مقدمة
يتميز طب وعلم النفس بدخول مصطلحات جديدة بين الحين والآخر يتواصل من خلالها العاملون بمجال الصحة النفسية أولاً ومن ثم تنشر تدريجياً في الإعلام الثقافي وتصبح في متناول الجميع. هذه المصطلحات كانت وإلى زمن قريب تتميز بغموضها وافتقارها إلى الفائدة التشخيصية والعلاجية في الممارسة العملية. يمكن القول وبدون تردد أن هذه الظاهرة تكاد تكون حصراً على الطب النفسي دون بقية الاختصاصات الطبية الأخرى. المعضلة الأخرى التي تواجه الطب النفسي هي ترجمة المصطلحات من اللغة الأم إلى اللغات الأخرى. تولد هذه المصطلحات في البلاد الناطقة باللغات اللاتينية وترجمتها بين اللغات الأوربية لا تواجه الإشكال الذي يحصل أحياناً في ترجمة المصطلح إلى اللغات الشرقية وخاصة اللغة العربية. يواجه المترجم اختيار المصطلح الذي يتناسب مع خلفيته الثقافية دون الانتباه إلى استيعاب هذا المصطلح من عموم الناطقين بالعربية.
لا يزال الطب النفسي يعاني من غياب تصنيف للاضطرابات العقلية لا يقبل الجدل1 وذلك لعدم وجود قواعد علمية وفحوص مختبرية تسند اليقين في الممارسة المهنية وتقضي على شك الطبيب في وجود تشخيص دون آخر. تحرص اللوائح القانونية الطبية وغير الطبية على أن الوصول إلى تشخيص اضطراب عقلي يجب أن يقتصر على الطبيب النفسي ولا يحق لأحد أن يتفوه بتشخيص اضطراب عقلي. رغم أن الممرضة النفسية والمعالج النفسي والمعالج المهني لهم القدرة على التشخيص ولكنهم لا يشيرون إلى تشخيص الحالة دون استشارة الطبيب النفسي أولاً والإشارة إلى رأيه في أية رسالة أو مستند يحمل اسمهم.
هذه الممارسة في غاية الوضوح مع دخول المستندات الطبية الإلكترونية في الممارسة المهنية في السنوات الثمانية الأخيرة حيث أصبحت المستندات الورقية من ذكريات الماضي. يوجد حقل خاص للتشخيص لا يقبل سوى دخول الطبيب النفسي إليه وتدوينه للتشخيص. كذلك الأمر في المرافعات القانونية الجنائية والمدنية حيث يرفض المعالج النفسي على سبيل المثال الدخول في نقاش حول تشخيص المرض ولا تقبل المحكمة منه إبداء الرأي في هذا الأمر.
رغم كل ذلك ترى الجميع يستعمل مصطلحات تشخيصية وخير مثال على ذلك مستشيرو الموقع. هناك من يطلب تشخيص حالته النفسية وهناك من يطلب إعطاء الموقع الثقة بتشخيص توصل إليه لحالته النفسية أو حالة غيره من أحباء وأقرباء وغرباء.
أهداف المقال
بعد ما خاض العلم في بحوث الجينات وشبه اكتمال رسم صورة لجينات الإنسان اتجه نحو رسم خريطة واضحة للجهاز العصبي المركزي. هذه الخريطة لا تزال في بدايتها والبحوث على قدم وساق في تحديد وظائف الجهاز العصبي وربط سلوك وعواطف ومشاعر الإنسان بالمراكز العصبية المتعددة. هذه البحوث ستعم بالفائدة على الطب النفسي وترفع الغموض والارتباك الموجود في فهم وتصنيف الاضطرابات العقلية المختلفة.
