منغلق أم محافظ: محنة أمة ومستقبل منشود، مشاركة: السيد الدكتور أحمد عبد الله المحترم، السلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته؛ وبعد........بل إلى حيث انطلقتم يا سيدي تنتهي التوقعات!. وأقول تنتهي لأن ما في رأسي مرتباً على نحو يمنعني من البحث في آليات الخلاص قبل إتمام التشخيص والتسيب والتعليل!! يبد أنكم تناولتم يدي وأطلقتم للريح ساقيكم لأجد نفسي وإياكم حيث نقف الآن وجهاً لوجه مع "التطوع" لا أزعم أن ما تراكم لديّ من خبرة يكفي حاجتي للتقدم والتطور التحسين، لكنه يمكنني من القول أنه الآن وبعد ثلاث سنوات ونصف السنة من الحركة في هذا الحقل لابد للمرء من إعداد وتربية نفسية وروحية يتهيأ بها لضرب من ضروب العمل الصعب في مجتمع موبوء كمجتمعنا، وإدراك المتطوع لتلك الحقيقة -أنه مجتمع غير سوي- هو أمر عظيم الأهمية حتى يتمكن من الدفع نحو الأمام، فلا يرده جحود من يعطي لأجلهم أو يقعده تخاذل من يسند ظهره إليهم أو يلويه إخفاق هنا أو كبوة هناك... فقط رغبة قوية بل جامحة في التغيير ما يعينه في ابتلاع الخيبة وتجاوز الإحباط واحتواء المشاعر السلبية التي تخلقها فيه كل الأشياء من حوله.ليس الحال على تلك الدرجة من السوء دائماً، غير أنّ الكثير ممن يشمّرون عن السواعد للدخول في هذا الميدان لا يلبثوا أن يديروا ظهورهم ويقلبوا شفاههم عند أول مواجهة مع ما لم يقع في دائرة توقعاتهم على تلك الأرض. ولعلّ تلك التوقعات والتصورات المسبقة التي يحملها كلٌّ منا في رأسه حول كل ما لم يختبر بيده وما لم يخض بقدمه تعرّي -وبقسوة- حقيقة "تخلّف النضج" التي تعيبنا مجتمعاً وأفراداً، والتي يؤسس لها على مرحلتين متداخلتين: أولاهما في الطفولة المتأخرة، والأخرى في سن المراهقة.فالطفل العربي يتعلم أن المجتمع يوفّر قالبا -أو لنقل أدواراً- لكل فرد فيه -دون تخصيص في الغالب، حيث تتم القولبة على نطاق شرائح تتمايز على أسس: السن، والحالة الاجتماعية، والسلطة، والوضع المادي- على الفرد أن يدخل ذلك القالب ولا يغادره إلا للانتقال لقالب آخر، بعبارة أخرى أن التنوع والابتكار في الأدوار التي قد يلعبها الفرد هو أمر غير متاح على الإجمال. فمثلاً: لا يجد اختلافاً في دوره كطفل مع اختلاف البيئة التي تحيطه سواء كانت الأسرية منها أو المدرسية. فكوننا "قررنا" أنه لازال "صغيراً" يعني استبعاده عن ساحة القرار- كان ذا مساس مباشر به أو غير مباشر-، وتحديد مداركه في أطر ضيقة تمنعه من الوثوب خلفها في التفكير والتساؤل والاستيعاب: فلا ضير من قول "كذا" في حضوره "فلازال صغيراً، لا يفهم"، ولا يجوز أن يسأل في "ذاك" "فلازال صغيراً، عيب"، ولا يمكنه فعل "ذلك" "فلازال صغيراً، فلينتظر حتى يكبر"...