الأردن بلد له ميزته الخاصة مقارنة ببقية الأقطار العربية. قد لا تجد فيه الكثير من المعالم وقد تذهلك أحيانا الآثار التاريخية القديمة. لا يختلف كثيرا عن بقية أقطار العالم العربي في نظام سير يتميز بخطورته ولكن مناخ الأردن أكثر اعتدالا من غيره ليلا ونهارا ولا يتغير الطقس مع سماع أحاديث الناس. هذا التوازن في الجو مع فوضى نظام السير رسمت إطارَ لقائي مع أخي العزيز وائل في عمان في العشرة الأيام الأخيرة من أكتوبر 2016. لم تسنح الفرصة للخروج مع وائل خارج مكان المؤتمر واستحالة التجوال مشيا على الأقدام مع تقطع الأرصفة وعدم وجود إشارات ترشدك من مكان إلى آخر. كان سكني بعيداً عن مكان المؤتمر وكان حضوري شخصيا دون مرافقة مجموعة مهنية.
كان لقاء الأردن أول فرصة لي للتعرف على بقية الأخوة والأخوات من العاملين في قطاع الصحة النفسية في العالم العربي. لكل قطر عربي مشاكله والمنطقة لا تزال حلبة لصراعات دموية متعددة وعقد مؤتمر للصحة النفسية في مثل هذه الظروف يعكس الجهود الجبارة للهيئة التنفيذية للمؤتمر في نجاحها لجمع شمل العاملين لتبادل الآراء والتشاور بينهم.
كان تكريم وائل من أجمل لحظات الجلسة الافتتاحية للمؤتمر. كان ذلك التكريم عن بحث يتعلق بالتراث العربي الإسلامي ومثل هذا البحث يتطلب مراجعة مصادر قديمة ومحاولة استيعابها من خلال لغة عربية قد يجدها البعض غريبة في الإطار والمحتوى هذه الأيام. ولكن الهدف السامي لهذا الجهد الرائع من أخي وائل هو بناء ثقافة طبنفسية عربية يمكن استعمالها في العلاج النفسي في العالم العربي. هذه الثقافة العربية في الطب النفسي تساعد على التواصل بين المعالج النفسي ومراجعه عن طريق استعمال مصطلحات لا يجدها غريبة ومستوردة من ثقافة أخرى.
تتميز وسائل العلاج النفسي بكثرتها واستعمالها لمصطلحات لا يفهمها أحيانا سوى بعض العاملين في قطاع العلاج النفسي وحتى في ذهن هؤلاء هناك أكثر من معنى واستعمال لمصطلح واحد. لا شك أن استيراد هذه المفاهيم والمصطلحات من ثقافة أخرى لا تكلل بالنجاح دوما وقد تكون عاملا يضاف إلى بقية العوامل التي ساهمت في تهميش الصحة النفسية وخدماتها في العالم العربي.
وهذا يقودني للحديث عن الخدمات الصحية للطب النفسي في العالم العربي. لم أسمع حديثا عن الخدمات الحكومية والأهلية ولم يتحدث أحد عن ميزانية الخدمات الصحية النفسية ومقارنتها ببقية الفروع الطبية. لم أسمع عن خدمات التمريض وتأهيل المرضى ورعايتهم الاجتماعية. هذا الغياب لمناقشة الخدمات الصحية النفسية يثير القلق حول طبيعة الخدمات الطبية في العالم العربي ونجاحها في سد احتياجات المواطن العربي ولكن ذلك ربما لا يقتصر على الخدمات الطبية فحسب وإنما التعليمية والثقافية. هناك حالة شلل وعدم تحرك الخدمات الصحية في اتجاه صحيح ووصولها إلى كافة طبقات الشعب.
