لا يعتبر إعلان بلفور، الذي جاء قبل أكثر من قرن من الزمان، مجرد تصريح يفضح نية بريطانيا باقتراف أكبر جرائم هذا العصر، بل يعتبر دليل الإدانة على اقترافها تلك الجريمة عن سبق إصرار وترصد. فعلى الرغم من أن إعلان بلفور نفسه، والذي اعتمدته الحكومة البريطانية نهاية عام 1917، لا يترتب عليه أية التزامات أو تبعات قانونية، إلا أن مساعي وممارسات بريطانيا بعد ذلك لترسيخه قانونياً وتجسيده فعلياً على الأرض يضع بريطانيا في دائرة الإدانة.
عملت بريطانيا على ترسيخ إعلان بلفور قانونياً بفرض فحواه في قررات المؤتمرات وضمن بنود المعاهدات الدولية، كما سعت بعد ذلك لتجسيده على الأرض بالقوة خلال عهد احتلالها وانتدابها على فلسطين. فبريطانيا تتحمل كامل المسؤولية القانونية عن جريمتها بحق أرض وشعب فلسطين، بعد أن فتحت للمهاجرين الغرباء اليهود أبواب الهجرة إلى فلسطين، ومكنتهم من الإقامة والاستيطان فيها، لتغير بذلك خريطة البلاد الديمغرافية، كما ساعدتهم بعد ذلك في إحكام سيطرتهم عليها بالقوة.
جاءت جميع تلك السياسات البريطانية المبيتة خلال عهد الاحتلال والانتداب البريطاني على فلسطين، وهو الأمر الذي يخالف بشكل فاضح حدود مسؤوليات بريطانيا كدولة احتلال أو انتداب، ويحملها كامل المسؤولية القانونية عن جرائمها بحق شعب فلسطين، الذي لا يزال العالم حتى اليوم يقف شاهداً على فصول معاناته اليومية، سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، بفعل سياسات دولة الفصل العنصري، أو داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 بفعل ممارسات دولة الاحتلال، إسرائيل.
لا يحمل تصريح بلفور نفسه أي اعتبار قانوني، رغم إقراره من قبل الحكومة البريطانية وبالنيابة عنها، لأنه لا يمتلك صفة التعاقد الدولي. فإعلان أو تصريح بلفور يعتبر رسالة موجهة من (آرثر جيمس بلفور) وزير خارجية بريطانيا في حينه، إلى (ليونيل وولتر دي روتشيلد) المصرفي اليهودي البريطاني وعضو حزب المحافظين وأحد قادة اليهود في بريطانيا، إلا أنه لا يعتبر شخصاً اعتبارياً. وتتطلب الوثيقة لتصبح رسمية، وفقاً لنصوص القانون الدولي، أن تكون بين أطراف ذات مكانة اعتبارية دولية، وبناء على ذلك تخرج جميع الوثائق وحيدة الطرف منها كإعلان بلفور.
عكس إعلان بلفور أربع قضايا هامة، فضحت نية بريطانيا المبيتة لاقتراف جريمتها بحق فلسطين وشعبها. فأكدت بريطانيا من خلال الإعلان أنها سوف تسعى لوضعه موضع التنفيذ، انطلاقاً من مشاعر العطف والشفقة، وليس انطلاقاً من تحقيق العدالة أو فرض الحق. كما اعتبرت بريطانيا أن الشعب الفلسطيني، والذي كان يمثل في حينه الأغلبية العظمى بنسبة تعدت الـ 95%، مجرد طوائف غير يهودية، وكأن الأفراد اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين قادمين من أوروبا الشرقية قبل عقود معدودة هم سكان البلاد، في تجاهل صارخ للواقع والتاريخ والقانون والمعايير الأخلاقية. ولم تتعد نسبة اليهود في فلسطين من مجمل عدد السكان عام 1838 الـ 2%.
على النقيض اعتبرت بريطانيا أن اليهود المنتشرين في جميع أرجاء الأرض والذين ينتمون إلى أجناس مختلفة شعبا واحدا ودعت لإقامة وطن قومي لهم، متبنية الرواية الصهيونية المضللة. ورغم أن نص تصريح بلفور أشار بوضوح إلى أن تنفيذه لن ينتقص من الحقوق المدنية أو الدينية للفلسطينيين، وذلك وفق المعايير القانونية الدولية، تعمدت بريطانيا التجاهل التام لذلك الحق.
