إغلاق
 

Bookmark and Share

فلسطين المحتلة والعقل الأمريكي ::

الكاتب: أ.د عبد الوهاب المسيري
نشرت على الموقع بتاريخ: 15/11/2008


"قد يظن البعض أن عرض الخرائط التي تبيّن- بما لا يدع مجالاً للشك- أن المنطقة المخصصة للدولة الصهيونية مبتورة وأنها غير قابلة للحياة. وقد يظن البعض أن عرض الصور التي توضح طبيعة احتلال إسرائيل للمناطق الفلسطينية سيكون له نوع من التأثير على القراء من الأمريكيين الفطنين حتى وإن كانوا غير ملمين بالموضوع عموماً. ولكن يبدو أن الواقع غير ذلك" فالإنسان لا يستجيب للواقع المادي مباشرة (مثير يتبعه استجابة بطريقة مباشرة) وإنما يستجيب له من خلال إدراكه له، أو ما نسميه الخريطة الإدراكية، وهي مجموعة الأساطير والذكريات والرؤى والصور والمقولات القَبْلية (التي تسبق عملية الاستجابة للواقع المادي) التي تحدد ما يمكن أن يراه الإنسان في واقعه المادي المباشر.

ويبدو أن الخريطة الإدراكية الكامنة في العقل الأمريكي (بخصوص فلسطين المحتلة) تحدد حدود الرؤية من القوة بحيث أنها تجعل من الصعب، بل من المستحيل على المثقفين الأمريكيين، بل والمتخصصين، أن يدركوا الواقع في كل أبعاده، فما بالك بالإنسان الأمريكي العادي الذي يقوم الإعلام الأمريكي بمحو ذاكرته. وقد ظهر في 14 فبراير 2008 مقال في الموقع الإلكتروني www.counterpunch.com بقلم كاثيلين وبيل كريستيسون (وكانت كاثلين محللة سياسية سابقة في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ومؤلفة. أما بيل فكان مدير مكتب المخابرات المركزية الأمريكية للتحليل الإقليمي والسياسي). وعنوان مقالهما "التحدث مع الجدار: فلسطين في الفكر الأمريكي"، وهما يلقيان بعض الضوء على الإدراك الأمريكي للصراع العربي الإسرائيلي. يقول المؤلفان: "تحدثنا في الآونة الأخيرة مع مجموعة صغيرة بخصوص السياسة الخارجية [الأمريكية] وكرسنا جزءاً كبيراً من العرض الذي قدمناه لصور الظلم [الذي يلحق بالفلسطينيين] –صور لا تظهر إطلاقاً في الإعلام الأمريكي، [وكان يراودنا] أمل ساذج في إحداث نوع من التأثير ولو ضئيل على الموقف الأمريكي اللامبالي تجاه الأربعين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

" إلا أن توقعاتنا بأن هؤلاء الناس قد يستمعون وربما يتعلمون شيئاً كانت للأسف في غير محلها. كان يبدو أن الكثيرين من أعضاء مجموعة المناقشة [من أعضاء النخبة السياسية والثقافية والمختصين] التي عقدت لمناقشة ما يحدث على أرض الواقع في فلسطين/إسرائيل، كانوا يشعرون بالقلق، وكان الموقف بمثابة مثال صارخ على اللامبالاة الأمريكية إزاء النظام الإسرائيلي القمعي في الأراضي المحتلة والذي تسمح به الولايات المتحدة، بل وتشجعه بفعالية في الكثير من الحالات.

"
تصور الخرائط التي عرضناها للضفة الغربية –والتي أعدتها الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية- بوضوح تشتت قطع الأراضي المنفصلة غير المترابطة التي سوف تشكل الدولة الفلسطينية في أكثر السيناريوهات تفاؤلاًَ- مناطق فلسطينية يفصلها الجدار العازل الذي يقتحم عمق الضفة الغربية، والمستوطنات الإسرائيلية المنتشرة في كل الأنحاء والتي تشغل نحو 10 بالمائة من الأراضي، وشبكة الطرق التي تربط المستوطنات المتاحة فقط للسائقين الإسرائيليين وحدهم، وغور الأردن المحظور حالياً على أي فلسطيني لا يعيش هناك بالفعل والذي يمثل نحو ربع الضفة الغربية كاملة، والذي قررت إسرائيل مؤخراً ضمه إليها.