هناك اتجاه بدأت البحوث النفسية تخوض فيه وهو محاولة تقسيم مشاعر وتفاعلات الإنسان العاطفية في منظومات متعددة. بعدها يتم تحديد الدوائر الكهربائية التي تتحكم فيها في الدماغ ومن ثم ربط الأخيرة بجينات الإنسان. متى ما تم التوصل إلى محطة الجينات أصبح من السهل العمل على دراسة التفاعلات الكيمائية واكتشاف العقاقير اللازمة لشفاء المريض. هذا التوجه لم يسلم من انتقاد بعض الغلاة من العاملين في الطب النفسي5 وتصريحهم بأن مستقبل هذه البحوث مجرد سراب من الخيال ولكنهم في عين الوقت لا عمل لهم سوى انتقاد الاختصاص الذي يعملون فيه وتسفيه النظريات البيولوجية والنفسية وعدم تقديمهم البديل أو حتى بذل أي جهد يذكر للنهوض بمكانة الطب النفسي. الاتجاه العلمي سيدفع الطب النفسي نحو الصعود على منصة تقدير ضمن الاختصاصات الطبية أما اتجاه الغلاة فلن يؤدي إلا إلى نتيجة واحدة لا غير وهي اختفاء الاختصاص من الممارسة الطبية.
يتناول هذا المقال المجموعة الأولى لهذه المنظومات وهي منظومات الرفض2 أو الأجهزة السلبية Negative Systems.
1 - التهديد الحاد Acute Threat.
يواجه الإنسان التهديد والشعور بالخطر على فترات متقطعة في حياته اليومية. هذا التهديد يؤدي إلى زيادة فعالية الجهاز العصبي الذاتي ويساعد الإنسان على الحفاظ على صحته وكيانه وسلامته. كذلك هناك ضغوط اجتماعية وعائلية ومهنية وفكرية لا حصر لها تداهم الفرد بين الحين والآخر ويتعامل معها بصورة صحية ليضمن سلامته. على ضوء ذلك لا يمكن أن نصنف الشعور بالقلق والخوف والهلع على أنه حالة مرضية عندما يواجه الإنسان اختبار أو امتحان أو عند تعرضه لأزمة شخصية تداهمه فجأة. يتأقلم الإنسان ويستعمل احتياطاته الجسمانية والفكرية ويواجه التحدي ويتغلب عليه في معظم الأحيان.
يحدث أحيانا أن يكون مصدر التهديد الحاد وطبيعته غير واضح للفرد ولا للذين حوله. يتفاعل الإنسان مع الشعور بالتهديد الحاد تدريجيا حسب شدته وصولا إلى الإصابة بنوبة هلع Panic Attack حيث يبدأ قلبه بالخفقان وتزداد سرعة تنفسه ويفقد السيطرة على توازنه ويسقط على الأرض فاقداً الوعي. هذه النوبات كثيرة الملاحظة في جميع الاضطرابات العقلية ورغم وجود تشخيص طبي عقلي يدعي اضطراب الهلع بحد ذاته ولكن قيمته العلاجية تكاد تكون معدومة ونتائج وصف العقاقير لعلاجه غير مرضية في الكثير من الحالات.
قد يكون مصدر التهديد أحياناً ظواهر عقلية أخرى نتيجة الإصابة باضطرابات نفسية متعددة. المريض المصاب بالفصام يبدأ بسماع أصوات لا يسمعها أحد أو يشعر بأن قوى أخرى خارج كيانه تسيطر على تفكيره وفعالياته الجسدية. هذا التهديد يؤدي كذلك إلى أعراض هلع حادة أحياناً وخاصة في المراحل الأولى من المرض ولذلك يجب توخي الحذر في القبول بتشخيص اضطراب الهلع أو القلق دون الخوض بتاريخ مرضي بعمق وبدقة.