والحقيقة أن بريطانيا كانت تهدف من وراء إتباع تلك السياسات التي فضحها إعلان بلفور إلى تحقيق مصالحها باستخدام اليهود، الأمر الذي اعتبره اليهود فرصة لتحقيق مآربهم أيضاً.
فمن ناحية، اعتبرت بريطانيا أن هجرة اليهود إلى أوروبا، بعد اضطهادهم في روسيا، يشكل تهديداً سياسياً واجتماعياً مباشراً لها ولدول أوروبا أيضاً، فأصدرت بالفعل عدد من التشريعات التي تهدف لتقويض وحصر تلك الهجرات إليها، وذلك قبل إصدارها تصريح بلفور بسنوات.
لم تختلف مواقف دول أوروبا أيضاً عن موقف بريطانيا تجاه تهديد هجرات اليهود إليها. فاعتبرت روسيا تصريح بلفور حلاً مقبولاً للتخلص من عبء المهاجرين اليهود في القارة الأوروبية. وأيدت ألمانيا بشدة فحوى الإعلان، خصوصاً وأنها كانت قد تقدمت بطلب إلى الحكومة التركية لتمكين اليهود في فلسطين قبل صدور ذلك التصريح بعام واحد. وأيدت كل من فرنسا وإيطاليا التصريح بمجرد إعلانه من قبل بريطانيا. ووافقت الولايات المتحدة على فحوى الإعلان، حتى قبل صدوره، حيث اهتمت حكومة بريطانيا بالتقرب من الرئيس الأمريكي (ويلسون)، والذي أحيط في حينه بعدد من القيادات الصهيونية المؤثرة، خصوصاً بعد التدخل الأمريكي في الحرب إلى جانب الحلفاء.
ومن ناحية أخرى، رأت بريطانيا في زرع اليهود في فلسطين كموالين لها يعد أمراً مساعداً لتحقيق أطماعها في المنطقة، في ظل تنافس شرس بينها وبين الدول الأوروبية الأخرى على تركة أنقاض الإمبراطورية العثمانية. ويقدم موقف بريطانيا بتوقيعها على اتفاق سايكس بيكو مع فرنسا عام 1916، وسعيها من خلاله لتقسيم فلسطين وتغيير معالمها السياسية، دليلاً إضافياً على نواياها وتوجهات سياساتها تجاه فلسطين بعد ذلك.
أما اليهود فقد اعتبروا أن الوصول إلى اتفاق مع الحكومة البريطانية حول صيغة لإعلان بلفور، يحسم الجدل داخل الحركة الصهيونية حول الموقع الجغرافي لوطنهم المزعوم من ناحية، ويمكن اليهود من تأسيس وطن لهم في فلسطين بمساعدة بريطانيا، القوة العطمى في ذلك الوقت. فاعتبر (وايزمان) أن بريطانيا ستشجع الاستيطان اليهودي في فلسطين، بما يسمح بترحيل أكثر من مليون يهودي في غضون عقدين أو ثلاثة عقود على الأكثر.
عملت بريطانيا على إدراج فحوى تصريح بلفور في قرارات مؤتمر فرساي عام 1919 وقرارات مؤتمر سان ريمو ونصوص معاهدة سيفر عام 1920 وكذلك في بنود معاهدة لوزان التي جاءت بدل منها، وجعلت تصريح بلفور جوهر مادة صك الانتداب على فلسطين، الذي أقرته عصبة الأمم عام 1922، وذلك لترسيخ فحوى إعلان بلفور قانونياً. وكانت الدولة العثمانية وصاحبة الولاية على فلسطين قد رفضت استجداءات اليهود المتكررة بالسماح لهم بالهجرة إلى فلسطين، كما عارضت بعد ذلك إدراج إعلان بلفور في معاهدة سيفر أو معاهدة لوزان.
ولم تدخر بريطانيا جهداً لتضع إعلان بلفور موضع التنفيذ، ففتحت باب الهجرة إلى فلسطين على مصراعيه. فارتفعت نسبة عدد اليهود في فلسطين بشكل ملفت في ظل حكم الإدارة البريطانية الاحتلالية والانتدابية، وما بين عامي 1918 و1922 ارتفعت نسبة اليهود من 5% إلى 10%، بينما وصلت إلى 35% نهاية عهد الانتداب عام 1948.
