاء!! / الذاكرة والسلوك!! / العقل الديمقراطي!!