نسخة للطباعة لمقال من موقع مجانين.كوم

زرع الثدي الاصطناعي: الأبعاد الاجتماعية النفسية


أ.د سداد جواد التميمي

يتناول هذا المقال في البداية ملخصا سريعا لتصدر هذا الموضوع عناوين الصحافة الأوربية في بداية العام. بعدها يتناول البعد النفسي لموضوع الثدي وحجمه من زاوية خاصة تتعلق بالنماذج المتعددة لتحليل شكوى المرأة من حجم الثدي. رغم أن الموضوع يتعلق بالمرأة فقط لابد من الإشارة إلى أن الرجال يعانون من مشكلة موازية نفسية وربما أكثر شيوعاً وخفيةً واضطرابا من النساء تتم إليها الإشارة بصورة ملخصة عند التطرق إلى النموذج الديناميكي وتتطلب مقالاً مفصلاً بحد ذاته.

مقطع من الحياة
في يوم من الأيام وأثناء تناول الغذاء مع زميلات للعمل تطرق الحديث لغرض الهزار والتسلية إلى موضوع تضخيم الثدي أو ما تسميه الناس في الغرب Boobs’ Job . قالت إحدى النساء إن الثدي الكبير هدية من الرب تشكره عليها. أما الأخرى وكانت تتميز بشقاوتها وهزارها فقالت كل ما هو أكثر حجماً من حفنة يد هو نفاية Anything more than a handful is a waste . وكثر الضحك بعد التعليق والآخر حتى سمع الجميع التعليق الأخير: أما أنا فلا أطلب إلا أن يكون عدني ثديان. كان قد تم استئصال أحدهما قبل عام. عندها توجه الكل نحو عمله بهدوء. وبعد هذه الإشارة من واقع الحياة أبدأ هذا المقال بتحية من القلب لجميع النساء.

مقدمة:
لا تزال معضلة الثدي الاصطناعي المزروع تتصدر عناوين الأخبار بين اليوم والآخر وبالذات في المملكة المتحدة وفرنسا، وتثير الجدل في الأوساط العلمية والاجتماعية على مختلف درجاتها. يتعلق الأمر بزرع الثدي الاصطناعي Artificial Breast Implant من صناعة شركة فرنسية تدعى اختصارا PIP. وهنالك ما لا يقل عن 40000 امرأة بريطانية تحمل هذا النوع منهم 3000 امرأة تم استئصال الثدي لأسباب طبية. بالطبع لا أحد يعرف العدد الصحيح للنساء اللاتي يحملن ثديا اصطناعيا والسبب في ذلك هو رفض الكثيرات منهم إعطاء معلومات لسجل وطني طبي اقترحته الجهات الطبية قبل عدة سنوات.

تضخيم حجم الثدي وزرع الثدي ليس حديثاً ويعود تاريخه إلى القرن التاسع عشر. تطورت الجراحة في القرن العشرين، ورغم جميع المخاوف الطبية التي تتصدر صفحات الإعلام، فإن تلك العملية التجميلية أصبحت شائعة في جميع بلاد العالم ومنها العالم العربي وبالذات بيروت والقاهرة.

أما المخاوف من تسرب السليكون، وهو المادة الرئيسية في الثدي الاصطناعي فهي أيضاً ليست بالجديدة وتحدث بين فترة وأخرى منذ أكثر من عشرين عاماً على أقل تقدير. لم تثبت دراسات باهظة الثمن عن وجود عواقب صحية خطيرة لهذه الجراحة. أما نسبة تسرب السليكون من الثدي الاصطناعي فهي تعتمد على الصحيفة والدراسة التي تقرأها فهي تتراوح بين 1 إلى 10% وإحصائياً لا يمكنك جمع هذه الدراسات معاً للوصول إلى ما هو معقول وعلمي.

في هذا المقال سأتطرق باختصار إلى الرد الفعل السياسي والأبعاد النفسية لعمليات تجميل الثدي.

