منذ عدة سنوات بدأت كلمتان تغزوان عناوين الأبحاث في علم النفس والطب النفسي إحداهما هي الروحانيات Spirituality والأخرى هي اليقظة الراضية أو الوعي الآني Mindfulness والحقيقة أنهما -على عكس ما قد يتصور العامة- ليستا كلمتان من الطبيعي أن تكونا في عناوين العلوم التي تتعامل مع النفس البشرية، ذلك أن كلا من علم النفس والطب النفسي الغربيين يحمل تاريخا من القطيعة مع الروحانيات والأديان وهو ما حاولنا بيانه في الجزء الأول من مقالنا عن الدين والعلاج النفسي....
فببساطة كان الدين والروحانيات أمورا لا شأن للأطباء والعلماء بها فهم مخصصون للأمور المادية في الإنسان، أو كان كما كانت الأكاديمية الأمريكية الوطنية للعلوم ترى حتى سنة 1984 (Barbour, 1997) : أن الدين والعلم عالمان منفصلان ويستبعد بعضها بعضا من الفكر الإنساني، وعرضهما في نفس السياق يؤدي إلى سوء فهم كليهما النظرية العلمية والمعتقد الديني، إلى هذا الحد كان موقف العلوم الغربية من الأديان حتى عهد قريب.
اليوم يمكننا القول بأن التوجه المادي ذي الرؤية الأحادية في الطب النفسي بداية من فرويد (Freud,1895) الذي قال أن "الاعتقادات القديمة عن السمو الروحي والرفاه الفكري قد طغت عليها وغطتها العلوم الجزيئية الحديثة مثل التشريح العصبي Neuroanatomy والفسيولوجيا العصبية Neurophysiology وعلم الأحياء المجهرية Microbiology "، هذه الرؤية الأحادية الضيقة التي ابتلي بها الطب النفسي وربما أخفق في مساعدة كثيرين بسببها انهزمت بالفعل، لكنن أثر القطيعة بين العلم والكنيسة الغربية ما يزال مؤثرا بنسبة عالية ليس فقط في الأطباء والمعالجين النفسانيين بل في الأطباء بشكل عام كما أظهرت دراسة سعودية حديثة ضمت أطباء مسلمين في مستشفى "سعودي" أن أكثر من نصف الأطباء أقروا بأنهم لم يتناولوا الأمور الدينية أبدا في مناجزتهم لمرضاهم (Al-Yousefi, 2012). وأذكر مشهدا شخصيا في الامتحان الشفوي للطب النفسي لدرجتي الماجستير والدكتوراه في جامعة -الأزهر- وغيرها من الجامعات حين كنت أسأل الممتحنين هل المريض يصلي؟ كنت أجد استغرابا في عيون الزملاء من الممتَحِنين ومثله في وجوه الممتحَنين.... ليس لأنهم يعترضون على ذلك وإنما لأنه غير موجود في ورقة أو شيت أخذ التاريخ المرضي أي شيء عن التدين!
ونتيجة لذلك العور ظلت قوانين ممارسة الطب التقليدي -والطب النفسي جزء منها- على مستوى العالم تصر لسنوات على استبعاد الروحانيات من الممارسة الطبية، ونتيجة لذلك أيضًا توالت وتكاثرت الأبحاث التي بدأت تدخل الروحانيات والدين في الطب النفسي وفي غيره من فروع الطب الباطني واشتهرت في الفترة الأخيرة طريقة لعلاج عدد من الاضطرابات النفسية اسمها "العلاج بالقبول والالتزام" Acceptance & Commitment Therapy ويعتبرها البعض الموجة الثالثة من ع.م.س ويسمونها حينا العلاج وراء المعرفي وحينا يسمونها العلاجات المبنية على القبول Acceptance-based models وحينا العلاجات المبنية على اليقظة الراضية Mindfulness-based models .
والقاسم المشترك الأعظم بين كل تلك العلاجات هو أن التركيز فيها لا يكون على الحدث النفسي المزعج (الأفكار أو المشاعر) بقدر ما يكون على فعل أو رد فعل الشخص نفسه لذلك الحدث إذ يتعلم خلال العلاج كيف يكون رد فعله على الحدث النفسي المزعج هو الرضا والتأمل ويكون ذلك غالبا عن طريق الوصول إلى حالة اليقظة الراضية Mindfulness أو الوعي الآني.... كذلك فإن تأثير طرق العلاج الصينية والشرقية عموما واضح في أغلب تلك الطرق العلاجية الحديثة.
