بعد مرور خمسة وعشرين عاماً على اتفاق أوسلو، لم تنجح العملية السلمية ومقاربة حل الدولتين التي جاءت في إطارها في تحقيق الاستقلال المنشود الذي سعى من أجله الفلسطينيون. فقد اتضح جلياً أن معطيات تلك العملية والمفاوضات التي قامت على أساسها والاتفاقات التي وقعت بموجبها جاءت جميعها في ظل تناقض بين المقاربات السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الأمر الذي يفسر فشلها في تحقيق الاستقلال وعدم إمكانية الاعتماد عليها لتحقيق ذلك الهدف في المستقبل.
ورغم ذلك لا نستطيع تجاهل النتائج الإيجابية التي حققتها تلك العملية السلمية للفلسطينيين. فهي تعد مرحلة هامة من مراحل رحلة الكفاح الفلسطيني من أجل الوصول إلى الدولة المستقلة كاملة السيادة فوق تراب أرضه المحتلة. فخلال الربع قرن الماضي نجح الفلسطينيون في الوصول رسمياً إلى العالم بهوية سياسية دبلوماسية، لا تقل في شكلها وأدائها عن أي دولة أخرى من دول العالم، فبات العالم الْيَوْمَ بدوله ومؤسساته أكثر تهيئة لقبول الدولة الفلسطينية المستقلة. كما نحج الفلسطينيون في إبراز تناقض العملية السلمية، التي سعت إليها إسرائيل لتضمن بقاء الاحتلال باتفاقات ومفاوضات وهمية.
جاءت المقاربة السياسية للعملية السلمية بالنسبة للفلسطينيين بهدف التخلص من الاحتلال وتحقيق سيادتهم واستقلالهم فوق أرضهم التي احتلت عام 1967. في حين تمحورت المقاربة السياسية للعملية السلمية للإسرائيليين على أساس استخدام تلك العملية لضمان استمرار السيطرة الإسرائيلية الأمنية والتبعية السياسية والاقتصادية للأراضي الفلسطينية المحتلة، في إطار التخلص من الحكم المباشر لتلك الأراضي بالسماح للفلسطينيين بشكل من أشكال الحكم الذاتي. ونجحت إسرائيل من خلال تلك المقاربة بالتخلص من العبء السياسي والقانوني والمادي والأخلاقي كدولة محتلة، والتي ضاقت به ذرعاً خصوصاً في عهد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، لا بل أصبحت إسرائيل من خلال عملية السلام شريكاً شكلياً للفلسطينيين.
ومن الملاحظ بشكل جلي أن أية حلول قدمت أو ستقدم من قبل الإسرائيليين بما فيها ما جاء في إطار العملية السلمية، تصب جميعها لتحقق مقاربة إسرائيل في تحقيق الانفصال الشكلي عن الفلسطينيين في ظل ضمان بقاء السيطرة الأمنية والتبعية الاقتصادية للأراضي الفلسطينية، الأمر الذي يفشل عملياً مشروع الاستقلال الذي يسعى من أجله الفلسطينيون. ولا تخرج مشاريع مثل دولة منزوعة السلاح أو دولة ذات حدود مؤقتة أو حتى كونفيدرالية بين فلسطين ومصر أو الأردن أو إسرائيل أو جميعهم عن ذلك الإطار القائم على أساس مقاربة السيطرة الأمنية والتبعية الاقتصادية. وتفضل إسرائيل بقاء علاقتها مع الفلسطينيين في إطار مثل ذلك النوع من المشاريع أكثر من مشروع ضم الأراضي الفلسطينية أو الانسحاب أحادي الجانب، فالأول سيكلف إسرائيل أعباء الاحتلال المباشر، والتي سعت للتخلص منه عبر العملية السلمية، والثاني يعيد للأذهان سيناريو غزة الذي يمكن أن يتكرر في الضفة الغربية، مع بقاء تحمل الاحتلال نتائج تداعياته.
كما أن الحديث عن حل الدولة الواحدة الذي يتمتع من خلالها اليهود والفلسطينيون بحقوق متساوية، سواء من خلال دولة ثنائية القومية أو دولة ديمقراطية لكل مواطنيها، يحتاج ببساطة إلى قبول مؤسسة الحكم في إسرائيل وصاحبة القرار الأول والقوة القائمة فعلياً على الأرض بذلك، الأمر الذي يفسر عدم اقتران أي من الطروحات الحالية حول حل الدولة الواحدة بأي من آليات تحقيقها. رغم أن قبول إسرائيل بفكرة الدولة الواحدة ينهي ببساطة مقاربتها حول يهودية دولتها كما يهدد مستقبل الدولة الصهيونية التي ترسمه إسرائيل لنفسها بعناية، مما يجعل هذا الخيار للحل أمراً غير واقعي. ومن المعروف أن الثوار الفلسطينيين وقبل حربي عام 1967 و1973 هم أول من وضع آلية لتحقيق حل الدولة الواحدة، وذلك عبر تحرير كامل فلسطين أولاً ومن ثم إقامة دولة فلسطينية موحدة تضم المسلمين والمسيحين واليهود.
