نسخة للطباعة لمقال من موقع مجانين.كوم

العلاج ماوراء المعرفي


أ.د وائل أبو هندي

يمثل العلاج ماوراء المعرفي Metacognitive Therapy تطورا حديثا في فهم أسباب مشكلات الصحة النفسية وكذلك في معالجتها، وترجع أصول النظرية ماوراء المعرفية إلى فرعي علم النفس التنموي والتربوي، فمنذ فترة طويلة (1979) تم الاعتراف بأن المعتقدات ماوراء المعرفية Metacognitive Beliefs تلعب دورا حاسما في كيفية تعلم الناس وأن التدريب في مجال السيطرة على المعتقدات ماوراء المعرفية يمكن أن يؤدي إلى تعلم أكثر فعالية ( Flavell, 1979 )، إلا أن البداية الحقيقية للعلاج النفسي ماوراء المعرفي جاءت على يد كل من ويلز وماثيو ( Wells & Mathews, 1994 ) حيث وضعت النظرية الماوراء معرفية في العلاج النفسي لعلاج اضطراب القلق المتعمم Generalized Anxiety Disorder فأثبتت نجاحا وتوالت بعد ذلك النجاحات ( Wells, 1995, 2000 حتى أصبح لتقنيات العلاج ماوراء المعرفي الآن دعما تكدسه الأبحاث والدراسات، وما يزال الإبداع والتجديد مستمرا في هذا المجال.

ويمكننا تبسيط تعريف ما وراء المعرفة بأنه ذلك الجانب من جوانب الإدراك الذي يراقب ويوجه ويقيم ويتحكم في العمليات العقلية والتفكير والمشاعر، وكما يقول ويلز فإن معظم الناس لديهم بعض الخبرات المباشرة والواعية لما وراء المعرفة، مثلا، عندما يكون الإنسان غير قادر على تذكر اسم شخصٍ ما فإنه كثيرا ما يشعر بأنه متأكد من وجود الاسم مختزنا في ذاكرته، ويدخله هذا في حالة ماوراء معرفية تظهر في شكل شعور قوي يسمى أثر على طرف اللسان Tip-of The Tongue-Effect فهي إحدى الخبرات ماوراء المعرفية، المسئولة عن مراقبة ورصد وتنظيم الخبرة المعرفية الراهنة (أو الجارية حالا) والتي تشمل أيضًا الخبرات الشخصانية كمشاعر الثقة أو الشعور بالمعرفة Feelings of Knowing ، وظاهرة على طرف اللسان مثالٌ على ماوراء المعرفة التي تبلغ الشخص أن عنصرا ما من المعلومات المطلوبة موجود في مكان ما في الذاكرة رغم عدم القدرة على تذكرها حالا، وكثيرا ما يتم استرجاع هذا الاسم ودفعه إلى الوعي عندما لا يتوقعه الشخص، وعلى الرغم من أننا ندرك بعض ماوراء المعرفيات كالتي تعمل في مثل هذا المثال، فإن معظم ماورا المعرفيات التي تتحكم في تفكيرنا وخبراتنا الواعية تعمل في الخلفية.

يقول ويلز "إحدى سمات الاضطرابات النفسية مثل القلق أو الاكتئاب هي أن الأفكار يصبح من الصعب السيطرة عليها كما تنحاز بطرق معينة تؤدي إلى تفاقم وإدامة المعاناة النفسية. ويقر أغلب المرضى أنهم يشعرون بفقدان السيطرة على أفكارهم وربما سلوكياتهم، وهو ما يقود إلى نمط من التفكير يسمى متلازمة المعرفة الانتباهية ( Cognitive Attentional Syndrome Wells, 1997 التي تعتبر العامل الرئيسي المتسبب في إطالة أمد اضطرابات القلق والاكتئاب"

وتشمل متلازمة المعرفة الانتباهية عدة مكونات متفاعلة مع بعضها البعض هي كما وصفها ويلز:
1- التفكير التكراري المستمر، يتم استخدام التفكير التكراري المستمر في شكل القلق المفرط ("ماذا لو؟") أو الاجترار (أكثر من تحليل، "لماذا؟") ويدور الشخص في سلاسل من الأفكار التي تدور حول المشاكل وقد تستمر لبعض الوقت.

