منع القادة والأمراء من استغلال أموال الأمة
الفصل الثالث عشر
مقاومة الاستغلال على مستوى الأمة:
استيلاء بعض الولاة على أموال الرعية:
وأختم هذا الفصل بهذه القصة الطريفة والتي أنصف فيها أبو جعفر المنصور رجلا من رعيته على أمير ظالم مستغل من ولاته، وذلك بعد أن تبين للمنصور أن أميره ظالم ومغتصب؛ فلنقرأ معا تلك القصة التي توضح لنا مدى اهتمام الخلفاء الأقوياء في تاريخ أمتنا الناصع بنصرة المظلوم من رعيتهم ولو كان من العوام على الأمراء ولو كانوا من خاصة الخليفة وأصفيائه:
من كتاب مروج الذهب - (ج 1 / ص 475 )
ذكر ابن عياش أن المنصور كان جالساً في مجلسه المبني على طاق باب خراسان من مدينته التي بناها وأضافها إلى اسمه، وسماها مدينة المنصور (بغداد)، مُشْرِفا على دجلة، وكانَ قد بنى على كل باب من أبواب المدينة في الأعلى من طاقه المعقود مجلساً يُشرِفُ منه على ما يليه من البلاد من ذلك الوجه، وكانت أربعة أبواب شوارع محدقة وطاقات معقودة، فأول أبوابها باب خراسان، وكان يسمى باب الدولة، لإقبال الدولة العباسية من خُرَاسان، ثم باب الشام، وهو تلقاء الشام، ثم باب الكوفة، وهو تلقاء الكوفة، ثم باب البصرة، وهو تلقاء البصرة، فبينما المنصور جالس في هذا المجلس مِنْ أعالي باب خُرَاسان إذ جاء سهم عابر حتى سقط بين يديه، فذُعِرَ منه المنصور ذعراً شديداً ثم أخذه فجعل يقلبه فإذا هو مكتوب عليه بين الريشتين:
أتطمع فىِ الحياة إلى التَّنَاد وتحسبَ أن مالك مِنْ مَعَادِ
ستسأل عن ذنوبكَ والخطَايَا وتُسأل بعد ذاكَ عن العباد
ثم قرأ عند الريشة الأخرى:
أحسنْتَ ظَنَك بالأيام إذْ حَسُنَت ولم تَخَفْ سوء ما يأْتي به القدر
وسالمَتْكَ الليالي فاغْترَرْتَ بها وعند صفو الليالي يحدُثُ الكدر
ثم قرأ عند الريشة الأخرى:
هي المقاديرُ تجرِي في أعِنَتها فاصبر فليس لها صَبْرٌ على حال
يوماً ثُرِ بك خَسِيس القوم ترفعه إلى السماء، ويوماً تخفض العالي
وإذا على جانب السهم مكتوب:
همذان فيها رجل مظلوم في حبسك، فبعث مِنْ فَوْره بعدد مِنْ خاصته، ففتشوا السجون والمَطَابِقَ فوجدوا شيخاً في بَنِيَّةٍ من الحبس فيه سراج يسرج، وإذا الشيخ مُوثَقٌ بالحديد متوجه نحو القبلة يردد هذه الآية " وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون" فسألوه عن بلده، فقال همذان، فحمل، ووضع بين يدي المنصور، فسأله عن حاله فأخبره أنه رجل من أبناء مدينة همذان، وأرباب نعمها، وأن واليك علينا دخل بلدنا ولي ضَيْعَة في بلدنا تُسَاوي ألف ألف (مليون) درهم، فأراد أخذهَا مني، فامتنعت فكبلني في الحديد، وحملني وكتب إليك أني عَاصٍ، فطُرِحت في هذا المكان، فقال: منذ كم لك في الحبس. قال الرجل: منذ أربع سنوات، فأمر بفَكِّ الحديد عنه، ولإحسان إليه، وإطلاق سراحه، وأنزله أحسن منزل، ثم رده إليه، فقال له: يا شيخ قد رَدَدنا عليك ضيعتك بخراجها ما عشت وعشنا، وأما مدينتك همذان فقد وليناك عليها، وأما الوالي الظالم فقد حكّمنَاك فيه، وجعلنا أمره إليك، فقال الرجل للمنصور: جزاك الله عني خير الجزاء، ودعا له بالبقاء، وقال: يا أمير المؤمنين أما الضيعة فقد قبلتها، وأما الولاية فلا أصلح لها، وأما واليك فقد عفوت عنه، فأمر له المنصور بمال جزيل، وبر واسع، وحمله إلى بلده مكرماً، بعد أن صرف الوالي وعاقبه على ما جنى من انحرافه عن سنة العدل وواضحة الحق، وسأل الشيخ مكاتبته في مهماته وأخبار بلده، وإعلامه بما يكون من ولاته على الحرب والخراج، ثم أنشأ المنصور يقول:
من يصحب الدهر لا يأمن تَصَرفه يوماً، وللدهر إجلاء وإمرار
لكل شيء وإن دامت سلامته إذا انتهى فله لا بدَ إقصار!!
وفي هذه القصة الكثير من العبر؛ منها أن الرعية يجب أن تُبلِغ الحاكم عن من يُخالف ويظلم وينحرف من ولاته، ويستغل الناس في إمارته، كما فعل شخص ما هنا "فاعل خير"، والذي أرسل الشكوى عن طريق سهم للخليفة المنصور، بكلماتها القوية البليغة، ومنها أيضا أن يكون الحاكم أو الملك أو الرئيس إيجابيا في استجابته لشكاوى الناس، منصفا للرعية من وزرائه ورجاله؛ فنرى الخليفة المنصور قد أرسل من يبحث في همذان كلها عن هذا الرجل المظلوم، والموجود في بلدة من ولاية إسلامية، والخليفة المنصور مسئول يومها عن أكثر من عشرين ولاية!!، ولكنه إحساس الخليفة بمسئولياته نحو رعيته، ومن الفوائد أيضا في هذه الحادثة عفو هذا الرجل الكبير العمر والعقل عن من ظلمه بعد أن أمكنه الله منه، أما الفائدة الجليلة التي أعجبتني في هذا الرجل المظلوم فهي اعتذاره عن الولاية لأنه لا يقدر على مسئولياتها، وهذا من نضجه وحكمته؛ فالعاقل هو من لا يحمل نفسه ما لا يطيق، حتى ولو كانت الإمارة على الناس!.
ويتبع >>>>>>>>>>> ثق بربك لا بنفسك، جويرية تأكيد الذات مشاركة5