العلمانية نظرية ترقى إلى العقيدة الدينية، بمعنى أنها إرادة كل دين في وعائها العقائدي الجامع، فالعلمانية في جوهرها ليست ضد الدين وإنما ترعى أي دين. العلمانية أن تعترف بحرية التدين كما أقرتها دساتير المجتمعات المتقدمة، لكنها شئنا أم أبينا تفضل دينا على دين، وقد يصيبها التطرف والانغلاق والتوجس والاحتراق، وقد تبدو متطرفة أو متعففة. فهي كأي نظرية لها نسبتها العامة المعمول بها ونسبتها المتطرفة بالاتجاهين السلبي والإيجابي.
وقد تم تسويق العلمانية في المجتمعات العربية على أنها ضد الدين، أو أنها لفصل الدين كروح وقيم وأخلاق ومعايير سلوكية عن السياسة، وصارت العلمانية عنوانا للعدوان على أصحابها أو القائلين بها، والغاية من هذا التسويق تدمير الدين بأهل الدين.
والملاحظ أن الدول التي نسمي أنظمتها علمانية، يكون للدين حضورا في سياساتها واحتفالاتها السياسية، فأول ما تبدأ به قراءات من كتبها الدينية ووفقا للدين السائد فيها أو الذي تميل إليه، وبعضها ينكر بعض الأديان بآليات تطرفية وتسويغات عدوانية، لكنها جميعا تؤكد على ضرورة الدين وحرية العبادة في الحياة العامة والسياسية.
فحتى الشيوعية لم تستطع أن تتنصل عن الدين وتنكره بالكامل، وإنما أدركت ووعت حقيقة كون الدين يمكن إستخدامه لتخدير الناس والنيل منهم وتدمير وجودهم وإثارة العداء والبغضاء بينهم، فقالت في الدين ما قالت، لكنها لم تنفيه.
ذلك أن البشرية محكومة بآليات غيبية مجسدة في الدين ، ولكي تتخلص من رعب الغيب ومخاوفه لابد من دين ، فالدين من ضرورات الحياة وطاقات البقاء الأساسية وفيه تتأكد الديمومة الخلقية فوق التراب. ولهذا فإن الفهم المنحرف للعلمانية الذي يسود في المجتمعات المنكوبة، إنما يؤدي إلى دمارات متلاحقة وتداعيات متصاخبة، تمحق الدين بالدين والدنيا بالدين، وتجرد الإنسان من دينه وأخلاقه وقيمه الإجتماعية.
ولا يزال الطرح السلبي ضد العلمانية سائدا ومتكررا في الكتابات والخطابات، دون النظر في معانيها ودلالاتها، وعدم التركيز على المصطلح وحسب، والإمعان بآليات التفاعل الديني البشري عبر العصور، وخلال مسيرات الأديان والمعتقدات.
فأول ما بدأ الحكم في الأرض كان مقرونا بدين، وما الأديرة والمعابد التي بنيت في الحضارات القديمة إلا لتأكيد حضور الدين في الحكم، وأن السلطان يحكم بإرادة غيبة أو بتفويض علوي أو إلهي، مما يعني أن الدين كان حاضرا وبقوة في الحكم. فالدول العلمانية المعاصرة يحضر الدين في أنظمة حكمها، وتستمد من روح الدين منطلقات حكمها وثوابت سلوكها.
والخلاصة أن العلمانية لا تنفي دور الدين وإنما تدعو إلى حرية الدين والتعايش بين الأديان وتفاعلها الإيجابي، لكنها قد تصاب بالتطرف والتشدد وتفضل دينا على دين، وذلك من طبع البشر المبهم الذي لا يُعرف له تفسير مبين!!
واقرأ أيضاً:
الرئيس القوي والزمن الخطير!! / الأفراد بُناةُ الدنيا وصُنّاع الحياة!! / قفا نبكي !!! / جورج أرويل 1984!!