أعود إلى حالة "الوعي الآني*" أو"اليقظة**" أو"اليقظة الراضية*** أو المطمئنة****" Mindfulness وقد اختلفنا في ترجمة هذه الكلمة، والتي تعني ممارسة "أن تكون على علم بما يحدث في اللحظة الراهنة في جسمك أو عقلك، تشعر به وبوجوده لكن دون رفض أو تقييم أو دفاع أو حتى إصدار حكم.. القبول فقط". إذن عندما تكون على وعي بما تفعل أو ما تشعر مباشرة به فأنت في حالة اليقظة الآنية"... فإذا قررت القبول أو الرضا بمعايشة ذلك الوعي فأنت حين تكون في حال اليقظة الراضية وهي تختلف عن الوعي العادي بكونها مصحوبة بحالة من الرضا والقبول، وعلى النفس الراضية أن تأخذ موقفا مختلفا من الخبرة الشعورية المزعجة هو استشعار الخبرة قدر الإمكان كخبرة تمر بها أي تتأملها كعالم أو خبير لكن ليس كقاضي تتأملها برضا واطمئنان وصولا إلى حالة اليقظة المطمئنة.... كذلك توجه تعاليم بوذا... كما يقولون.... إذ تعتبر حالة اليقظة الراضية تلك مبنية على مفهوم بوذي هو " ساتي Sati " ويعني هذا المفهوم حالة وجود العقل والانتباه إلى اللحظة الحاضرة، بدلا من شغل الذاكرة بشأن الماضي. ومن سماتها عدم التذبذب، والانشغال بالخبرة الراهنة لا الانصراف عنها... إلخ، ورغم تقديم التدريبات التي توصل إلى تلك الحالة في صورة ممارسات لا علاقة لها بالأديان إلا أن خبرات الممارسين كثيرا ما تكون مختلفة خاصة في المراحل المتقدمة من التدريبات ولا يمكن استبعاد تأثير البوذية والهندوسية والكونفوشيسية وغيرها من أديان الصين وآسيا فكلها تشترك في طقوس الوصول إلى اليقظة المطمئنة... ويعتبر هذا الفيديو من أفضل المواد السمعية والبصرية المفيدة في شرح مفهوم اليقظة الراضية وليس مقدمها طبيبا ولا معالجا نفسانيا إنما هو طبيب أسنان سعودي عبر بأسلوب رائع عن المعنى المقصود وربطه بالصلاة.
ومن الإنصاف أن نقول أن استهداف حالة الوعي المطمئن أو اليقظة المطمئنة هو إرث العديد من دول العالم العظيمة الفلسفات والأديان والعلوم النفسية. وبصفة عامة، فإن بممارسة اليقظة الراضية وصولا إلى اليقظة المطمئنة يستطيع الإنسان أن يبدأ في تقليل كثيرٍ من متاعبه بل ويستطيع تنقية نفسه من الجشع والكراهية والجهل، وهذه هي جذور كل المعاناة، والكروب، والقلق، والسخط.... والنقطة التي من المهم تفهمها هي أن التدريبات الهادفة للوصول إلى تلك الحالة كما تبدو للناظرين من الخارج مفصولة عن الأديان في صورة تدريبات التأمل أو اليوجا أو الممارسات الروحانية Spiritual Practice بشكل عام هي -تماشيا مع العولمة- أكثر قبولا في الطب النفسي من تلك المبنية على ديانة بعينها....
ولا أحد يستطيع إنكار أن نشاط الأسيويين مقابل خمول غيرهم كان سببا في إعطائهم السبق في تقديم ما كان يحتاج إليه أفراد المجتمع البشري الحديث بشكل عام للتعامل مع الكروب والضغوط مثلما يحتاج إليه مرضى القلق والوسواس والاكتئاب وغيرهم، وقد بينت دراسات عديدة أجريت على ممارسة تأثير التأمل الارتقائي أن هذه الممارسة تنخفض ضربات القلب؛ وتقلل استهلاك الأوكسجين واحتراق السكر في الجسم. كما تزيد موجات ألفا في المخ كما يظهر جهاز تخطيط الدماغ وهي موجات ذات صلة بحالة السكينة العميقة والهدوء التي تصاحب التأمل العميق. وهي حالة نفسية مضادة تماما للقلق والغضب.