2- استراتيجيات التأقلم الانتباهية الفاشلة، وتشمل الإفراط في "رصد التهديد" أو تركيز الانتباه على التهديدات المتصورة أو المشاكل، وهي حالة غالبا ما تنطوي على الانغلاق المفرط على الذات وتؤدي إلى تركيز الاهتمام على علامات الخطر (مثلا، الأفكار المقتحمة) والاستثارة الفسيولوجية والانفعالية، وتعتبر استراتيجية الاهتمام بمراقبة ورصد علامات الخطر في الوسواس القهري استراتيجية ماوراء معرفية بطبيعتها كما أنها استراتيجية إرادية ومجهدة تهدف إلى تنظيم العمليات المعرفية، لكنها غالبا تسبب العكس، ذلك أن الرغبة المفرطة في السيطرة على الفكر والمحاولات الفاشلة لقمعها أو السيطرة على الأفكار والمشاعر المزعجة، تؤدي إلى زيادة حدة ومعدل ورود تلك الأفكار، ومثلها في ذلك محاولات الإلهاء أو "عدم التفكير" في الموضوع أو المشكلة غالبا تعطي نتائج عكسية.

3- محاولات المجابهة عكسية النتائج، مثل الإفراط في استخدام سلوكيات طلب الأمان حيث لا لزوم لها، أو الإفراط في المحاولات لحماية النفس أو الآخرين من أو تجنب الأذى المتصور أو المشاعر السلبية، بما في ذلك تجنب حالات أو أنشطة معينة أو التسويف أو القهورات، وواقع الأمر أن هذه الاستراتيجيات تعرقل تعديل المفاهيم والمعارف ماوراء المعرفية وتمنع بالتالي تصحيحها.

أي أن متلازمة المعرفة الانتباهية "هي نمطٌ من التفكير يتكون من القلق والتوجس، والاجترار، وتثبيت الاهتمام على التهديد والخطر، إضافة إلى الانسياق وراء سلوكياتِ التعامل التي يعتقد الشخص أنها مفيدة، رغم أن الكثير منها يأتي بنتائج عكسية" وبذلك تستمر أغلب المشكلات النفسية على اختلافها، ولأن التحكم في متلازمة المعرفة الانتباهية يتم بواسطة ماوراء المعرفيات، فقد كان من الضروري في العلاج ماوراء المعرفي أن تتم مساعدة المرضى على تطوير طرق جديدة للسيطرة على انتباههم، وطرق جديدة للتفاعل مع الأفكار والمعتقدات السلبية المتعلقة بكل حالة من أجل تلافي الوقوع في متلازمة المعرفة الانتباهية، إضافة إلى تعديل المعتقدات ماراء المعرفية التي تؤدي إلى أنماط التفكير غير المفيدة بشكل عام.

تتميز عمليات التفكير التي تصاحب التوجس Worry -وهو العلامة المميزة للقلق Anxiety أو لاضطراب القلق المتعمم رغم وجوده في كافة الأمراض النفسية ورغم كونه خبرة يعرفها كل البشر- باختلافات هامة عن أنواع التفكير الأخرى ( Wells, & Papageorgiou, 1995 ) فللتوجس تغيرات معرفية ووجدانية وفسيولوجية جسدية تصاحبه وتميزه، ورغم أن التوجس في أغلب الناس يمر عابرا إلا أن مرضى القلق المتعمم في نموذج ويلز (Wells, 1997) معرضون بصفة خاصة للتوجس استجابة للمحفزات التي تحمل تهديدا ما أو خطرا ما، وعادة ما تكون تلك المحفزات أفكارا سلبية تقتحم الوعي فمثلا عند قراءة نبأ عن تسمم بعض الأطفال في مدرسة ما تفكر الأم في ماذا لو حصل هذا في مدرسة ابنها أو ابنتها؟ ويؤدي هذا المحفز إلى تفعيل ماوراء المعرفيات المفعلة لخطط واستراتيجيات المجابهة المختلفة، ومرضى القلق المتعمم عادة ما يمتلكون قناعات صلبة عن أهمية وإيجابية استخدام التوجس كاستراتيجية مجابهة للإحساس بالخطر، وبالتالي يختارون التوجس استجابة لمحفز الخطر ومن ثم يولد التوجس فيضا من سيناريوهات الاحتمالات السيئة أو الكارثية إضافة للمخارج والحلول السلوكية الممكنة منها، وهذا ما يسمه ويلز التوجس من النوع1 Type I Worrying وهو التوجس الذي يتعلق بالأحداث الخارجية والأحداث الداخلية غير المعرفية كالأعراض الجسدية، وعلى المدى القصير يتسبب التوجس من النوع1 في زيادة القلق وما يصاحبه من أعراض معرفية وجسدية ثم عندما يطول التوجس بعض الشيء وتبدأ سيناريوهات المخارج والحلول في التوافد على الذهن يؤدي ذلك إلى تقليل أعراض القلق المزعجة، وهو ما يؤدي إلى تعزيز استجابة التوجس من النوع1 عند استشعار الخطر، ذلك أن القدرة أخيرا على إنقاص المشاعر المزعجة تعطي الشخص ثقة يستشعرها في نفسه بالقدرة على مجابهة التوجس، كما ترسخ القناعات الإيجابية تجاه التوجس من النوع1، وعلى العكس من ذلك فإن الأعراض الجسدية للقلق بعد فترة طويلة من التوجس غالبا ما تفسر بطريقة سلبية مما قد يؤدي إلى زيادة التوجس من النوع1.