" تشير الخرائط بوضوح إلى أن أكثر الخطط الإسرائيلية كرماً ستترك دولة فلسطينية مكونة من 50-60 في المائة فقط من الضفة الغربية (والتي تمثل 11-12 في المائة من فلسطين الأصلية)، مقسمة إلى العديد من الأجزاء المنفصلة ولا تتضمن أي جزء من القدس. تصور الصور التي التقطناها أثناء رحلاتنا العديدة لفلسطين في السنوات الأخيرة: الجدار العازل، ونقاط التفتيش، والحواجز التي تشبه الأقفاص، وبيوت الفلسطينيين المهدمة، والمباني الرسمية المدمرة، والمستوطنات الإسرائيلية الواسعة المبنية على الأراضي الفلسطينية المصادرة، وبساتين الزيتون الفلسطينية المدمرة، والأنشطة التجارية في المدن الفلسطينية المتوقفة بسبب إغارات المستوطنين أو الجنود الإسرائيليين.

عرضنا خرائط وصوراً مثل هذه مراراً وتكراراً، ولكنها لم تقابل أبداً بمثل هذه اللامبالاة، هنا كانت مجموعة معظمها من المسؤولين الحكوميين الأمريكيين والأكاديميين والصحفيين والتنفيذيين، وكذلك عدد قليل من المتخصصين، وكلهم يتراوحون في انتمائهم السياسي من يمين الوسط إلى يساره، وهم صفوة أمريكا المتعلمين والمطلعين، أي أنهم يمثلون رأي النخبة السائد في الولايات المتحدة، إلا أن فقدانهم للاهتمام بشأن ما تفعله إسرائيل –وما تفعله الولايات المتحدة بفضل دورها المساند- لتدمير شعب كامل وتطلعاته القومية، لا يمكن أن يكون أكثر وضوحاً من هذا.

قالت أول من قامت بالتعليق عندما انتهى العرض الذي قدمناه –والتي قدمت نفسها على أنها يهودية- أنها "لم تسمع من قبل أبداً عرضاً أحادي الجانب مثل هذا"، ووصفتنا بمصطلح "ما وراء المعاداة للسامية beyond anti-Semitic" –والذي يفترض أنه شيء أسوأ من معاداة السامية البسيطة الواضحة. وهذه دائماً تهمة مزعجة إلى حد ما، على الرغم من أنها شائعة ومتوقعة لدرجة أنها صارت غير ذات أهمية. وما كان جديراً بالملاحظة هو رد الفعل- أو عدم وجوده- بين باقي المجتمعين الذين لم يجادلوا أبداً في التهمة التي وجهتها إلينا، ولكنهم قضوا معظم وقت المناقشة إما في وصف العرض الذي قدمناه، أو في محاولة إيجاد طرق لتخفيف "الآلام اليهودية".

تطورت محادثتنا الموجزة مع هذه السيدة بطريقة مثيرة للاهتمام، حاولنا الدخول معها في مناقشة حول ما الذي كان "أحادي الجانب" تحديداً في تصويرنا للوضع على أرض الواقع؟ وما الذي كانت تود أن تراه ليكون عرضنا "ثنائي الجانب لم تجب لكنها أشارت إلى أنها تعتقد أن أياً مما فعلته إسرائيل لا بد وأن له ما يبرره من الأفعال الفلسطينية، وقالت: "لا بد وأن أحدهم هو من بدأ هذا الأمر".[وهذه مقولة قبلية تسبق عملية الفهم]. شرحنا لها بعض التفاصيل التاريخية، مشيرين إلى أن الفعل الأول، الجزء الخاص بـ"من بدأ الأمر" يمكن أن نتتبعه تاريخياً إلى إعلان بريطانيا لوعد بلفور في عام 1917 للترويج لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، في وقت كان فيه اليهود لا يمثلون أكثر من 10 بالمائة من عدد سكان فلسطين، ثم نأتي إلى قرار التقسيم للأمم المتحدة في عام 1947 والذي خصص 55 بالمائة من فلسطين للدولة اليهودية في وقت كان فيه اليهود يملكون 7 في المائة من الأرض ويمثلون أقل قليلاً من ثلث عدد السكان!. "كانت إجابتها هي: "لكن لم يكن اليهود هم من فعلوا هذا".

