يحتدم الجدل حالياً في الساحة اللبنانية حول ملف العملاء في أعقاب تكشف حجم تغلغل (إسرائيل) في مرافق الدولة اللبنانية السياسية والأمنية والخدماتية والاقتصادية، والتي كان آخر الشواهد عليها إلقاء القبض على العميد المتقاعد "فايز كرم" والذي يُعتبر من قادة التيار الوطني الحر الذي يقوده العماد "ميشيل عون". ومما لا شك فيه أن ما تمكنت الأجهزة اللبنانية من الكشف عنه يُدلل على أن الأجهزة الإسـتخباريـة الإسـرائيليـة تسـتثمر جهوداً هائلـة في سـعيها لتجنيد أكبر عدد من العملاء ومحاولـة غرسـهم في المؤسـسـات الرسـميـة الهامـة في العالم العربي. وبشأن هذا الملف هناك عدة أسئلة يجب أن تُطرح: ما هو سر السهولة المثيرة للاستفزاز التي تتمكن بها الأجهزة الإستخبارية الإسرائيلية من تجنيد العملاء في العالم العربي في صفوفها...؟ وما جملة الأدوار التي يقوم بها هؤلاء العملاء...؟ وما هي سُبل مواجهة هذه الخطر...؟
العملاء في العقيدة الأمنية الإسرائيلية
يقول (إسرائيل حسون)، نائب رئيس المخابرات الداخلية الإسرائيلية (الشاباك) سابقاً أن محصلـة عمل الجيـش والأجهزة الأمنيـة الإسـرائيليـة في أي سـاحـة عربيـة سـتكون صفر لولا المسـاعدة الحاسـمـة التي يُقدمها العملاء في هذه السـاحـة. ويتضح من مراجعة الأدبيات الأمنية الإسرائيلية أن المعلومات الاستخبارية التي يقدمها العملاء تعتبر جزءً أساسياً من العقيدة الأمنية الإسرائيلية، للأسباب التالية:
ـ أولاً: الحصول على المعلومة الاستخبارية الدقيقة يوفر الجهد ويُقلص حجم الإمكانيات التي يُجندها الجيش الإسرائيلي في سعيه لضرب أهداف محددة في العالم العربي.
ـ ثانياً: تُساعد المعلومات الاستخبارية (إسرائيل) دوماً في توجيه الضربات القاصمة في بداية حروبها التي شنتها ضد العرب، مما يؤدي إلى تقليص أمد الحرب ويُساعد (إسرائيل) على استئناف أنماط الحياة الطبيعية فيها، وفي نفس الوقت يؤدي ذلك ـ وفق المنطق الإسرائيلي ـ إلى المسِ بمعنويات دوائر صنع القرار والجماهير العربية ويُقلص من رغبة الأنظمة العربية وحركات المقاومة في مواصلة القتال.
ـ ثالثاً: أسهمت المعلومات الاستخبارية في تمكين (إسرائيل) من الاحتفاظ بجيش نظامي صغير نسبياً، بحيث يتم استدعاء قوات الاحتياط في حالات الضرورة.
ـ رابعاً: يعتبر أرباب الفكر الاستخباري الإسرائيلي أن المعلومات الاستخبارية التي مصدرها العنصر البشري، ممثلاً بالعملاء، أكثر دقة وأوسع استخداماً من المعلومات التي يمكن الحصول عليها بتوظيف التقنيات المتقدمة في عمليات التنصت والتصوير، ويسخر الإسرائيليون من مغالاة الأمريكيين في الاعتماد على المعلومات الاستخبارية التي يمكن الحصول عليها بواسطة التقنيات المتقدمة، ويعزون فشل الجهد العسكري الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان إلى ذلك.
أوراق (إسرائيل) الرابحة
ترجع قدرة (إسرائيل) المثيرة للاستفزاز على تجنيد العدد الكبير من العرب لصالح استخباراتها لعدد من الأسباب، بعضها يرتبط بعوائد الفعل العسكري الإسرائيلي، والبعض الآخر ناجم عن البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية الإشكالية في العالم العربي. ومن الأسباب التي تُساعد (إسرائيل) على تجنيد العملاء:
1 ـ احتلال (إسرائيل) المباشر للأراضي العربية: فالاحتلال يُمكن (إسرائيل) من التحكم بمفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية فتسهل عمليات الابتزاز والمساومة، فيغدو تقديم طلب للحصول على تصريح عمل أو زيارة أو علاج مثلاً مناسبة للمساومة على العمالة، وهذا يحدث على نطاق واسع في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكان يحدث في جنوب لبنان حتى العام 2000.
2 ـ أنظمة الحكم القمعية في العالم العربي: يُجمع كل من (شفتاي شفيط) رئيس "الموساد" الأسبق، و(رافي إيتان) الذي تولى قيادة فرع تجنيد العملاء في "الموساد" سابقاً، وغيرهما الكثير من قادة الأجهزة الإسرائيلية السابقين على أن وجود الأنظمة الديكتاتورية أسهم إلى حد كبير في توفير الظروف المناسبة لتسهيل مهمة تجنيد العملاء؛ حيث أن الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي تقتل عنصر الانتماء في نفوس الكثير من المواطنين العرب، مما يُشكل بيئة مناسبة لعمل "الموساد"، كما يؤكد (إيتان)! ومن هنا فإن "إسهامات" أنظمة الاستبداد في العالم العربي لا تقف عند حد، ولا تستقر في قاع!
