تأخذني الخفة، فأشعر وكأني أسير فوق سحاب تدفعه الهواء برفق وسرعة لأصل إليه .. كانت تلك اللذة المختلسة ما بين دروس الأحياء والفرنساوي والتي أترك فيها صديقاتي بتعجل وحماسة تُصعد الغيرة أو الغبطة إلى أعينهن .. وهن يفتقدن ذلك الظل الذي يصحب ظلهن وذلك الشعور بالألفة والاندفاع تجاه آخر .
أرقب الأولاد في المدرسة الثانوية التي تعترض طريقي وهم يقفزون من فوق السور، لا أسوار هناك لدي سوي بعض الكذبات الصغيرة المنمقة لأمي وللزميلات المشتركات بين الدرسين اللاتي لا صلة كبيرة بيننا ..فقط صديقاتي تبتسمن في مكر وفرحة نتشاركها وحسد مع ذلك
كانت البداية في محطة القطار: ذاهبة لزيارة عمتي في محافظة مجاورة – وحدي لأول مرة - وذاهب لزيارة أحد أقاربه..
وكان الإصرار على معرفة اسمي بعد تبادل بعض الجمل العادية جدا ..
"اسمي مش أي حد يعرفه "
"اسمك الأول بس، هوه أنا بقولك اسمك بالكامل و لا عنوانك ؟ "
" اسمي غالي ما ينفعش يتقال لأي حد"
" من ساعة ما شوفتك و طريقة حركتك وكلامك زي الأميرات .. فخلاص مش عاوز أعرف اسمك، هسميكي "أميرة"
ساعتان من الكلام المتواصل .. وقبل أن أفارقه، أخرجت ورقة ورسمت عليها اسمي، طبقتها بعناية ودسستها في كفه وأسرعت بالمضي خجلة.
أبتسم عندما أجد ذلك التكامل بين ألوان ملابسنا .. وكأننا قد اتفقنا مسبقا على ارتداء ملابس معينة لنكون لائقين في انسجام ألواننا معا
كنت أصدق صديقاتي عندما كنا نمر بفتاة و شاب، فيهمسن في مكر: "الألوان متناسقة" كإشارة إلى أنهما حبيبان أو خطيبان، و قد اتفقا مسبقا على ألوان ملابسهما
بعد أن تصدر هو الصورة، لم أعد أصدق تلك النظرية، نظرية : "الاتفاق المسبق" لأننا في كل مرة كنا نرتدي ملابسا منسجمة جدا دون أي اتفاق
واقتنعت إحداهن عندما صادفتنا وسلمت علينا، ثم مالت على أذني هامسة: "الألوان متناسقة"
فرددت الهمس: "مش متفقين"
****
"أحسن حاجة في الدنيا إن الواحد يتمشى مع الناس اللي بيحبهم"
قالتها على استحياء بابتسامة، التقطتها فورا لتترجم إلى عقلي بسهولة: "أنا أحب", فابتسمْتُ
كثيرا ما كنا نقطع مدينتنا الصغيرة مشيا لساعات في استمتاع أنا وهن، ونحن نتحدث عن كل شيء..
ها هي قد وجدت من تفعل ذلك معه غيرنا..
بشكل ما، نعرف أن الطريق قد يطول و يصبح مملا وسخيفا إذا ما كان المرء يسير فيه مع من لا يرتاح إليه .. ويصير قصيرا وينتهي سريعا لدرجة تضطر فيها إلى إعادة السير في نفس الشارع أكثر من مرة ذهابا وإيابا مع من تهتم لأمرهم وتحب صحبتهم .. وما أقلهم..
وكنا نقيس مدى إمكانية أن تصير زميلة جديدة ضمن مجموعتنا من عدمها من ذلك الاختبار الصغير: تمشية طويلة معها.
ومن شباك المدرج كنت ألمحهما بأسفل .. تسير هي بخفة وطفولة على سور الرصيف، ويسير هو إلى جوارها على الأسفلت في تناغم بعد أن قطعا كل ذلك الطريق من كليتهما إلى حيث كليتنا في الجهة الأخرى تماما من الجامعة..
***
كانت تخاف بشدة من عبور السيارات .. وكانت إحدانا تتولى مسؤلية العبور بنا .. فقط كانت تعبر بجسارة مثيرة للدهشة في حالتين: عندما تجد أحد من يهمها أمرهم أكثر خوفا منها، فتتشجع وتتولى مسؤلية أن يعبر بسلام .. وكثيرا ما كانت شجاعة في حضور أختها الأصغر مادمنا لسنا معهما.
لكن دهشتنا كانت أكبر عندما وجدناها تعبر الطريق بجرأة شديدة مع وجود ابن عمها الذي يقف في الاتجاه الذي تأتي منه السيارات وهو يعبر بها، فإذا بها تسبقه وتتخطى السيارات كلها بسرعة وثقة وجرأة غير معتادة منها أبدا وتتركه خلفها بمسافة كبيرة.
"ما بطقهوش " "شخص لزج"
وعندما سألناها عن العلاقة، أجابت بأن عبور السيارات بشخص هو فعل حب وحماية .. وأنها ترفض حمايته عليها .. وصارت تتوغل في نظريتها لـ "عبور السيارات" أكثر، فتقول أن طريقة كل شخص في عبور السيارات - تحديدا عندما يعبر بآخرين - تكشف عن الكثير من شخصيته ومدى إمكانية الاعتماد عليه في الحياة.
لم نصدق نظريتها إلا عندما شاهدناها بعد خطوبتها: خطيبها يعرج بقدمه ويمشي بها في صعوبة، تعبر به أحد الطريقين بحكمة وسكينة .. ثم يتبادلان الأماكن وتسير في ظله في صبر وقناعة واطمئنان وهو يعبر بها الطريق الآخر.
واقرأ أيضاً:
أغنِيَاتٌ لصاحِبَةِ الفستانِ الأسودِ ! / الترهات الماكثة / نا حين لا تدلُ !! / موعد ! / دخـولٌ ومغادرَةٌ! / شـاحِبَةٌ أنتِ ! / وقت لطقطقة الأصابع