شهر الروح
يتخبط العرب ويهربون من الجحيم الأرضي الذي خلقوه بتقديراتهم المختلة، وما زالوا فاقدين البصيرة والأمل في إصلاح أحوالهم، وكل معجب برأيه، ويلوم غيره، ولا يراجع تقديراته، ولا يعترف بخلل فيها!!
الأنا المهيمنة توهم كل مستسلم لها أنه الأفضل، وبأنه وكل الوطن ضحية أخطاء الآخرين، ويستسهل الهروب من المسئولية، وإلقاء التبعة على أية جهة أو مجموعة.
العرب معرضون للقتل العشوائي، وفي نفس الوقت يبتهجون لمقتل مخالفيهم على أيدي جلاديهم، ويبدون كمن يتخبطه الشيطان من المس، وهذه كلها آفات في المعرفة والضمير والسياسة والمجتمع، لكنها أيضًا بعض آثار "انكسار الروح"، والتعبير جاء عدوانًا لرواية كما جاءت جملة في مقدمة غنائية لمسلسل مصري شهير.
عن الرواية قالوا: انكسار الروح هي النموذج القياسي لأدب الستينيات، تنقل كل سمات وملامح الستينات بدءًا من القمع الفكري والسياسي مرورًا بالطبقية الحثيثة ومرارة الهزيمة والانكسار النفسي ودائرة الإحباط المغلقة وقصص الحب الحالمة والانتهازية والمتاجرة بأحلام الطبقات الفقيرة. كل هذا يضعها في مكانة الرواية الأم لهذا الجيل بكل ما تحمله من مشاعر وتفاصيل ومآسي وأحلام.
الأجيال اللاحقة لم تكن أسعد حظًا فيما تواصل من طمر للروح وتشويهها بما تظهر الآن أعراضه جلية فيما نعيشه ويحيط بنا!!
رمضان فرصة الروح، وفيه نزل القرآن الذي أسماه الله (روحا من أمرنا)، بواسطة جبريل - الروح الأمين-.
نفخ الله في الإنسان من روحه، وخلقه على هيئته، والامتناع عن الطعام والشراب والمعاشرة يمنح الممتنع بعضًا من الصمدية الألهية المستغنية، وبالتالي فإن الصوم يذكر الصائم بألوهيته، أو الجانب الآلهي الروحاني فيه!!
تنتعش الروح وتتألق وتزدهر بتقليص مساحة الجسد والشهوات / الغرائز، وتلوح فرصة الإفلات من تشويش الحاجات المادية المعيقة للنمو الروحي.
الروح مسجونة في جسد متطلب يأكل ويشرب ويعاشر، وتغذية المدائح والصور والخيالات ليكون السيد الذي ينفق الطاقة كلها، والوقت كله، والصوم فرصة لتستعيد الروح مكان القيادة، ومكانتها كأصل للإنسان وللإنسانية.
الصوم فرصة لمراجعة طغيان الأنا التي تتغذى على الماديات من طعام وشراب وملبس وتفاخر بهم، وصراعات الأنا التي تقتلنا على أساس طبقي أو طائفي أو مذهبي.
الصوم هو اقتراب طوعي من الموت بالامتناع عن بعض مقومات الحياة البيولوجية ليتذكر الإنسان الوهن الجسدي وليتذكر يوم أن تنفصل روحه عن جسده!!
الصوم استعادة للوصل العميق الخفي الحي مع الله فهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه الناس، وإطلاع الناس على أي شأن يفسده أو يضعه في مظنة إفساد.
الصوم يضيق مجاري الشياطين ويضيق مجاري الأفكار والخواطر ويفسح الفرصة لتأمل أعمق ينفذ إلى الفضاء الجواني للإنسان حين يستشعر المراقبة، والانتباه لنفسه، وربه... دون تشويش.
الصوم يشحن النفس بشجاعة الروح حين يرى الإنسان نفسه مستغنيًا عن مطالب البطن والفرج لأكثر من ثلثي وقت اليوم، وما يذل أعناق الناس إلا خوفهم على غياب الإشباع لهذه الحاجات، ثم يفطر الإنسان فيجد أن البطن تملأه لقيمات بسيطات لا تستحق أن ينسحق لأجلها في وجه ظلم، أو يضعف أمام شهوة تحط من كرامته، وإنسانيته العليا.
وفي خلوة الاعتكاف يبلغ الأمر مداه حين يستغني الإنسان عن دنياه أكثر، عن فراشه المعتاد، ونظامه المعتاد، ويعيش يومًا مختلفا، وليلًا فريدًا.
تغيير الحياة المادية للإنسان ببساطة وسلاسة – خلال رمضان- يغري بالتجرؤ عليها في غيره، وهدم أصنامها جميعًا في رمضان يتيح الفرصة لاستعادة القدرة على الاستغناء عن الدوران في فلكها!!
الطواغيت يساومون رعاياهم على الأمن وعلى اللقمة وعلى الاحتياجات الإنسانية، فإما الخضوع المهين المستكين، أو يغضبون فيكدرون حياة الناس- المادية-، ويأتي رمضان ليتيح الفرصة أمام رؤية جديدة ومتجددة لحقيقة هذه الحياة المادية التي يذل الناس أنفسهم لأجلها، ويرضخون للطواغيت خشية أن تتأثر، ويدهسون على أرواحهم أغلى ما فيهم، ولا يعبأون بما يلحقهم من عار أو تشوهات تحولهم تدريجيًا إلى مسوخ أو نفايات بشرية -فقط- حرصًا على تلك الحياة!!
والحرمان من مطالب الجسد على أيدي المجرمين واللصوص من السلاطين، والكهنة، وأعداء الإنسانية من الحمقى الذين يحسبون أنفسهم على خير، هذا الحرمان يزيد من تشوه النفوس وضغطها تحت وطأة ألم، وفي الصوم معالجة للمسألة من مدخل مختلف، بحيث لا تغني عن المطالبة بالحقوق، ولكنها تستعلي فوق موقف الانتظار، والتوسل، بل ومرارة سؤال اللئيم.
يعطينا رمضان الفرصة لأرواحنا حتى تشرق من جديد ضياءًا، ودفئًا يملأ حياتنا. فكم منا يغتنم هذه الفرصة؟
واقرأ أيضًا:
التغيير والبديل/ محنة الروح