الخ. وهكذا نكون نحن من يقرر له إن كان يفهم أو لا يفهم، يقدر أو لا يقدر، يفكر ويسأل أو لا يسأل!! على هذا المنوال تفوته الفرصة تلو الفرصة لاختبار قدرته على اتخاذ القرار، وإنضاجها تالياً. مرة أخرى لكن من طريق آخر يجد الإنسان العربي نفسه فريسة للشعور العميق بالعجز.ويدلف الفتى العربي أبواب المراهقة حيث يتعرّف لأول مرة على حاجته إلى إيجاد هويّة خاصة ويحاول الوصول لحالة من الاستقرار في بنيته العاطفية والنفسية في مرحلة أكثر ما يميزها الاضطراب والتأرجح وعدم الاستقرار. الأمر الذي لا يمكن تحقيقه بمعزل عن التجريب والتبديل يتعلم من خلاهما مهارات أساسية تجهزه لحياة الراشدين، من قبيل: القدرة على المفاضلة، واتخاذ القرار وتحمل تبعاته، والتعامل مع المشكلات وتخطي العقبات، وفرز الواجبات في أولويات، وغيرها.يمكنني القول: أن ليس من مصيبة تعدل أن يقضي الإنسان طفولته في أحضان المجتمع العربي إلا كونه مراهقا في هيكل هذا المجتمع، حيث يسحق مجتمعنا تلك الرغبة في الانطلاق والتعبير، ويجهض كل تلك المحاولات للوصول للشكل النهائي الذي تستقر عليه الهوية والتي يستقبل بها سني الرشد والمسئولية الحقيقية، فيبقى العربي غراً وهشاً توجهه عاطفة طفولية يعجز عن ضبطها ولا ينقلها لمستوى الفعل والتأثير الإيجابي. بمعنى أن العربي يتقدم في العمر الزمني لكنه يبقى مجمداً عند الطفولة في نموه العاطفي، يسترسل في مشاعره، وتستغرقه انفعالاته ويستسلم لها دون أن تتحول لقوة محرّكة تجعله فاعلاً ومؤثراً.إن حصر العوامل "المنضجة" للفرد في جهة التجريب والخبرة الفعلية -على أهميتهما- ليس بالأمر الرشيد بأي حال. فالعمر الزمني للإنسان مهما طال يبقى أقصر من أن يستوعب كل التجارب اللازمة لخوض حياة متوازنة وإلى حد ما مستقرة. وبالتالي فإن الالتفات إلى عوامل أخرى كالثقافة والتأمل يعدّ ضرورة منطقية لابد من اعتبارها. وفي حين يبدو مفهوم الخبرة والتجريب قريباً للفهم والإدراك، تبقى "الثقافة" و"المثقف" مصطلحات هلامية صعبة التحديد! يقول د. هشام شرابي في كتابه "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" في تعريفه للمثقف "... ما يميز المثقف في أي مجتمع صفتان أساسيتان: الوعي الاجتماعي، الذي يمكن الفرد من رؤية المجتمع وقضاياه من زاوية شاملة ومن تحليل هذه القضايا على مستوى نظري متماسك. الدور الاجتماعي، الذي يمكنه وعيه الاجتماعي من أن يلعبه، بالإضافة إلى القدرات الخاصة التي يضفيها عليه اختصاصه المهني أو كفاياته الفكرية..." انتهى الاقتباس. إن وعيه الاجتماعي -المثقف- يكسبه مرونة تسمح له بالتعامل مع الظروف المتغيرة باستمرار، بل والذهاب بها إلى أقصى ما يمكن تحقيقه منها من خلال رؤيته "البانورامية" الشاملة Panoramic vision ، وهذا يتطلب فكراً ناقداً موضوعياً يطوره الفرد عبر تجاربه الشخصية- والتي جزمنا بمحدوديتها النسبية تبعاً لارتباطها بالعمر-، وإطلاعه على تجارب الآخرين والتعرّف على