حفرت السنين أخاديدها في وجهها، ويبس الجنبان واحدودب الظهر، وبالتأكيد اشتعل رأسها شيباً بل انقلب شعرها إلى اللون الأبيض، ولكن الأصباغ تخفي ذلك وهي بحكم سني عمرها التي تناهز التسعين وسنوات خبرتها في الصحافة والإعلام التي تُناهز السبعين أو يزيد أدركت وبكلمات محدودة مختصرة حل المشكلة الجذري، هي لم تُصب بالخرف كما يتصور البعض، وهي لم تُصرح بما صرَّحت به كُرهاً بأمريكا على العكس، لعل حبها لأمريكا وإدراكها الخطر على محبوبتها من تبعات الارتماء والانقياد الأعمى وراء السياسات الإسرائيلية هو ما دفعها لتقول ما قالت.
(هيلين توماس) عميدة المراسلين والصحافيين رقم واحد في البيت الأبيض قالت بأن على اليهود في فلسـطين العودة إلى أوطانهم، وقطعت الشـك باليقين حين سُـئلت عن هذه الأوطان بالقول: إلى ألمانيا أو بولندا أو الولايات المتحدة.
إن (هيلين توماس) وبحكم عملها كمراسلة في البيت الأبيض منذ (جون كينيدي) وحتى (باراك أوباما) توصلت إلى الحل الذي يتهرب منه الكثيرين، ويخشى أو يخجل البعض من الحديث عنه ولو همساً.
قد يقول قائل بأنها اعتذرت أو تراجعت عن كلامها؛ ولكن لو اعتبرنا أن ما قالته اعتذاراً فإن قطرات المطر إذا نزلت على الأرض لا يمكن أن تعود إلى الغمام، ولو دققت النظر في كلمات اعتذارها المفترضة لوجدناها أنها لم تتراجع عن الحل الذي صرحت به، والذي أثار ضدها كل زمرة «يُسارعون فيهم» ورغم الاعتذار المفترض فقد أنهت عملها الصحافي في البيت الأبيض، ويُقال بأنها لن تترك الإعلام وتستعد لنشاط إعلامي آخر، في أواخر عمرها سجلت (هيلين توماس) موقفاً تاريخياً لا نملك إلا أن نشكرها عليه، فكما اعتادت هي لسنين طوال إنهاء مقابلات الرئيس الأمريكي مع الصحافيين بالقول: Thank You Mr. president. شكرا سيادة الرئيس، علينا أن نقول لها: شكراً سيدة (هيلين توماس).
أيقونة الإعلام الأمريكي وكبيرة المراسلين لم تتردد بتوجيه سؤال (لباراك أوباما) عن الدولة التي تملك سلاحاً نوويا في منطقتنا، مما أشعره بالارتباك والحرج، ولم تتردد بانتقاد سياسات (جورج بوش) وما جرّته من تداعيات خطيرة على العالم بأسره عموماً، وعلى منطقتنا خصوصاً.
وعلى العكس من (هيلين توماس) فإن مجموعة من الصحافيين العرب احترفوا مهنة موازية للصحافة هي مهنة إغاظة ومحاولة تضليل شعوبهم وأمتهم لسنوات، رغم أن قلة قليلة منهم قد تحظى بمقابلة قصيرة مع سيد البيت الأبيض أو أحد مساعديه أو مستشاريه، وليسوا مثل (هيلين) من دائرته الصغيرة.
هؤلاء القوم استمرؤوا، في خضم محاولتهم تقديم الولاء الأعمى لواشنطن بل لزمرة المحافظين الجُدد فيها، قلب كل الحقائق فيما يكتبون أو يقولون وفق نظرية «حلب الثور» والقناعة الزائفة بأنهم إذا صرخوا بأن الشهد يُجنى من أعشاش الدبابير، وأن الماء العذب الفرات يُغرف من البحر الميت، فإن الصراخ كفيل بجعل هذه اللامنطقيات حقائق كما يظنون!
فلسنوات عِجاف كانوا، وما زالوا، إذا قلت لهم بأن الولايات المتحدة جوّعت العراقيين وقتلت الكثير منهم، ردوا على الفور: "بأن صدام حسين ارتكب أعمال قتل" وأخذوا يُسهبون في الشرح، وإذا قلت لهم بأن (إسرائيل) قتلت الكثير من الفلسطينيين الأبرياء، قالوا بحماسة: نحن نستنكر جرائم (إسرائيل)، ثم قفزوا إلى القول بأن ياسر عرفات حين كان يسير في نهج السلام لم يكن هذا يحدث، "أي أن عرفات بنظرهم مسئول عن جرائم (شارون)"، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
جملة معترضة: بعض هؤلاء كانوا يصفون صدام بحامي حمى العروبة وبعضهم لطالما حظي بعطايا أبي عمار، وكان يتوسل مقابلة معه... وفهمكم كفاية!
ونحن من وجهة نظرهم كلنا خطأ في خطأ منذ الأزل، ونحن نواصل ارتكاب الحماقات؛ فأكبر حماقة ـ من وجهة نظرهم ـ ارتكبناها هي رفضنا القبول بقرار التقسيم... سامحكم الله يا آباءنا ويا أجدادنا لماذا لم تُسيروا المسيرات أمام مقر المندوب السامي وتهتفوا: حيفا الهم مش النا، واحنا اقبلنا بالتقسيم، آه يا أبي ويا جدي أكتفي بالقول سامحكم الله، ولكن الغضب من موقفكم السلبي تجاه قرار التقسيم "العادل" قد يدفعني لأقول بحقكم كلاماً قاسياً... واستمرت الحماقات وتضييع الفرص السانحة حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، على ذمة جوقة الصحافيين المحسوبين علينا!