وسمحت الإدارة العسكرية البريطانية لليهود خلال عهد الاحتلال (1918_1922)، بالتعاون مع لجنة صهيونية تم إرسالها من لندن، بإنشاء حراسة خاصة لمستوطناتهم، بينما أخضعت جميع الأراضي الفلسطينية أمنياً تحت سيطرة الجيش البريطاني. واحتل فقط الإنجليز واليهود المناصب العليا في حكومة فلسطين. وأنشأت لجنة للأراضي لتسهيل عمليات بيع العقارات لليهود. وفي حين سمحت حكومة الاحتلال لليهود بتطوير منطقة القدس الغربية، وقيدت البناء على العرب في منطقة القدس الشرقية، ومنعته تماماً في المناطق المحيطة بالبلدة القديمة. ومن المعروف أن تقسيم مدينة القدس إلى أربع مناطق، جاء خلال عهد الاحتلال البريطاني.
وأدارت حكومة الانتداب البريطاني بالتعاون مع الوكالة اليهودية شؤون فلسطين (1922_1948)، فعدلت قوانين الملكية والهجرة والإقامة والجنسية والعمل، لتمكين اللاجئين اليهود الجدد. كما عملت تلك الإدارة على تدعيم عمل ونشاط المؤسسات اليهودية العسكرية منها والاقتصادية على حساب الشعب الفلسطيني.
لا تتنكر أو تخجل بريطانيا الرسمية اليوم من الدور الذي لعبته لخلق كيان إسرائيل. إلا أن جميع ما ترتب على إعلان بلفور والإجراءات التي قامت بها بريطانيا كدولة احتلال أو انتداب لتطبيقه باطلة، وتستوجب الاقتصاص. وعلى بريطانيا اليوم أن تقف أمام مسؤولياتها القانونية وأن تتحمل تبعات جرائمها بحق الفلسطينيين، خصوصاً وأن جميع الأسس التي اعتمدت عليها في حينه لتنفيذ جرائمها تحمل علامات تساؤل كبيرة.
ويبدو الدور المركزي لعصبة الأمم في تنفيذ بريطانيا لجرائمها، بإقرارها صك الانتداب البريطاني على فلسطين. فنقلت العصبة إعلان بلفور من مجرد رسالة أحادية الطرف ولا تحمل أية مكانة اعتبارية دولية إلى وثيقة دولية رسمية، كما أقرت العصبة إجراءات تنفيذ ذلك الإعلان. وكانت عصبة الأمم قد أنشأت في الأساس بناء على قرارات مؤتمر الصلح في باريس (فرساي) عام 1919، الذي انعقد في أعقاب الحرب العالمية الأولى، بمبادرة وعضوية من الدول الأربع المنتصرة لتحقيق مصالحها، ودون مشاركة من معظم دول العالم. وعلى ذلك يعتبر ميثاق عصبة الأمم صيغة تعاقدية بين الدول الموقعة عليه فقط، كما تعتبر قراراتها ملزمة فقط لأعضائها. ولم تكن ألمانيا وروسيا والنمسا والمجر وبلغاريا وتركيا أعضاء في العصبة كما رفضت الولايات المتحدة الانضمام إليها، وانسحبت في وقت لاحق إيطاليا واليابان من العصبة. إن ذلك الأمر يستوجب إعادة البحث في مدى قانونية قرارات العصبة ومدى شرعية صك الانتداب البريطاني على فلسطين من الأساس، خصوصاً وأن معاهدتي فيينا لقانون المعاهدات تشترط رضى الأطراف ذات العلاقة، كما أن الأمم المتحدة لم ترث التزامات عصبة الأمم.