رد الفعل السياسي
هذا العام هو عام الانتخابات الرئاسية الفرنسية، وبعد ما وصلت سمعة وشهرة ساركوزي إلى الحضيض، استغل فرصة هذا الحدث كاشفاً عن مواهبه المسرحية. في وقت تمر فيه فرنسا بكساد اقتصادي رهيب تراه يعلن عن استعداد حكومته دفع تكاليف العملية الجراحية للتخلص من الثدي الاصطناعي رغم أن جميع هذه العمليات الجراحية تم إجرائها على نفقات خاصة. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه بإعلان الحكومة عن ملاحقة رئيس الشركة الصانعة للثدي الاصطناعي عبر الإنتربول وكأنه قد ارتكب فعلاً إرهابيا.

كان فعل المسيو ساركوزي مطابقاً لجميع التوقعات سياسياً، فهو مشهور بالبعد الهستيري لشخصيته. تراه مثلاً يعقد اجتماعا بعد الآخر لرؤساء أوربا لمعالجة مشكلة اليورو، ولم يسفر أي اجتماع عن حل جذري أو غير جذري لهذه المشكلة.

أما في بريطانيا فكان الأمر معاكساً من قبل وزارة الصحة البريطانية وبالطبع لا يمكن أن تتصور بأن الخدمات الصحية البريطانية التي تعاني عجزاً في الميزانية لديها القابلية على تحمل تكاليف عمليات جراحية تم إجرائها في القطاع الخاص. على ضوء ذلك كانت التصريحات الرسمية بأن ليس هناك دليل علمي على إمكانية حدوث التسرب لدرجة خطيرة. بالطبع لم تتأخر الصحف البريطانية اليسارية التوجه مثل الغارديان بمساندة دعوة فرنسا والنيل من السيد كاميرون وبطانته. أما القطاع الجراحي التجميلي الخاص فاستغل الفرصة للإعلان عن خدماته وعمل الدعاية لبعض المستشفيات الخاصة.

الأبعاد النفسية لحجم الثدي:
إن العناية بالمظهر الخارجي للمرأة والرجل أمر مألوف ومستحب في جميع أقطار العالم شرقاً وغربا، ويتفاوت حسب الأعراف والتقاليد الاجتماعية بين حضارة وأخرى، وقد أصبح التجميل علماً وجراحة التجميل تطورت وترى آثارها في القنوات العربية بكل وضوح. لذلك فإنه عند التطرق إلى مسالة حجم الثدي وتكبيره أو تقليصه لا بد من استعمال النماذج الآتية:
1- النموذج الاجتماعي:
الثدي هو واحد من عدة مناطق مثيرة للغريزة الجنسية عند الرجل والمرأة أو ما تعرف باللغة الانكليزية Erotogenic Zones. على ضوء ذلك فإن الولع بتضخيم حجم الثدي أو تقليصه هو مسألة مشروعة ومقبولة على المستوى الشخصي والاجتماعي. هناك من النساء التي تطلب تكبير حجم الثدي لصغره الشديد، وترى أن عملية زرع الثدي الاصطناعي لها مفعول إيجابي. على العكس من ذلك ترى من القطب الآخر امرأة ابتليت بحجم ثدي هائل لا تقوى على التنفس بسببه، وعملية تقليص حجم الثدي لابد منها. كلا الحالتين يتم عرضهما على طبيب نفسي أولاً للتأكد من سلامة الصحة النفسية وتتحمل الدولة النفقة.

أما الغالبية العظمى من الحالات فهي لأسباب مهنية وشخصية، وتراها واضحة للعيان في مجتمع عالمي ثقافته نرجسية بكل معنى الكلمة شرقاً وغرباً. يتم إجراء هذه العمليات على النفقة الشخصية وفي مختلف الأعمار.

2- النموذج الديناميكي:
أما على البعد الديناميكي النفسي فالأمر أكثر تعقيداً ومثيراً للجدل. يحتل الثدي بعداً من أبعاد العقد العصابية في مدارس التحليل النفسي، ولا يزال هذا البعد مقبولا علمياً عند التطرق إلى مظاهر التطور الفردي والتعبير العاطفي التي تشكل جزأ لا يتجزأ من شخصية المرأة.