الأنماط الفكرية التي يتبنونها، هنا نجد أن فرصة كهذه تبدو سهلة ميسورة، لكن لو دققنا النظر سنجد أن عدد أولئك الذين تسنح لنا الفرصة لاكتشاف ما يختزنونه من معارف وخبرات وما يختصون به من أنماط فكرية وآراء ووجهات نظر في ظل ظروف حياتية ضاغطة وسريعة تحكمها المجاملة والنفاق الاجتماعي وسطحية العلاقات، أقول تبدو الفرصة ضعيفة واهنة. عند هذه النقطة يتقدم الكتاب- كنموذج للمادة المقروءة وليس كوسيلة وحيدة للوصول إليها- حيث يسجل كل ذي خبرة- عملية كانت أم ذهنية- خبرته، بل ويقدم زبدة أفكار كل الذين ساروا في طريق الفكر والتجربة. إذن فالقراءة ليست إطّلاعاً مجرداً على معلومات ومعارف صماء يحاول القارئ اختزانها واسترجاعها، بل هي محاولة للنفاذ وراء السطور لرسم الخط الفكري الذي يتبعه الكاتب في طرحه لتلك المعارف تدوينه لتلك المعلومات والخبرات.لذلك نحن نحتاج للتأمل في تجاربنا الخاصة والتفكر في تجارب الغير وتحليلها بعمق، كما علينا أن نطل على الأشياء والأحداث من أعلى وأن ننظر إليها من بعيد بين الحين والآخر أثناء معالجتنا لتفاصيلها حتى لا تكون الصورة الكاملة غائبة عن أذهاننا.أين "التطوع" في كل ما مضى؟... إن كل ما مضى معني به! فمعوقات العمل التطوعي في مجتمعنا كثيرة تستدعي نضجاً حقيقياً للتعامل معها، قد نخوض في عرضها في قادم الزمن إن شاء الله تعالى. كل شكري وامتناني لكم يا سيدي ولكل من يخصص بعضاً من وقته لقراءة ما سلف. مع دعواتي المخلصة.لميس8/1/2005
مازلت أستقبل رسائلك وأبقيها حرصا على ألا أتعجل برد لا يضيف إلى ما تتفضلين به من لغة، وأفكار تستحق التأمل والتعقيب وحالتنا العقلية والثقافية والاجتماعية هي المناخ والمحيط الذي تجري فيه تفاعلاتنا سواء كنا متطوعين فاعلين أو متفرجين ناقدين أو نائمين غافلين، وأنت تتحدثين عن التطوع... وأنا أتابعك وأنت تتحدثين عن تربية نتداولها ونتلقاها وربما نعيد إنتاجها للأسف فيمن تحت إدارتنا –أعني أولادنا– وهي تربية تكريس العجز، أو ما عبرت عنه إحدى الأستاذات الفاضلات حين قالت لنا مرة: أن التنشئة التي تتلقاها الفتاة العربية تخلق بداخلها حالة من "الرهاب الاجتماعي" فالفتاة المؤدبة هي التي لا تتكلم كثيرا، ولا تسأل مطلقا، وأحسب أن هذا هو ما يتربى عليه الفتى، ولكنه ربما يتمرد لأن فرصته للشغب أكبر!!!ويدهشني أن تكوينك الذهني والمعرفي يسعفك بنتائج أرجو أنها تدفعك وتوفر لك الحماس أكثر مما يمكن أن تحبطك أو تقعدك عن المواصلة.تقولين: "ليس من مصيبة تعدل أن يقضي الإنسان طفولته في أحضان المجتمع العربي إلا كونه مراهقا في هيكل هذا المجتمع"، وأخطر ما في كلامك أنه الحقيقة العارية المؤلمة، والتماسك والتوازن في مواجهتها يبدو صعبا، ولكنه مسألة حياة أو موت.