2- التهديد الكامن Potential Threat
هذا النوع من التهديد يواجه الإنسان أيضاً بين الحين والآخر ويتطلب تقييم الخطر. قد يتعرض الإنسان إلى موقف يتطلب منه اتخاذ قرار ما مقابل قرار آخر أو الإقدام على خطوة عملية دون الأخرى. الشعور بالتهديد يصاحب اتخاذ القرار ويتمثل أحياناً بشعور الإنسان بالقلق العقلي Mental Anxiety . كذلك تتفاوت المقدرة على اتخاذ القرار من إنسان لآخر وكلما ازدادت قابلية الإنسان على اتخاذ القرار السليم الحاسم وبدون تردد انفتحت أمامه فرص الحياة والوصول إلى مركز قيادي ناهيك عن فتح أبواب الرزق أمامه على مصراعيها. هذا التهديد الكامن كثير الملاحظة في مختلف الاضطرابات العقلية. الفصام والاضطرابات المشابهة للفصام تتميز أحياناً بشعور الإنسان بالتهديد الكامن في علاقته مع الآخرين ومن جراء الظواهر الذهانية المتعددة. يؤدي ذلك إلى ولادة وهام زوراني أحياناً أو يدفع المريض إلى اعتزال الآخرين بل وحتى اعتزال نغسه وقاية من الخطر الكامن.
الاضطرابات الاكتئابية بأنواعها يصاحبها الشعور بخطر كامن لا يعرف الإنسان كيف يقيمه ويتحداه. الأم بعد ولادة طفلها الأول تشعر بالخطر الكامن بأن وليدها قد يصاب بأمراض جرثومية ولابد من توخي الحذر. قد لا تنام أحياناً من قلقها على تنفسه ليلاً وتفضل أن يكون بقربها في الفراش لرعايته. تتجاوز الأم هذه المرحلة ولكنها قد تفشل في ذلك لأسباب متعددة، وبعد ثلاثة أشهر تبدأ أعراض الاكتئاب ما بعد الولادة بالظهور. وليس من الصعوبة ملاحظة ظاهرة الخطر الكامن فيما يسمى باضطراب الوسواس القهري4. هذا الخطر يتمثل في تهديد الإنسان باحتمال انتقال ميكروب إليه عن طريق اللمس على سبيل المثال ويكثر من ممارسة طقوس النظافة وعدم مصافحة الآخرين. كذلك الأمر في الإسراف وإعادة ممارسة الطقوس الدينية في الوضوء والصلاة والحرص على الوصول إلى غاية الكمال في الآداء الذي لا سبيل إليه.
3 - التهديد المستمر الثابت Sustained Threat
هناك من التهديدات التي تواجه الإنسان مستمرة وثابتة لا تفارقه وتلاحقه أينما ذهب وتؤدي بالنهاية إلى حالة عاطفية في غاية السلبية وبالتالي إلى إصابته بحالة وجدانية ترتكز على فقدانه القابلية على الشعور بالمتعة وهي ما نسميه الاكتئاب المرضي. هذه التهديدات قد تكون مرتبطة في البداية بالتهديد الكامن الذي لا يقوى الإنسان على التخلص منه ولو استعملنا نموذج الوسواس القهري لرأينا بأن الاكتئاب يكاد يكون نتيجة حتمية للوسواس القهري بل هناك من يصر على أن الوسواس القهري ما هو إلا اضطراب وجداني من نوع آخر وعلاجه لا يختلف كثيراً عن علاج الاكتئاب في استعمال العقاقير والنماذج العلاجية الكلامية .
نموذج التهديد المستمر يفسر كذلك علاقة الظروف الاجتماعية السلبية3 في إصابة الفرد بمرض الاكتئاب وعدم الشفاء منه أحياناً. كذلك الأمر مع كثرة ملاحظة اضطراب الاكتئاب المصاحب للفصام والاضطراب الوهامي. لا يتوقف شعور الإنسان بالتهديد المستمر من جراء الظواهر الذهانية من أصوات وعملية زورانية لا نهاية لها وبالتالي ينتهي الأمر بظهور علامات اضطراب الاكتئاب كاملة. من جراء ذلك تكثر ملاحظة وصفات العقاقير المضادة للاكتئاب في المرضى المصابين باضطرابات ذهانية أولية وإن كانت فعالية هذه العقاقير جزئية في أغلب الحالات. على ضوء ذلك يعترض الكثير من الأطباء النفسانيين على وصف عقاقير موجهة نحو موازنة الحالة الوجدانية بدلاً من بذل أقصى الجهود للسيطرة على العملية الذهانية واستهدافها بالعقاقير أولاً.