ومثلما يؤدي نجاح توجس النوع1 في إنقاص المشاعر المزعجة إلى تراكم قناعات إيجابية تجاه التوجس، فإن القناعات السلبية تجاه التوجس تتراكم مع الوقت أيضًا عادة بسبب المخاوف من الآثار السلبية لفترات التوجس الطويلة وما يعنيه ذلك من تهديد للشخص، والذي تؤدي به القناعات السلبية تجاه التوجس إلى تقييم عملية التوجس تقييما سلبيا بمجرد حدوثها وهو ما يعني أنه سيتوجس من التوجس أو مما يتعلق بالتوجس، وهنا منطقة نوع مختلف من التوجس يسميه ويلز " ماوراء التوجس Metaworry أو توجس النوع2 Type II Worrying " فمثلا عادة ما نجد لدى مريض القلق المتعمم قناعات مثل أن التوجس لفترة طويلة يمكن أن يتسبب في ارتفاع الضغط أو الانهيار العصبي أو أي من الأمراض المزمنة، وهو ما يفعل الآليات ماوراء المعرفية المسئولة عن مراقبة التفكير ومحاولة التحكم في الأفكار التي يؤدي تفعيلها إلى توجس النوع2، وتنتج عنها سلوكيات مثل التحاشي أو طلب الطمأنة أو صرف الانتباه أو غيرها فضلا عن الانفعال المزعج المصاحب للتوجس، وكما يظهر في الشكل أعلاه فإنه بمجرد تفعيل ماوراء التوجس أو توجس النوع2 تبدأ ثلاث عمليات إحداهن هي الانفعالات المصاحبة والأخرى تتعلق بسلوكيات مجابهة التوجس، والثالثة تتعلق باستراتيجيات التحكم في الأفكار وتفعيل كل منها يؤدي إلى زيادة التوجس من النوع2 عبر حلقة مفرغة وهو ما يساعد على إعطاء صفة التعمم والإزعاج وفقد السيطرة لمريض القلق المتعمم.

وكما يبين الشكل أعلاه فإنه بينما تؤدي السلوكيات واستراتيجيات التحكم التي يلجأ إليها مريض القلق المتعمم هربا من توجس النوع2 إلى زيادة مرتدة في توجس النوع2 فإن الانفعالات والمشاعر المصاحبة يمكن أن تنتج عنها زيادة توجس النوع1 مثلا حين يفتقد المريض انفعال الثقة أو الشعور بثقته في القدرة على المجابهة وكثير من مرضى القلق المتعمم يستخدمون أحاسيسهم ومشاعرهم الداخلية في استشعار تلك الثقة، كما أن زيادة التوجس من النوع2 تؤدي بالضرورة إلى زيادة مرتدة فيه خاصة بعد تفعيل القناعات السلبية تجاه التوجس أي عندما يصبح الشعور بالتوجس محفزا لاستجابة القلق لأن الشخص يفسره كعلامة على قرب انهيار أعصابه أو رفع ضغط دمه إلخ.