هؤلاء المحسوبين علينا كصحافيين يكتبون ويتكلمون بلغتنا تطوعوا أو ربما أجّروا أنفسهم، الله أعلم، للدفاع عن (إسرائيل) وأمريكا ومن خلفهما بالحديث عن كل ما هو فظيع وسيئ لدينا مع تجاهل وإنكار كل الجرائم البشعة التي ارتُكبت بحقنا ومازالوا سادرين في ضلالهم وتضليلهم، فقد انتهى نظام صدام حسين ورأينا ما آلت إليه الأوضاع في العراق، وحال فلسطين يزداد سوءا، فتفتقت أذهان هؤلاء على أن المقاومة في العراق يقوم بها أيتام صدام حسين وتكفيريون "قتلة" من تنظيم القاعدة بينما يرقص بقية العراقيين طرباً لاحتلال أرضهم وانتهاك عرضهم، أما المقاومة الفلسطينية واللبنانية فهي "كذبة كبيرة" حيث أن عموم الفلسطينيين واللبنانيين يهيمون عشقاً (بإسرائيل) إلا أن البعض ينغّص على المعشوق باسم المقاومة، فلا استيطان ولا تهويد ولا أسرى ولا حصار فهذه قضايا هامشية، فالمشكلة هي تنظيم القاعدة وبرنامج إيران النووي والفكر المتصلب المنغلق لدى هذه الأمة، في مواجهة التلمود المنفتح الحضاري!!!
ولا أدري أي عقل يحكم هؤلاء، فهم يعلمون أن صدام حسين حارب إيران ثماني سنوات، فيأتون اليوم لشتم صدام وشتم إيران على حد سواء، وشيطنة كل من يُحاول أن يقف في وجه أمريكا و(إسرائيل) ولو بالكلام، بل يتصرفون بحالة من الهذيان الذي سمعناه من زمرة المحافظين الجُدد، فهناك تحالف بين البعث العراقي وإيران وتنظيم القاعدة و(فيدل كاسترو) و(هوجو تشافيز)، وربما أضافوا (أردوغان) و(دا سيلفا) و(ناطوري كارتا)... على ماذا يفتش هؤلاء، وإلامَ يسعون؟ للشهرة، لحظوة لدى سيد البيت الأبيض وما دروا أن من لا يحترم أمتـه وثقافتـه لا يحترمـه الآخر ولو أبدى لـه ابتسـامـة أو تظاهراً زائفاً بالإعجاب.
أنا متأكد أن هؤلاء يُدركون ألا أحد هنا يُصدق أكاذيبهم ولا احترام لهم، على ذكر الاحترام هم يصفون الشعوب بالغوغائية وعدم الوعي لأنها لا تنقاد وراء خزعبلاتهم، وفوق ذلك هم يزعمون أنهم يمتلكون الحقيقة وكل ما خلاهم وهم وسراب في تناقض مع ما يزعمون من رغبة في الموضوعية والتحليل العلمي وتقبل الرأي الآخر، فإن الرأي الآخر إذا لم يقل بأن أمريكا و(إسرائيل) تُجسدان "الديموقراطية والعدل" وأن دماءنا التي تنزف منهما كذبة نحن اخترعناها، فهو رأي يُجسد الشعارات الجوفاء والخطاب الحنجوري!
على الفلسطينيين من وجهة نظر هؤلاء أن يُقدموا اعتذاراً لأنهم ورثوا هذه الأرض عن آبائهم وأجدادهم وعلى المسلمين أن يُفسروا آيات سورة الإسراء بطريقة أخرى بحيث يكون مكان المسجد الأقصى في (نيكاراغوا) أو (فيجي) وليس في بيت المقدس!! وعلى العراقيين أن يشكروا الأمريكان على "نعيم ديموقراطيتهم" الذي يغرقون فيه منذ سنوات، وعلى الأفغان كتابة قصائد المديح في (قندوز) و(جانجي) و(باغرام) و(غوانتانامو)!
لكن الرد على هؤلاء المحسوبين علينا كصحافيين عرب لم يأتِ من منتمٍ إلى القاعدة أو حزب البعث أو عضوا في الحرس الثوري الإيراني، ولا حتى من عضو في "حزب العدالة والتنمية" التركي، بل من السيدة (هيلين توماس) التي يُدرك هؤلاء أين موقعها في الإعلام الأمريكي، وهي ليست مسلمة، أما عن جذورها فقد هاجر والدها من لبنان أواخر القرن التاسع عشر، فهي أمريكية بامتياز يا هؤلاء الذين صدعوا رؤوسنا بنظرياتهم الغريبة العجيبة التي تريد أن تُقنعنا أن النار لا تُخلف رماداً بل مسكاً وعنبراً.
ما ردكم على الحل الذي لخصته كلمات (هيلين توماس)؟ هل هي عميلة لإيران؟ أم كانت تستفيد من كوبونات صدام النفطية... لا لا ربما هي تنتمي سراً إلى القاعدة، وتؤيد حكم طالبان!
(هيلين توماس) وضعت النقاط فوق الحروف، وبعيداً عن كل فلسفات الحلول التي أُهلك الحرث والنسل لتطبيقها، وضعت حلاً يُريحنا ويُريحهم؛ فكم نحن بحاجة إلى أن يتعلم بعض هؤلاء المحسوبين على إعلامنا وصحافتنا درساً من (هيلين توماس).... أهذا ممكن؟ (((كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)))، لقد أسمعت لو ناديت حياً، ولكن لا حياة لمن تُنادي.
واقرأ أيضاً:
وهل الضفة الغربية/ بلفور... كم أكرهك وكم أعشق القوة! / عماد مغنية... قدر الأحرار/ هل يلعب الإعلام الحديث دوراً تضليلياً؟/ أليس هناك مساجد في جنين؟!