4 - الفقدان Loss
يتم تفعيل هذه المنظومة في الإنسان عندما يفقد من هو قريب أو حليف له ويمر بعدها بفترة حداد. فقدان الأحبة تواجه الإنسان منذ الطفولة إلى نهاية العمر، ومفهوم الخسارة أو الفقدان يكاد يكون العمود الفقري للنظريات النفسية لتفسير اضطراب الاكتئاب. إن كان الفقدان واضحاً نسميه الحزن وإن كان غير ذلك نسميه الاكتئاب. يتم تفعيل هذه المنظومة من جراء تعرض الإنسان لظروف بيئية مختلفة ترتكز على الفراق والشعور بالعزلة من جراء ذلك. يفارق الفرد عائلته للتعليم أو الزواج ويمر بفترة حداد تتفاوت في شدتها من إنسان إلى آخر. كذلك الأمر مع رحيل الإنسان من مكان عمل ارتبط به لفترة طويلة وإصابته بالاكتئاب بعد وهلة زمنية. كذلك يمكن تعميم هذه الظاهرة على الهجرة من وطن إلى آخر وكثرة ملاحظة شتى الاضطرابات العقلية في المهاجرين وفي مقدمتها الفصام. على ضوء هناك احتمال جدير بالدراسة وهوان تفعيل هذه المنظومة لا يقتصر على الاضطرابات الوجدانية وإنما قد يتجاوزها إلى الاضطرابات الذهانية الغير وجدانية.
5 - الإحباط مع غياب المكافأة Frustration Non– Reward
هذه المنظومة يتم تفعيلها عند شعور الإنسان بالإحباط من جراء عدم حصوله على المكافأة لجهود بذلها لفترة زمنية قد تطول أو تقصر. أحد معالم هذه المنظومة هو شعور الإانسان بالغضب الذي قد يتحول إلى سلوك عدائي نحو الآخرين. من أبسط الأمثلة في الحياة العملية هو اكتشاف الزوجة لخيانة زوجها وعلاقته مع امرأة أخرى. كذلك الأمر مع تولد مشاعر سلبية متعددة عند إصابة الإنسان بمرض ما أو فقدانه من هو عزيز عليه وشعوره بأن الدنيا والعقيدة لم تصنفه رغم تمسكه بالشعائر والطقوس المختلفة وحسن سلوكه. رغم أن الشعور بالإحباط يؤدي إلى الغضب لفترة زمنية محدودة ولكنه قد ينتهي بشعور الإنسان بالاكتئاب أو دخوله في عملية وهامية يصعب عليه التخلص منها. تكاد تكون هذه المنظومة على أشد الفعالية أحياناً في اضطرابات الشخصية لسبب أو آخر وخاصة اضطراب الشخصية المضادة للمجتمع والشخصية الحدية.
الاستنتاجات
• هناك محاولة لفهم الاضطرابات النفسية من خلال تصنيف مفاهيم نفسية متعددة وربطها بدوائر الدماغ الوظيفية وبالتالي الجينات.
• هذا الأسلوب في التعامل مع الصحة العقلية قد يؤدي إلى تصنيف أفضل للاضطرابات العقلية مبني على أسس علمية رصينة لا تقبل الجدال وبالتالي استحداث عقاقير أكثر فعالية.
• مجموعة المنظومات السلبية لا يصعب ملاحظتها في جميع الاضطرابات العقلية الفصامية، الوجدانية، العصابية بأنواعها واضطرابات الشخصية.
المصادر
1 - Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorder DSM V (2013): American Psychiatric Association
2 - Psychiatry’ s Scientific Reboot gets under way (2014): Editorial. New Scientist.
3 - Timimi SJ (2012): Barriers to recovery from Depression. Magnin.com
4- Timimi SJ (2012): OCD and Frontal Lobe. Maganin.com
5 - Timimi S (2014): No more Psychiatric labels. Blog. Asylum
واقرأ أيضاً:
الانفصال Dissociation : المقدمة / النزاعات الوجودية والشباب العربي / تصوير الدماغ والطب النفسي أهي للمستشار أو مستشيره ؟