الفصل السابع عشر
ولقد شد من أزر الأخوة بين أبناء أمتنا الواحدة تحريم الإسلام للاستكبار والافتخار، والدعوة إلى تفضيل جنس أو لون من البشر على باقي أبناء الأمة، فالأخوة الشاعرين بالشراكة في أب واحد، والموالاة على دين واحد، لن تجعلهم حظوظ الدنيا أعداء، ولا مكان لافتخار باطل بين قوم يعلمون أن الكرامة للتقوىّ وأن التقوى في القلوب، وأنه لا فضل لعربي على أعجمي، ولا فضل لأبيض على أسود، ولا أصفر على أحمر إلا بالتقوى، وأن كلنا لآدم، وآدم من تراب، وأن القلوب إلى الله ما يدري سرها أحد إلا هو سبحانه وتعالى، ومن الحوارات الجميلة بين شاب أسود وفتاة بيضاء الحوار التالي فهيا نستمتع بقراءته معاً:
فـتاة بيضاء قالت لشاب سوداني يا أسود من باب السخرية
فرد عليها قائلاً: تقولين أســـود؟؟؟
تقولين أســـود ؟؟؟
وكل من يزور الكعبة يقبل لوني بانحناء،
السواد هو صندوق سر لرحلات الفضاء،
السواد هو بترول مبدل صحاريك لواحة خضراء،
لولا السواد ما سطع نجم ولا ظهر بدر في السماء،
السواد هو لون بلال المؤذن لخير الأنبياء،
لولا السواد لا سكون ولا سكينة بل تعب وابتلاء،
تقولين أســـود؟؟؟
تقولين لي أسود؟؟؟؟
والسواد فيه التهجد والقيام والسجود والرجاء،
فيه الركوع والخشوع والتضرع لاستجابة الدعاء،
فيه ذهاب نبينا من مكة للأقصى ليلة الإسراء،
لو ضاع السواد منا علينا أن نستغفر ونجهش بالبكاء
عزيزتي:
تأملي الزرع والضرع وسر حياتنا في سحابة سوداء،
اسمعيني والله أنتي مريضة بداء الكبرياء،
أنصتي لنصيحتي يا بيضاء لوصف الدواء،
عليك بحبة مباركة من لوني مع جرعة من ماء،
أنا لست مازحاً وستنعمين والله بالصحة والشفاء،
سامحيني يا مغرورة لكل حرف جاء وكلمة هجاء،
وكل ما ذكرت هو حلم في غفوة ليل أسود أو مساء،
لا أسود ولا أبيض بيننا في شرعنا سواء،
كلنا من خلق الله الواحد نعود لآدم وأمنا حواء،
بالتأكيد قد أحببت السود من بعد كـــــــــلامه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ أوحَى إليَّ أنْ تَواضَعُوا حتَّى لا يَبغِي أحدٌ على أحد، ولا يَفخَرُ أحدٌ على أحد"– أخرجه أبو داود.
ورهب الإسلام من يلعب بهم الشيطان ويغريهم بالتطاول على إخوانهم طلبا للاستعلاء في الأرض، فبين أن هؤلاء المتطاولين سوف يتضاءلون يوم القيامة، وعلى قدر ما انتفخوا ينكمشون حتى يصيروا هباءً ينضغط في مواضع النعال.
وفي الحديث: "يُحشَرُ المُتكبِّرون يومَ القيامةِ أمثال الذًرِ في صورِ الرجالِ يَغْشاهُم الذُلُ في كُلِ مكانٍ" – أخرجه الترمذي.
ومما يمزق أواصر الأخوة التهكم والازدراء والسخرية من الآخرين، إن هذه الأخلاق تنشأ عن جهالة غاشمة وغفلةٍ شائنة، إن من حق الحائر أن يُرشَد لا أن يُضحَكَ عليه، وإذا وُجدت بشخص عاهة أو عُرضت له سيئة فآخر ما يُتَوقع من المسلم أن يجعل ذلك مثار تندره واستهزائه.
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ......] – (الحجرات 11).
وعن الحسن: "إن المُستهزِئين بالناس يُفتح لأحدهم في الآخرة باب من الجنة، فيقال له: هلم، فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء أُغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر، فيقال: هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء أُغلق دونه، فما يزال كذلك حتى إنً أحدَهُم ليُفتَحَ له الباب من أبوابِ الجنةِ، فيقال له: هلم فما يأتيه من الإياس" - أخرجه البيهقي.
ذلك جزاء الساخرين، وهي عقوبة من جنسِ الذنب المقترف، كأنها توبيخ للمستهزئين وتذكير لهم بما كانوا يعملون.
ومما اتخذه الإسلام لصيانة الأخوة العامة ومحو الفروق المصطنعة توكيد التكافؤ في الدم والتساوي في الحق، وإشعار العامة والخاصة بأن التفاخر بالأنساب باطل، فما يفضل أحد نظيره إلا بميزة يحرزها لنفسه بكده وجده، فمن لا امتياز له بعمل جليل لم ينفعه أسلافه، ولو كانوا ملوكَ الآخرة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إذا كَانَ يومُ القيامةِ أمرَ اللهُ مُنَادِياً ينادي: ألا إني جَعلْتُ نَسَباً، وجَعلتُم نسَباً، فجعلتُ أكرمَكُم أتقَاكُم، فأبيتُم إلا أنْ تقُولوا فُلان ابن فلان، فاليومَ أَرفعُ نسَبِي وأضعُ أنسَابَكُم!!"- أخرجه البيهقي.
