الفصل السابع عشر
هناك رذائل حاربها الإسلام لأنها تناقض آداب الأخوة وشرائطها. إن القاعدة التي تسوي بها الصفوف تسوية، ترد المتقدم إلى مكانه، وتقدم المتأخر عن أقرانه، هي الأخوة، فإذا نشب نزاع أو حدث هرج ومرج طبقت قوانين الإخاء على الكافة ونفـــذ حكمها، [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (الحجرات:10).
وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الرذائل في حديثه الجليل، وهي رذائل تبدو للنظر القاصر تافهة الخطر، غير أنها لمن تدبر عواقبها تصدع القلوب وتجفف عواطف الود منها:
قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن، فإن الظنَ أكذبُ الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانا كما أمركم الله تعالى، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: ماله ودمه وعرضه، إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم. التقوى ها هنا. التقوى ها هنا. التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره، ألا يَبِع بعضُكم على بيعِ بعض، وكونوا عبادَ الله إخوانا.... ولا يحل لمسلم أن يهجُرَ أخاه فوق ثلاث" أخرجه مسلم.
في المجتمع المتحاب بروح الله، الملتقي على شعائر الإسلام، يقوم إخاء العقيدة مقام إخاء النسب، وربما ربت رابطة الإيمان على رابطة الدم. والحق أن أواصر الأخوة في الله هي التي جمعت أبناء الإسلام أول مرة، وأقامت دولته ورفرفت رايته، وعليها اعتمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأسيس أمة ثابرت على هجمات الوثنية الحاقدة وسائر الخصوم المتربصين، ثم خرجت بعد صراع طويل وهي رفيعة العماد، وطيدة الأركان، على حين ذاب أعداؤها وهلكوا.
إن الأمور تُذكر بأضداها، وفي عصرنا هذا يذكًرنا تجمع اليهود حول باطلهم، وتطلعهم إلى إقامة ملك لهم، ومجيئهم من المشرق والمغرب نافرين إلى الأرض المقدسة، تاركين أوطانهم الأولى وما ضمت من ثروات وذكريات، يذكرنا هذا الانبعاث عن عقيدة باطلة بالانبعاث الأغر الذي وقع من أربعة عشر قرنا حين يَمَم المسلمون من كل فج شطر يثرب وهاجروا من مواطنهم الأولى إلى الوطن الذي اختاروه ليقيموا فيه أول دولة للإسلام ["هذا قياس مع الفارق، فالمهاجرون كان يقودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤيدهم الوحي من السماء، أما الصهاينة فيقودهم مجرمون عتاة، من كل الآفاق، تجمعوا حول عقيدة باطلة يؤيدهم طغاة الاستعمار وشياطينه"].
كانت المدينة التي احتضنت الإسلام ومجدت كلمته، تقيم العلاقات بين القاطنين والوافدين على البذل في ذات الله، والإيثار عن سماحة رائعة والمساواة بين الأنساب والأجناس وتبادل الاحترام والحب، وإشاعة الفضل وتقديس الحق، وإسداء المعروف عن رغبة فيه لا عن تكليف به.
قال الله عزل وجل:[وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ....] (الحشر:9)، وتلك من علامات الإخاء الصحيح، إخاء العقيدة الخالصة لوجه الله، لا إخاء المنافع الزائلة، ولا إخاء الغايات الدنيا، وتعاليم الإسلام ترعى هذا الإخاء، حتى لا يعدو عليه ما يكدره، فلا يجوز لمسلم أن يسبب لأخيه قلقا أو يثير في نفسه فزعا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُ لِمُسلِمٍ أنْ يُرَوٍع مُسلِماً" – أخرجه أبو داود.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نَظَر إلى مُسْلِمٍ نظرَةً يُخِيفَهُ فيها بغيرِ حقٍ أخافَهُ اللهُ يومَ القيامة"– أخرجه الطبراني.
وما يؤدي إلى إيذاء المسلم أو يقرب من العدوان عليه يُعتَبر جريمة غليظة، فكيف بإيذائه والاعتداء عليه!.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أشَارَ إلى أخيهِ بحَدِيدةٍ فإنَّ الملائكةَ تَلعنُه حتى ينتَهِي، وإن كانَ أخاه لأبِيه وأمِه"– أخرجه مسلم.
وبهذه الوصايا كانت الأخوة تأمينا شاملا، تبث في أكناف المجتمع السلام والطمأنينة.
يتبع >>>>>>>>>>> الدعوات العنصرية تفرق أبناء الأمة