إذن فاحتياجات المجتمع العربي وربما غيره من المجتمعات ما تزال غير ملباة، بل إن من المخجل أن تنشأ طريقة علاجية تسمى التأمل أو التفكر الارتقائي الإسلامي Islamic Transcendental Meditation تحاول تقديم ما يحتاج إليه المسلمون في الغرب والشرق على حد سواء لكنها -والله أعلم- نشأت في غير بلاد العرب، ولا توجد حسب علمي دراسات مقننة لتأثير التفكر الارتقائي الإسلامي، بل ربما لا توجد كتابات بالعربية في الموضوع باستثناء كتاب العالم الجليل مالك بدري (1413هـ) التفكر من المشاهدة إلى الشهود والذي يربط فيه بين ما ورد في القرآن من الحث على التفكر في خلق السماوات والأرض وبين مفهوم التأمل الارتقائي Transcendental Meditation ويرى أن التأمل أو التفكر الإسلامي يستخدم تقنيات التأمل الارتقائي ويعطي فوائده إلا أن له أهدافا أسمى فهو ينطلق بعد تأمل المخلوق باتجاه الخالق سبحانه وتعالى، وفيه يمر المؤمن بمراحل ثلاثة من المشاهدة إلى الشهود... إدراك حسي ثم تذوق وانبهار ثم تفكر خاشع.... إلا أن البحث باللغة العربية عن تقنيات التفكر الارتقائي الإسلامي لا يعطي شيئا بينما يعطي البحث بالإنجليزية Islamic Transcendental Meditation عددا لا بأس به من النتائج ولكن ليس من بينها ما تستطيع الثقة به، ولا معرفة مدى علميته أو شرعيته، فضلا عن التداخل الواضح مع الاتجاهات الصوفية.
ومنذ سنوات تزيد على عقد كنت أنا وأحمد عبد الله كثيرا ما نتناقش حول ظاهرة انتشار مراكز ومؤسسات تعليم اليوجا والاسترخاء في المدن المصرية الكبرى كوسائل لمواجهة الكروب الحياتية وكنا نقول أن ما يحاولون الوصول إليه توصلنا إليه الصلاة أسهل لو تعلمنا كيف تكون الصلاة فالصلاة بالأصل تدريب للتركيز، ... بعد تلك السنوات أي الآن لم نستطع إحداث أي تغيير، بل زادت تلك المؤسسات والمراكز التعليمية وربما خرجت عن القاهرة والإسكندرية، وأصبحت تقدم خدمات يلجأ إليها مرضى نفسيون كثر، ولبعضهم رؤى كثيرة مهمة فيما يحدث على المدى البعيد، لكنها أبعد من أهداف المقال الآن....، وقبل أن أختتم أشير إلى بحث عن التفكر الارتقائي الإسلامي أجراه د. محمد أيمن عرقسوس وفاز بجائزة مالك بدري التي تصدرها الشبكة العربية للعلوم النفسية، وطلبت البحث من رئيس الشبكة ووعد بإرساله لي وما زلت أنتظر حتى أقرأه.
ملاحظات
• * ترجمة أ.د مهما وصفي • **ترجمة د. أحمد عبد الكريم وجمعية العلاج الجدلي السلوكي • ***ترجمة كاتب المقال • ****ترجمة د. أحمد عبد الله.
المراجع:
1- Barbour, I. G. (1997). Religion and science: Historical and contemporary issues. San Francisco: Harper.
2- Freud, S. Studies on Hysteria [with Breuer, J]. In The Standard Edition of the Complete Works of Sigmund Freud, Vol. 2 J. Strachy, Ed. and Trans.: Hogarth. London, P189-221, 1895.
3- Al-Yousefi, N. A. (2012). Observations of Muslim physicians regarding the influence of religion on health and their clinical approach. Journal of religion and health, 51(2), 269-280.
4- بدري، مالك، التفكر من المشاهدة إلى الشهود، ط 2، المعهد العالمي للفكر الإسلامي،1992 م.
واقرأ أيضا:
العلاج ماوراء المعرفي / في العتمة ضي ! مقدمة.. في الألم! /تقنية تدريب الانتباه Attention Training Technique