وهذا مصداق قوله تعالى: [فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ* فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ]- (المؤمنون 101 – 103).
والغريب أن عادة العرب في الاستعلاء بالنسب، والزهو بالآباء قد غلبت واستشرت في باقي المجتمعات التي تدين بالإسلام، فكان ذلك من أسباب المصائب الخطيرة في ماضينا وحاضرنا (كانت العصبية القبلية السبب الرئيسي في سقوط الدولة الأموية وفي سقوط الأندلس بعد ذلك).
ومن وسائل الإسلام كذلك في المحافظة على الإخاء بين بنيه مهما اختلفت أوطانهم وعشائرهم، إماتته للنزعات العنصرية والعصبيات الجنسية. إنه من الطبيعي أن يحب المرء وطنه وقومه، لكن لا يجوز أبدا أن يكون ذلك سببا في نسيان المرء لربه وخلقه وبأن المسلمين كلهم أخوة، مهما اختلفت أجناسهم وأنسابهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خَيرُكُم المُدافِع عن عشيرتِه ما لم يَأثم" – أخرجه أبو داود. وسُئِل ما العصَبية، قال:"أن تُعينَ قومَك على الظُلم"– أخرجه أبو داود.
إن الأُخُوةََ في الإسلامِ تعني الإخلاص له، والسير على سبيله والعمل بأحكامه وتغليب روحه على الصلات الخاصة والعامة، واستفتاءه فيما يعرض من مشكلات، وغض الطرف عما عدا ذلك من صيحات ودعوات، وسأختم هذا الفصل بقصة أديب روسي أبى أن يتنعم والناس من حوله جوعى أشقياء، وبعد أن شارك الآخرين ثروته شعر بالسعادة التي طالما افتقدها منذ نعومة أظفاره:
سعادة تولستوي في إسعاده لمن حوله
نقطة التحول في حياة تولستوي لها جذورها القديمة ولكنها لم تتخذ موقفا كاملا وحادا إلا في سن السبعين، حيث كان يؤمن في صدر شبابه أن الناس جميعا من حقهم السعادة، وأنه لا يجب أن يستأثر بالثروة كلها، وكان يؤمن بتوزيع أراضيه على الفلاحين مقابل أقساط سنوية صغيرة، ولم يكن الناس معتادين على هذا الكرم من الأغنياء في ذلك العصر فتوقفت تلك البذرة عن النمو حتى وصل سن السبعين فترك قصره ونزل إلى الشعب الفقير وعاش حياتهم الفقيرة البائسة، وأمام ذلك حاربته زوجته واتهمته بالجنون، حتى أنه في يوم من الأيام ركب القطار إلى غير وجهة محددة وأصر على الركوب مع الفقراء مما عرضه إلى الإصابة بمرض صدري خطير، نقل على أثره إلى المستشفى، وقد حاولت زوجته رؤيته إلا أن ابنته رفضت ذلك تماما.
مات تولستوي متأثرا بالالتهاب الرئوي الذي أصابه وكانت آخر كلماته: "لقد انتهى كل شيء، تلك هي النهاية، وهذا لا يهم". وهكذا انتهت قصة الحب التي جمعت بين تولستوي وزوجته صوفيا نهاية حزينة بعد أن كانت في البداية قصة مليئة بالسعادة والأفراح، والذي لا شك فيه أن المصدر الأكبر لهذه المأساة كان كامنا في اختلاف وجهات النظر بين هذين الزوجين، ونظرتهما المختلفة لأسباب السعادة في الحياة، لقد اكتشف تولستوي فجأة أنه لا يستطيع أن يعيش سعيدا وملايين الناس من حوله تعساء، كان محباً للعدل، وكان قلبه مليئا بالرحمة، وكان يتمنى أن يرى عالما إنسانيا لا يُعذب فيه الإنسان؛
كان حلمه صعب التحقيق وخاصة في ذلك العصر الذي كان فيه الظلم يفرض نفسه بقوة السلاح على الحياة والناس، لقد تعذب تولستوي بحلمه الكبير، ومات دون أن يرى هذا الحلم يتحقق كما كان يتمنى وينشر أجنحة الرحمة على الناس أجمعين، في البدء كان البحث عن السعادة في حياة الوفرة والرفاهية والغنى الناجم عن ما ورثه من إقطاعيات، وفي النهاية تحققت السعادة في حياته بإسعاده لمن حوله من البؤساء الأشقياء، ويبقى عزاؤه كامناً في أنه فعل ما كان يعتقد أنه صوابا وحسب، ويكفيه أن التاريخ خلد ذكره وفعله، ورغم الصعوبة الشديدة في أن يتخذ إنسانا غنيا أرستقراطيا القرار الذي اتخذه تولستوي، ولكن العظمة في أن تفعل ما تعتقد أنه صوابا، مهما كلفك هذا الاعتقاد!،
وأنا -بذكري لتلك القصة الروسية- لا أدعوا الأغنياء وأصحاب الثروات إلى أن يفعلوا مثل ما فعل تولستوي في ثروته، ولكن أذكرهم فقط أن سعادة النفس الإنسانية تكمن في أن نشارك الفقراء والمحتاجين ممن حولنا بعضا مما وهبنا الله من خيره، سواء كان هذا الخير متمثلا في ثروة ومال أو جاه ونفوذ وسلطان أو حتى عافية وصحة بالبدن نساعد بهم أنفسنا أولا ثم الآخرين المحتاجين للفائض منا في أتراحهم وأفراحهم.
يتبع >>>>>>>>>>> تأكيد الذات في العمل