قد يكون الوقت الحالي ليس أفضل الأوقات لوضع مقاربات جديدة لتحقيق الحرية والاستقلال الفلسطيني المنشود. فالفلسطينيون في أضعف حالاتهم في ظل حصاد نتائج انقسام داخلي تخطى عتبة السنة العاشرة، وفي ظل علاقات عربية وفلسطينية متذبذبة. كما يأتي تطور العلاقات الإسرائيلية العربية غير المسبوقة، في ظل حالة ضعف عربي عامة صاحبت حقبة الثورات العربية، يسودها الصراع وتباين الأجندات واختلاف الأحلاف. فباتت إسرائيل حليفاً لعدد من الدول العربية في مواجهة إيران وحلفائها من دول وحركات عربية الاخرى. ومن الصعب إغفال الدور الذي تلعبه الإدارة الأمريكي الحالية بقيادة الرئيس دونالد ترامب، سواء على صعيد تمكين مقاربة إسرائيل السياسية في فلسطين، أو تمكين مقاربتها السياسية في المنطقة ككل إما باتجاه التطبيع مع الدول العربية أو تجاه تقويض مكانة إيران.
وعليه ليس المطلوب من الفلسطينيين الْيَوْمَ الاختيار بين حل الدولتين أو أي من الحلول في إطار العملية السلمية أو حتى حل الدولة الواحدة. فأية مبادرة للحل في ظل المعطيات سابقة الذكر لن تقدم للفلسطينيين الحل الذي يتطلعون إليه، حتى وإن جاءت من قبل جهة غير أمريكية، فالمعادلات الاقليمية والدولية لا تصب في مصلحة الفلسطينيين عموماً. ورغم ذلك لا يستطيع الفلسطينيون الوقوف متفرجين أمام المؤامرة الإسرائيلية المدعومة أمريكياً لتصفية القضية الفلسطينية.
إن بقاء الإرتباط الفلسطيني في إطار إتفاقات أوسلو بات يشكل عبئاً على الفلسطينيين، فتلك الاتفاقات لا تشرعن فقط لبقاء الاحتلال بلا ثمن، بل باتت تؤثر سلباً على مكانة ومصداقية القيادة الفلسطينية. ويمكن للفلسطينيين الخروج من مأزق العملية السلمية واتفاقات أوسلو القائمة على أساسها، بالإعلان رسمياً من داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عن انتهاء العمل بجميع تلك الاتفاقات مع بقاء دولة فلسطينية ترزح تحت نير الاحتلال وتحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وهي الجهة الرسمية التي لا تزال تمثل الكل الفلسطيني رسمياً أمام العالم حتى الآن. وضمن ذلك الوضع تنتقل دوائر السلطة جميعاً وتلقائياً تحت إدارة وإشراف المنظمة. إلا أن ذلك الوضع يتطلب تنشيط وتفعيل عمل المنظمة بمختلف إداراتها في الخارج، وبمستوى أداء وفاعلية لا يقل عن المستوى الداخلي، لتبقى المنظمة قادرة على العمل ومواصلة مهامها ومتابعة تحقيق أهدافها من الخارج في حال محاصرة قيادتها في الداخل الفلسطيني المحتل.
وقد يكون من أهم أهداف عمل المنظمة في المرحلة التالية مواجهة مخططات الاحتلال فيما يتعلق بالاستيطان والقدس والتهويد واللاجئين والانتهاكات الإنسانية عموماً، ليس فقط في أروقة الامم المتحدة والمنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية، بل أيضاً تركيز عملها وتأثيرها تجاه مؤسسات الحكم والمجتمع المدني في الدول الصديقة والمحايدة. يأتي ذلك بالإضافة إلى تنسيق الفعاليات الفلسطينية الرافضة لممارسات الاحتلال في الداخل المحتل ودول العالم أجمع. وبات من الضروري أن يتبنى الفلسطينيون رسمياً سياسة مقاطعة الاحتلال وبشكل واسع في الداخل المحتل وفي الخارج وعلى مختلف الأصعدة وضمان وصولها لأوسع نطاق ممكن.
إن تطور استراتيجيات عمل المنظمة يتطلب وبشكل فوري ترتيب وإصلاح وضع المنظمة، سواء من الناحية السياسية أو الإدارية، لتصبح قادرة على تحمل أعباء المرحلة القادمة، حيث من المتوقع وضمن تلك التطورات أن تنضوي جميع الفصائل والأطياف الفلسطينية من داخل وخارج فلسطين تحت مظلة المنظمة، وحتى من يختلف معها اليوم.
واقرأ أيضًا:
صفقة القرن تسقطها القدس ويشطبها الأقصى / نتانياهو وصفقة القرن .. السكوت علامة الرضا ! / صفقة القرن اقتصادٌ مذلٌ ورفاهيةٌ مخزيةٌ