هنالك قاعدة نفسية ديناميكية يطلق عليها معادلة الثدي – القضيب Breast – Penis equation تحتل جزءاً لا بأس به في مراحل التطور النفسي للرجل والمرأة على السواء. تركز هذه النظرية ببساطة واختصار على أن الطفلة الصغيرة من خيبة أملها بضعف تعلقها بالأم تتوجه نحو الأب لتلقي الحب والحنان. تواجه حينها عقدة البقاء كطفلة لتلقي حنان الأب مدى الحياة وهذا ما تراه عند النساء التي تبدو دوماً مستاءة من حجم الثدي وتطلب الجراحة التجميلية لتقليص الحجم. أما البعض الآخر فعلى العكس تماماً حيث تبدأ بإتقان جذب الأنظار بسلوكها لمنافستها مع الأم التي لا تطيقها وتبدأ بممارسة السلوك الذي يجذب نظر الأب، وعند البلوغ يصبح حجم الثدي ومحاولة تضخيم حجمه جزءًا لا يتجزأ من ضرورة الحفاظ على الذات وجذب الأنظار.

إن البعد النفسي للعقدة السابقة يحدث عند الذكور أيضاً. عند غياب التعلق مع الأم تتوجه الأنظار نحو الأب. فإذا ما كان الأب غائباً يبدأ الذكر باكتساب صفات أنثوية عند البلوغ لا علاقة لها بالتوجه الجنسي. أحياناً يحاول الذكر التخلص من الرغبة الأنثوية القوية ويبدأ بتقوية العضلات وتناول الهرمونات والولع بحجم أعضائه التناسلية. الكثير من هؤلاء تسيطر النرجسية على شخصيته، وعلاقاته الجنسية مع النساء فاشلة أكثر مما هي ناجحة.

بالطبع الكثير يتجاوزون تلك العقد العصابية في حياتهم بعد لقاء شريك حياة صادق في حبه يتم اختياره بصورة عاطفية وفكرية بعيداً عن ملء الفراغ النفسي المزمن الناتج عن عقد لم يتم تجاوزها. أما عدم تجاوز هذه العقد فيؤدي إلى الشكوى دوماً من تعكر المزاج وتقلباته وإلقاء اللوم على الآخرين.

إن عمليات تجميل الثدي، بتقليص الحجم أو تضخيمه، قلما تؤدي إلى التخلص من الأعراض النفسية المصاحبة للعقد التي لم يتم تجاوزها، وترى فرحة المرأة بالعملية لا تتعدى الأشهر المعدودة، وبعدها تتحول شكواها لأعراض نفسية وجسدية أخرى.

3- النموذج السلوكي:
هذه المرحلة تتصف بانشغال المرأة بالسعي والبحث عن حل لمشكلة حجم الثدي بحيث تغطي على سلوكها. بالطبع القلة من النساء تتوجه نحو جراحة التجميل بسرعة. البعض يبحث عن حلول كيمائية والبعض الآخر يصبحن مولعات باختيار الملابس التي تضخم من حجم الثدي أو تقليصه اعتماداً على البعد الديناميكي أعلاه والعقد المغروسة في الذات.
كثير من النساء يتجاوزن هذه المرحلة بعد بضعة سنوات اعتماداً على التطور الشخصي والعاطفي مع توفر ظروف اجتماعية ملائمة. غير أن البعض القليل منهن تنتقل إلى مرحلة النموذج الطبي الرابع.