وإذا افترضنا جدلاً أن عصبة الأمم وقراراتها قانونية وملزمة لجميع دول العالم بما فيها تلك التي لم تكن عضواً فيها، جاء إقرار العصبة لصك الانتداب البريطاني في فلسطين متناقضاً مع نصوص ميثاق العصبة نفسها. فحمل صك الانتداب بالإضافة إلى نص إعلان بلفور نفسه في مقدمة الصك، ثمانية بنود من أصل ثمانية وعشرين لتحديد آليات تنفيذه لتآسيس وطن لليهود في فلسطين. ويتناقض ذلك بشكل صارخ مع نصوص الميثاق التي تؤكد على ضرورة الحفاظ على وحدة الأقاليم التي تقع تحت الانتداب وعدم تجزأتها أو تأجيرها. كما ينتهك صك الانتداب جميع بنود ميثاق العصبة التي تشدد على حق الشعوب في تقرير مصيرها.
ويؤكد ميثاق العصبة على عدم جواز ضم الأقاليم التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وحق تلك الدول بالاستقلال، إلا أنها كانت تشترط أن تسترشد تلك الدول بدولة انتداب لفترة موقتة. ويعتبر ميثاق العصبة أن الانتداب يضع الأوطان وديعة لحين عودتها إلى شعوبها. واشترط الميثاق موافقة الشعوب على دولة الانتداب. في حالة فلسطين، لم يتم الرجوع إلى الشعب الفلسطيني لأخذ موافقته على بريطانيا كدولة الانتداب، كما لم يتم الرجوع لأي من الشعوب الأخرى التي خضعت تحت حكم الانتداب. كما أن بريطانيا لم ترجع الوديعة التي ائتمنت عليها للشعب الفلسطيني وخانت الأمانة.
إن مؤامرة اختلاق إسرائيل منذ بداياتها حتى نهايتها جاء بالتدليس والمؤامرات، واستغلال ضعف شعوب المنطقة وانعدام إرادتها في نهاية عهد الإمبراطورية العثمانية ووقوع معظم بلدان الشرق الأوسط تحت أسر الاستعمار. فأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارالتقسيم 181 عام 1947، خلال عهد الانتداب البريطاني على فلسطين. وأعلن اليهود دولتهم في العام التالي بموجب قرار التقسيم، وفي نفس اليوم الذي أنهت فيه بريطانيا انتدابها على فلسطين. واعترفت الجمعية العامة أيضاً بإسرائيل عام 1949 بموافقة نفس عدد الدول تقريباً التي أقرت قرار التقسيم، في ظل مؤسسة لم يتجاوز عدد أعضائها السبع وخمسين دولة، يمثل معظمهم دول الاستعمار، حيث لم تكن أي من دول العالم الثالث قد استقلت بعد.
وتعتمد إسرائيل لإثبات بنوتها وارتباطها الواقعي والقانوني بفلسطين على إعلان بلفور وتبعاته، وهي جميعها وثائق مضللة وليس من الصعب إثبات عدم قانونيتها، وعلى قراري التقسيم والاعتراف بها واللذان صدرا عن الجمعية العامة في الأمم المتحدة في عهد شكل معظم أعضائها دول أوروبا الاستعمارية، وكانت معظم باقي دول العالم تخضع تحت نير الاستعمار، كما أن قرارات الجمعية العامة غير ملزمة، فلم ينفذ قرار واحد صدر عنها من بين مئات القرارات التي اعتمدت تأييداً للحق الفلسطيني على سبيل المثال. وعلى الرغم من أن القرارات التي تصدر عن الجمعية العامة في عهدنا الحالي تأتي في ظل مشاركة جميع دول العالم الحر.
واليوم وبعد أكثر من قرن من الزمان وفِي ظل عالم حر تحرر جميع شعوبه إلا الشعب الفلسطيني، ألم يأتِ الأوان لاسترجاع الحق، ألم يحن الوقت لتساهم دول العالم الحر، خصوصاً تلك التي ساهمت في ولادة هذا الخلل وعلى رأسها بريطانيا، في حل القضية الفلسطينية العالقة، خصوصاً وأن الحق لا يموت، والشعب الفلسطيني سيبقى حياً شاهداً على هذا الحق ومحارباً من أجله.
واقرأ أيضاً:
بلفور... كم أكرهك وكم أعشق القوة! / الدولة الفلسطينية ستحرق ورقة بلفور / وعد عباس ووعد بلفور في نوفمبر / في ذكرى وعد بلفور دولة للشعب اليهودي...!؟ / هل سيستطيع الفلسطينيون مواجهة مؤامرات تصفية قضيتهم؟