ويرى ويلز (Wells & Carter, 1999أن نجاح توجس النوع1 أحيانا في تخفيف القلق يدفع الشخص للانخراط فيه لأن عدم اللجوء إليه يعني للشخص عدم المجابهة، ونظرا لوجود تنافر معرفي Cognitive Dissonance بين قناعاته الإيجابية وقناعاته السلبية في نفس الوقت تجاه التوجس فإن مريض اضطراب القلق المتعمم عادة ما يلجأ لحل وسط متوهم يحاول فيه الاستفادة من إيجابيات التوجس مع تفادي سلبياته وعادة ما يشمل ذلك محاولة لقمع الأفكار المقتحمة التي تسبب التوجس في المقام الأول، فمثلا إذا كان أحدهم قلقا بشأن وضعه الوظيفي حاليا فإنه مبدئيا سيحاول عدم التفكير في العمل عموما، ولكنه عندما تقتحم وعيه فكرة تتعلق بالوظيفة فإنه بداية يختار التوجس بشأنها محاولا إشعار نفسه بالثقة في قدرته على المجابهة ثم عادة ما تبدأ محاولات قمعها وهي المحكوم عليها بالفشل في أغلب الأحيان بسبب النتيجة العكسية لمحاولة السيطرة على محتويات التفكير والتي بينتها دراسات عديدة بناء على الدراسة الرائدة لويجنر (Wegner, 1994) عن نظرية العملية المفارقة أو الساخرة Ironic Process Theory والتي تشير إلى أن محاولة السيطرة على محتوى عقلي معين تؤدي إلى زيادة إلحاحه، وهو ما يعزز توجس النوع2 أو ماوراء التوجس بشأن فقدان السيطرة على الأفكار.

بناء على هذه الرؤية المبدعة للتوجس واضطراب القلق المتعمم، بدأ كيان العلاج النفسي ماوراء المعرفي وتم تطوير هذا النهج الفكري في رؤية أسباب إدامة المشكلات النفسية والانفعالية بداية في علاج اضطراب القلق المتعمم، ثم توالت الاضطرابات فأصبح لدينا علاجا "ماوراء معرفي" لاضطراب الكرب التالي للرضح أو ما بعد الصدمة Post Traumatic Stress Disorder واضطراب الوسواس القهري Obsessive Compulsive Disorder واضطراب القلق الاجتماعي Social Anxiety Disorder واضطرابي قلق المرض Illness Anxiety Disorder والعرض الجسدي Somatic Symptom Disorder واضطراب نتف الشعر Hair-Pulling Disorder أو هوس نتف الشعر Trichotillomania وغير ذلك من الاضطرابات النفسية.

ويقدم العلاج النفسي ماوراء المعرفي عددا من التقنيات لإكساب الأشخاص ملكات معينة عبر صقل وظائف عقلية معينة ولعل من أهم تلك التقنيات تقنية تدريب التركيز Attention Training Technique وفيها يتم تدريب الشخص على التحكم في التركيز وتوسيع وتضييق مجاله وكذلك إبدال التركيز من هدف إلى آخر، وهو ما يتم عادة عبر الاستماع إلى أكثر من صوت في نفس الوقت ( Wells, 2009 ) مع التدرب على تحويل التركيز من صوت إلى آخر ومن التركيز على أكثر من الصوت إلى التركيز على صوت واحد إلخ، وأيضًا يقدم تقنيات تطوير "موهبة" الوعي التام المنفصل أو المستقل Detached Mindfulness ، وغيرها إذ كما قلت في البداية ما يزال المجال مفتوحا للابتكار والإبداع.

المراجع:

Flavell, J. (1979): Meta-cognition and meta-cognitive monitoring: a new area of cognitive developmental inquiry. American Psychologist, 34, 906-911.
Wells, A., & Mathews, G. (1994): Attention and emotion: a clinical perspective. Hove, UK: Erlbaum
Wells, A. (1995): Meta-cognition and worry: a cognitive model of generalized anxiety disorder. Behav Cogn Psychother ;23:301–320.
Wells, A. (2000): Emotional Disorders and Metacognition: Innovative Cognitive Therapy. Chichester, UK: John Wiley & Sons.
Wells, A. (1997): Cognitive therapy of anxiety disorders: a practice manual and conceptual guide. Chichester, England: Wiley.
Wells, A., & Papageorgiou, C. (1995): Worry and the incubation of intrusive images following stress. Behaviour Research and Therapy, 33, 579–583
Wells, A., & Carter, K. (1999): Preliminary tests of a cognitive model of generalized anxiety disorder. Behaviour Research and Therapy, 37, 585–594.
Wegner, D. M (1994): Ironic Process of mental control. ", Psychological Review 101 (1): 34–52
Wells, A. (2009): Metacognitive therapy for anxiety and depression. New York: Guilford Press


واقرأ أيضاً:
الوساوس الحسية الجسدية والخارجسدية / متلازمة توريت / الوسواس القهرى وماوراء المعرفة / التدين الوسواسي