4- النموذج الطبي
في هذه المرحلة تبدأ الأوهام بالسيطرة على تفكير المرأة بشأن حجم الثدي وهي ظاهرة تدعى برهاب التشوه Dysmorphophobia ولكن هذا التعبير ما هو إلا وصف عام للحالة المرضية، ولا بد من التعمق في تصنيف الحالة المرضية بدقة.
إذا كانت مسألة حجم الثدي هي الشكوى الوحيدة للمريضة دون وجود أعراض أخرى فالتشخيص الصحيح يكون الاضطراب الوهامي (النوع الجسمي) Delusional Disorder, Somatic Type . ويتميز هذا المرض ليس بغياب أعراض أخرى فقط وإنما بأن فعالية المرأة خارج نطاق الوهام Delusion الذي تعيش معه طوال العمر تكون طبيعية. ويكون العلاج هنا بالعقاقير المضادة للذهان إن تقبلت المريضة العلاج، وحتى إن تقبلت العلاج فإن نسبة الاستجابة للعقار ليست عالية وتقل عن 50% . ولابد من توخي الحذر في اختيار العقار الملائم لأن الكثير من هذه العقاقير تزيد من إفراز هرمون البرولاكتين Prolactin . لذلك إن كان هذا الوهام يتعلق بالصغر الشديد لحجم الثدي فالنتيجة إيجابية حيث يساعد الهرمون في تضخيم حجم الثدي إلى حد ما. أما إذا كان الوهام عكس ذلك فالنتيجة عكسية.

العقاقير المضادة للذهان تصنف هذه الأيام إلى صنفين:
٠ عقاقير الجيل الأول مثل الكلوربرومازين Chlorpromazine والهالوبريدول Haloperidol. وهذه الأدوية تحفز إفراز البرولاكتين ويحبذ عدم استعمالها.
٠ عقاقير الجيل الثاني، ويمكن تصنيفها إلى اثنين:
عقاقير تفرز البرولاكتين مثل الرسبيردون Risperidone والأميسلبرايد . Amisulipride
عقاقير غير مفرزة للبرولاكتين مثل الأولانزابين Olanzapine، كوتايبين Quetiapine ، والأريببروزول . Aripiprazole

إن اختيار العقار المناسب يعتمد على تقييم الطبيب المعالج للحالة، ولكن لا بأس من الإشارة بأن دواء الأميسلبرايد ربما هو الأكثر فعالية بجرع صغيرة لا تتجاوز الـ200 مغم لكون هذا الدواء يتميز عن البقية بفاعليته عبر المسار الوسط القشري للدماغ Meso-cortical pathway . لكنه أيضاً يتسبب في إفراز البرولاكتين. وهذه الإشارة للدواء هي من تجربة الكاتب المهنية وليست مبنية على أدلة علمية. ونتائج التدخل الجراحي في مثل هذه الحالات قد تكون أقرب إلى الكارثة. إذ لا ترضى المريضة أبداً بالنتائج، وقد تطلب الجراحة بعد الأخرى.

أما إذا كانت مسألة حجم الثدي واحدة من أعراض أخرى فالتشخيص قد يكون:
1- الشيزوفرانيا Schizophrenia .
2- الاكتئاب الذهاني Psychotic Depression .
3- الوسواس القهري OCD .
4- اضطراب الشخصية الحدية Borderline Personality Disorder .
5- أحد اضطرابات الأكل Eating Disorders .
أما علاج هذه الحالات فيتطلب أكثر من عقار وطبيب نفسي ولا سبيل إلى احتواء الحالة دون فريق عمل صحة نفسية.

الخلاصة
إن الثدي المزروع شائع جداً ومقبول اجتماعياً وفي أغلب الأحيان يكون ضرورة طبية وشخصية وتجميلية. ورغم ذلك هناك نماذج نفسية اجتماعية وسلوكية وطبية لهذا الأمر لا يمكن التغافل عنها. وفي حالات نادرة يكون التفكير بحجم الثدي مرضاً عقلياً.


واقرأ أيضاً:

شيزلونج مجانين لأي حدٍّ نعبدُ الصورة؟ / هل اتخاذ الصورة معيارًا شرك؟ / فداحة الصورة......قبل....و......بعد / أكذوبة الأيزو الإنساني: تصحيح مفاهيم / مظهر شاب دون جراحة تجميلية