كان لقاء الأردن فرصة لمقابلة العديد من الأخوة الأفاضل الذين يشهد لهم الطب النفسي بسعيهم المستمر من أجل رفع مستوى الطب النفسي العربي والصحة النفسية. لا أنكر بأن الشعور بالغربة كان يراوغني في اليوم الأول ولولا وجود أخي وائل في المؤتمر لاكتفيت بإلقاء محاضرتي فقط في اليوم الأخير. ولكن اليوم الأول كان أيضا موعد تسليم ملصق Poster موقع مجانين عن علاقة الفقه الإسلامي بالوسواس القهري. ذهبت مع وائل للبحث عن مسؤول الملصقات وبعد أن عثرنا عليه تم الاتفاق على وضعه في القاعة المخصصة لهذا النوع من البحوث. تجولت بعدها مع وائل في أروقة المؤتمر وذهبنا سوية لنرى ما حدث للملصق بعد الغذاء. وهناك كانت المفاجأة حيث تم إعلامنا بأن ملصق موقع مجانين هو الملصق الوحيد في المؤتمر وهذا الأمر يثير العجب وكنت أتوقع بأن هناك العديد منها وخاصة من الجيل الجديد في الصحة النفسية كما هو الحال في المؤتمرات العلمية في العالم. كذلك فإن عدد من يشاهد ويقرأ الملصقات هو أكثر بكثير من الذين يحضرون المحاضرات ويستمعون أو لا يستمعون إليها. لا أنكر بأني أصبت بخيبة أمل وكذلك الأمر مع وائل. أعلمته بهذا الأمر واتفقنا على نقل الملصق الوحيد من القاعة الفارغة من الملصقات إلى قرب القاعة المخصصة للمحاضرات. كان ملصق مجانين الملصق الوحيد والأول والأخير في المؤتمر.
انقر الصورة لترى حجما أكبر
يتميز البشر عن بقية الكائنات الحية بقدرته على الكلام ومواصلة الحديث إلى لا نهاية. يقول علماء التطور بأن هذه المقدرة على الكلام هي وراء ما يسمى بالثورة المعرفية Cognitive Revolution وميزت صنف الإنسان الحديث الذي نسميه Homo Sapiens والتي تعني حرفيا الإنسان الحكيم عن أربعة كائنات بشرية انقرضت بسبب هذه الثورة المعرفية والله أعلم بنظريتهم. هذه الميزة البيولوجية لعبت دورها في تصنيف البشر إلى مجموعات والمساعدة على التواصل الاجتماعي ولكن وظيفتها الكبرى هي ميل الإنسان إلى الثرثرة في شتى المواضيع. لا يختلف من يعمل في الصحة النفسية عن غيره من العاملين في شتى المجالات العلمية والأدبية في اجتماعاتهم الدورية فهم يتحدثون عما يدور في حياتهم العامة ومشاكل أوطانهم وتحديات الساعة أكثر من حديثهم في اختصاص عملهم. تحدثت مع أخي وائل والكثير من الزملاء في العلم والسياسة والأدب والفن وغير ذلك. لم تنقطع الثرثرة بيني وبين وائل ولكنها كانت خالية من النميمة في غالبية الأوقات.
وصل حضور مجانين في المؤتمر القمة في اليوم الأخير للمؤتمر. قدمت نيابة عن الموقع محاضرة عن المتحولين جندريا ونتائج تحليل الاستشارات التي وصلت الموقع خلال أكثر من 10 اعوام ومقارنتها بما يحدث في جميع أنحاء العالم. ما أثبتته مجانين هو أن ما يحدث في العالم العربي لا يختلف تماما عما يحدث في العالم وضرورة إصدار تعليمات خاصة تعني بمعالجة الأطباء قضايا المتحولين جندريا في العالم العربي. لم يثر الموضوع إعجاب الجميع ولا يزال الكثير يتحرج من الخوض في أمور يراها غريبة على ثقافته وحضارته وبدلاً من التعامل معها بصورة علمية توازي تعليمه ومهنته يعمل ما يفعله الكثير في تحوير الحقيقة أو إنكارها. ولكن هناك من أثنى على الموقع استقباله لمثل هذه الاستشارات ولكن عاد ثانية إلى الهجوم على الموقع بسبب اسمه. لم يكن هناك ليتصدى لهم سوى أخي وائل.
انقر الصورة لترى حجما أكبر
ولكن مجانين وصلت القمة مع ورشة عمل وائل حول المصطلحات المستعملة في العلاج النفسي والتطبيق العملي لها في الممارسة المهنية. كانت ورشة عمل وائل أفضل محاضرة وورشة عمل في المؤتمر وبدون منازع. كان عمله أصيلا لا علاقة له ببحوث سابقة وبذل جهدا رائعاً في توصيل رسالته إلى الحاضرين من الجيل الجديد. سأتوقف عن الحديث في هذا الموضوع لأني لو أسهبت فيه لن أنصفه وتمتعت به كما تمتع غيري. كانت نهاية ورشة العمل هي أيضاً ساعة وداعي لأخي في المؤتمر ولقاء قريب بعونه تعالى في بقعة من بقاع أرض الله الواسعة.
اقرأ أيضاً:
Air Spinner من لندن إلى الزقازيق/ حديث لندن وقت العصر/ الأردن مؤتمر الأطباء النفسانيين العرب الدولي(14)3