فكيف نحافظ على أنفسنا وسط دواعي اليأس؟!! وألا يتقلب التشخيص والتسبيب والتعليل إلى الوقوع في أسر العلل أي الإصابة بنوع من العدوى، أو التأثر سلبا بكثرة ما نراه من مرض ومرضى؟!!وأنا عائد من رحلة طويلة –ربما أكتب لكم عنها بالتفصيل- وذهبت وفي أذناي وعقلي ووجداني ترن كلمات ابنتي التي أجبت عليها قبل سفري مباشرة، وكانت تذكر ضمن سطورها تغييرا سمعناه كثيرا، لكنه هذه المرة كان بسبب الظروف المحيطة بي– أشد وقعا وتأثيرا.ابنتي ذكرت شيئا عن "نفايات الغرب"، وفي كل خطوة وحركة ولفتة كنت أتذكر كلماتها وأقارن وأتأمل عن هذا الغرب ونفاياته!!! وعن أنفسنا نحن الذين لا نكاد ننتج ولا نستهلك سوي النفايات تقريبا!! ولكنني كنت دائما أيضا أحاول ضبط مشاعري وأفكاري حتى لا أنقلب لأكون مثل بقية المنبهرين المشدوهين الراكعين في محراب الغرب يحسبونه ملاذا نهائيا، وما هو كذلك!! لكنني تأملت مثلا في كيفية تربيتهم للأطفال علي العقل والتفكير المنهجي،والسؤال المنطقي، واحترام القانون....الخ.الأمر الذي جعل بعض الآباء من العرب يهجرون وظائفهم المستقرة والمرموقة "نسبيا" في أوطانهم الأصلية، ويهاجرون إلي أوروبا أو إلي أمريكا أو كندا للبحث عن تعليم أفضل للأبناء، وهو ما يجدونه هناك، ولكن ضمن عبوة قيم وثقافة ربما لا تناسبنا في كثيرا من نواحيها!!!قولي لي كيف يا فاضلة نستطيع تطوير قدرتنا علي تناول ونقد أحوالنا بعمق ونضج دون أن نقع في حالة سلبية من جلد الذات بسطحية، أو عبادة الغرب بجاهلية أو الاكتفاء بمجرد النقد والتشخيص والتعليل!!كلماتك مؤلمة جدا وقاسية، موجعة وموحية كما الحقيقة، وأنت تصرين وتسترسلين في الضغط علي أوتار أعصابي العارية، ومناطق شديدة الحساسية في وعيي وأوجاعي العامة حين تتناولين الثقافة مثلا بوصفها من عوامل الإنضاج إلي جانب الخبرة والتجريب، وتنقلين عن د/ هشام شرابي –رحمه الله– وتنطلقين إلى القراءة بوصفها مصدرا من أهم مصادر الثقافة والتثقيف وتبادل الخبرات، والتعلم من الآخرين، وأنا في حياتي معالم ومقترحات بدايات ومنطلقات حلول أسعى إليها ثم أرحل عنها،
وما ألبث أن أعود، ومنها مركزية الثقافة والتثقيف، وأهمية أن نخرج من القمقم الثقافي الصخري الذي حبسنا فيه عقولنا وأرواحنا فنعرف أن الإسلام والعلم والتاريخ والإنسانية أرحب بكثير مما نظنها أو نتصورها، وأوسع وأعمق مما نعتقد أننا نعرف عنها، وأن هذا الخروج من القمقم إلى سعة الدنيا والآخرة هو شرط حتمي إن كان لنا أمل في نهضة، وأرثي لنفسي وأمتي أن النادر من الداعين لإصلاح أحوالنا يذكر هذا الواجب أو يرشد إليه في مقابل إرشاد طويل، وأحاديث مكثفة تتوجه للتحليل الذي تعتقد أنه ينطلق من الدين بينما هو لا يتواصل إلا مع النذر اليسير منه، وأتذكر عصور الإسلام الزاهرة، عصور الربيع العقلي والانفتاح المعرفي والإنتاج الحضاري فتهب على روحي نسائم الأمل بأن لنا سابقة عظمة وأن لنا أمل... شكرا علي رسالتك.