حررناها من هذا الوهم وشرحنا لها بإيجاز البرنامج الصهيوني المتعمد للتطهير العرقي ضد السكان الفلسطينيين الذي تم أثناء حرب 1947-48، كما وصفه العديد من المؤرخين الإسرائيليين –ومنهم بصفة خاصة إيلان بابيه– والذي استند في كتابه "التطهير العرقي لفلسطين" إلى سجلات عسكرية إسرائيلية. انتفخت أوداجها واحمرت عيناها لكنها أمسكت لسانها، وقررت فيما يبدو أنه لا سبيل أمامها لدحض هذه الحقائق، فقررت أخيراً أنه ما من فائدة تذكر في العودة للتاريخ –وهو أسلوب مراوغة صهيوني شهير- وأن إسرائيل لم تؤسس على أي حال لتكون دولة ديموقراطية وإنما كانت ملاذاً لليهود المضطهدين ومن ثم فإن لها كل الحق في تنظيم نفسها على النحو الذي تراه مناسباً، وأخيراً دعا منظم المناقشة البقية ممن يريدون التحدث، لتستمر المناقشة.

"ولكن لم يبتعد الأمر كثيراً عن هذا، فالحديث يدور الآن لأكثر من ساعة حول ما قد يكون مناقشة مهمة: حول تعليقات غريبة من أحدهم عن "روح العصر" "Zeitgeist"، وإصرار شخص آخر إصراراً لا يقل غرابة بأن "هناك شيء ما يدور هناك لا يمكن لأحد التحدث عنه" وأن هذا الشيء يؤثر على الوضع، وبضعة تعليقات حول الفلسطينيين بصفتهم إرهابيين وكيف أنه حتى إذا ما أقامت إسرائيل السلام مع الفلسطينيين فإن حماس ستحاول تدمير هذا السلام، والكثير من الكلام حول كيفية تخفيف الألم اليهودي. ومن هذا المنطلق حاولت طبيبة نفسية من بين الحاضرين أن تعقد مقارنة بين اليهود الذين يعيشون في خوف من الاضطهاد، وضحايا الاغتصاب الذين عالجتهم والذين يعيشون في خوف مستمر من أن يغتصبوا مرة أخرى أو أن يحدث لهم ما هو أسوأ.

"
سأل القليل من الناس أسئلة مهمة عن الموقف على أرض الواقع والخصائص المختلفة للسياسية الإسرائيلية. وبعد تركز النقاش لفترة طويلة حول الألم اليهودي، أشار أحدهم إلى أن الفلسطينيين أيضاً يشعرون بالألم ويعيشون في خوف، إلا أن أحداً لم يعلق على هذا، لم يعترض أحد على تهمة معاداة السامية التي وجهتها إلينا المتحدثة الأولى، وفي النهاية لك يكن هناك أي ذكر تقريباً للممارسات الإسرائيلية التي كانت هي موضوع العرض الذي قدمناه.

" أتيحت لنا الفرصة في اليوم التالي لمراسلة العديد من المشاركين عن طريق البريد الإليكتروني، في واحدة من الرسائل، قدمنا شكوى لبقة لمنظمي العرض الثلاثة بشأن حقيقة أنهم سمحوا لتهمة معاداة السامية التي وجهت لنا، ليس فقط لأن تثبت علينا ولكن أيضا لأن تحدد لهجة الكثير من الكلام الذي دار في المناقشة، مع عدم تفنيد أي شخص لجوهر التهمة فيما عدانا. وفي رسالة أخرى أرسلناها إلى رجل كان قد عبر عن تعجبه من أن أصوات اليهود ينظر إليها باعتبارها مهمة في الانتخابات الأمريكية، أرسلنا إليه بدون تعليق مقالة من مجلة "موذر جونز" عن الصعوبات التي يواجهها باراك أوباما مع المجتمع اليهودي وجهوده المنسقة لإظهار حسن نواياه بتعهده بالولاء لإسرائيل وبتبريره لحصار إسرائيل لغزة.

" وأخيراً، أرسلنا رسالة إلى الطبيبة النفسية، كتبنا فيها تعليقاً على مقارنتها بين اليهود وضحايا الاغتصاب، أشرنا فيها إلى أنها بلا شك -باعتبارها طبيبة نفسية- لا تشجع ضحايا الاغتصاب على الإبقاء على خوفهم أو اتخاذ موقف عدواني تجاه الناس الآخرين، ولكنها في الغالب تقدم لهم الأدوات التي تساعدهم على استعادة الثقة وتجاوز المخاوف على سلامته الشخصية، وأشرنا إلى أن هذا النوع من العلاج النفسي التصالحي لم يستخدمه أحد أبداً من قبل مع اليهود، ولكن على العكس من ذلك نجد قادة إسرائيل وقادة الجماعات اليهودية الأمريكية يشجعون المخاوف اليهودية، ويشجعون مع السياسة العدوانية العسكرية الإسرائيلية تجاه جيرانها.

"
كانت كل هذه المفاتحات بلا مسوغ من جانبنا، ولكنها لم تكن غير لائقة ولا غير متحضرة. إلا أن أحداً من هؤلاء الناس لم ير أنه من المناسب الرد على رسائلنا أو حتى يشكرنا على استلامها –وهو ما يوضح– كما لا يسعنا إلا أن نفترض- المستوى العام لعدم الاكتراث بين الأمريكيين فيما يتعلق بالفظائع التي ترتكب ضد الفلسطينيين، بما فيها الحصار والتجويع المفروضين على سكان قطاع غزة. ومن ثم أيضاً، فإن عدم الرد ربما يعكس شعوراً من جانب معظم الحاضرين بأننا مسؤولين إلى حد ما عن إشراكهم في مناقشة انتهت بأن كانت مكدرة إلى حد ما بالنسبة لهم.

" هذه المناقشة المستفيضة التي تمت مع مجموعة صغيرة من الأمريكيين الأذكياء المفكرين، مثيرة للقلق، فهي مؤشر على مدى سطحية وتحيز وإدراك قطاع واسع من الرأي العام الأمريكي للصراع العربي الإسرائيلي، ومستوى لامبالاتهم بتبعات السياسات الأمريكية. كل هذا الميل للانهماك في الشؤون الداخلية الذي بدا واضحاً في هذا الاجتماع، وموقف عدم الرغبة في تغيير الوضع الحالي، والافتقار الصارخ للاهتمام بِشأن ضحايا القوة الإسرائيلية والأمريكية، يتصاعد كل هذا ليصل إلى تصريح بالقتل يقدم للولايات المتحدة وحلفائها. وقد سمحت هذه اللامبالاة للولايات المتحدة بأن تفلت بقتلها لملايين الفيتناميين منذ عقود مضت، وها هي تعطي تصريحاً للولايات المتحدة بالقتل الجماعي في إيران وأفغانستان، وهي ذاتها السبب في أن الديموقراطيين لا يزالون -بعد سبع سنوات من قيام إدارة بوش بعمليات التعذيب والقتل حول العالم- غير قادرين على فصل أنفسهم كلية من النزعة العسكرية التي يتسم بها الجمهوريون، كما أن هذه اللامبالاة تعطي لإسرائيل تصريحاً بقتل شعب فلسطين بأسره وتطهيره عرقياً.

انتهى المقال، وهي لا تحتاج لأي تعليق، فهي تعطينا صورة واضحة متبلورة كيف يدرك معظم أعضاء النخبة الأمريكية الثقافية والحاكمة الصراع العربي الإسرائيلي. وقد تكون الصورة قاتمة وكئيبة، ولكننا لا بد وأن نأخذها في الاعتبار حتى ندير الصراع مع العدو بكفاءة. وعلى كلٍ الخريطة الإدراكية ليس أمراً ثابتاً ونهائياً، إذ يمكن تغييرها من خلال المقاومة المستمرة.
والله أعلم.

نقلاً عن موقع الدكتور عبد الوهاب المسيري

اقرأ أيضاً:
أسباب ظهور النظام العالمي الجديد / شارون.. مسيح مخلص أم دجال؟ / الحركة الصهيونية كمشروع غربي / الصهيونية... مرتع الفساد / بيان إلى الأمة في الذكرى الستين للنكبة / الحماقة الصهيونية الكبرى / نكبة أم تطهير عرقي؟ / كنيس يهودي أم غواصة بحرية؟ / الدولة الصهيونية ويهود العالم / هل لإسرائيل جيش حقيقي؟! / الصهيونية ويهود أميركا / اليهود والبكتيريا / أمريكا أفضل من القدس / جيش له شعب / فكر يهودي يهاجم اليهود واليهودية / جيـش نصف الشعـب / الحقائق الكاذبة / فلنفاوض ولنقاوم / نهاية إسرائيل / الخطة دَاِليت / تآكل المقدرة القتالية لـ’’العجل الذهبي‘‘ الجيش الإسرائيلي و’’الأعراض الفيتنامية‘‘ / تكلفة حرب العراق: رؤية أميركية/ الرؤية الصهيونية للتاريخ / التناقض بين السفارد والأشكناز / مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا / 11 سبتمبر الأخرى! / المحافظون الجدد والعربدة العسكرية الأمريكية



الكاتب: أ.د عبد الوهاب المسيري
نشرت على الموقع بتاريخ: 15/11/2008