3 ـ المستوى التعليمي: على الرغم من تمكن (إسرائيل) من تجنيد عملاء من كل المستويات التعليمية، إلا أنه من خلال دراسة ملفات العملاء في الساحة الفلسطينية يتضح أن هناك علاقة عكسية بين مستوى التعليم والأهلية للسقوط في براثن العمالة. وحسب الأدبيات الأمنية الإسرائيلية فإنه لا يتم تقدير أهمية العميل وإسهامه من خلال مستواه التعليمي؛ فقد ذكر أحد المسئولين عن تجنيد العملاء في "الشاباك" أنه تبين أن بعض العملاء غير المتعلمين يمكن أن يؤدي خدمة استخبارية كبيرة. وتحرياً للدقة قد يكون هذا الأمر خاص بالساحة الفلسطينية، فالجهد الاستخباري الإسرائيلي في المناطق العربية الأخرى يفترض أنه يتطلب وجود عملاء نوعيين، ليتمكنوا من التعاطي مع التقنيات المتقدمة التي يتطلب من كل عميل التعامل معها.
4 ـ ضعف الوازع الديني والأخلاقي: يذكر (آفي ديختر) الرئيس الأسبق في جهاز المخابرات الداخلية "الشاباك" أنه في مطلع السبعينات من القرن الماضي كان مسئولا عن "الشاباك" في شمال قطاع غزة، وقد استدعى شاباً فلسطينياً من "بيت حانون" لمساومته على التخابر مع (إسرائيل)، وبعد أن أبدى الشاب موافقته، فإذا بصوت آذان الظهر يصدع في المكان، فإذا بالشاب يثور ويتراجع، وبعد ذلك تبين (لديختر) أنه انضم لإحدى حركات المقاومة. ويقول (يعكوف بيري) وهو أيضاً رئيس سابق لـ "الشاباك" أن الوازع الديني لدى الشباب الفلسطيني يُعتبر أحد العقبات الكأداء التي تحول دون تجنيد العملاء من بين صفوف المتدينين، وإن نجحت هذه المحاولات فهي تحتاج إلى وقت طويل وجهد مضني، علاوة على أن النتائج تكون في بعض الأحيان مشكوك فيها.
هل "الاحتفال" بالكشف عن شبكات التجسس في مكانه؟
جرت العادة في العالم العربي أن تُسارع الأجهزة الأمنية للكشف عبر وسائل الإعلام عن نجاحها في إلقاء القبض على العملاء أو تفكيك شبكاتهم، فهل هذا السلوك يخدم المصلحة الأمنية الإستراتيجية لكل قطر وكيان عربي، أم أن ذلك يتسق مع أهداف (إسرائيل) من زرع العملاء!؟
أولاً من الأهمية التشديد على أن بذل الجهود من أجل الكشف عن العملاء هو أولوية استراتيجية وطنية لكل كيان معني بالمنعة ويُقدر أهمية أمنه وسلامة مجتمعه؛ لكن المسارعة عبر الإعلام للكشف عن العملاء وتحول ذلك إلى مادة للاهتمام الجماهيري لا يخدم المصلحة بكل تأكيد، بل يخدم الجهد الاستخباري الإسرائيلي. فأحد أهم الأهداف من زرع العملاء هو ضرب الروح المعنويـة للجماهير العربيـة ودب الشـكوك في قلوب المواطنين العرب وتيئيسـهم من إمكانيـة مواجهـة (إسـرائيل)؛ وتحديداً عندما يتم الكشـف عن عميل يضطلع بمنصب كبير أو يشـغل مكانـة مرموقـة فإن هذا يضرب الروح المعنويـة للناس، ويُكرس انطباع بأن (إسـرائيل) لا تعجز عن تجنيد أحد في السـاحـة العربيـة، ومما لا شك فيه أن هذا الإحباط يُقلص مستوى الاهتمام بالشأن العام ويؤثر سلباً على الانخراط في العمل ضد الاحتلال، حيث يسود انطباع بأن الكل بات مكشوفاً (لإسرائيل) وبالتالي فما جدوى العمل ضدها إذن؟
وإذا أردنا أن نضع النقاط على الحروف فإن علينا أن نُشير إلى الكيفية التي تتعامل بها مع العملاء الذين كشفت عنهم بعد أن تم زرعهم في مؤسساتها. فقد تمكن جهاز المخابرات السوفياتي "كي. جي. بي." من زرع عدد كبير من العملاء في قلب المؤسسات الإسرائيلية الحساسة، أحدهم كان عقيداً في المخابرات الإسرائيلية وعمل في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، وآخر عمل في معهد "نتسيونا" المختص بإنتاج الأسلحة البيولوجية، وغيرهم الكثير، لكن معظم هؤلاء اعتُقلوا وحُوكموا وقضى كل واحد منهم عشر سنوات على الأقل في السجن قبل أن يتم تسريب ذلك للإعلام، وذلك لإن المؤسـسـة الأمنيـة الإسـرائيليـة تُدرك أن تحويل الكشـف عن العملاء إلى قضيـة إعلاميـة يُمثل سـهماً مرتداً إلى المجتمع الصهيوني نفسـه، علاوة على أنه يمـس بهيبـة (إسـرائيل) وهيبـة أجهزتها الأمنيـة...
من هنا فإن هناك حاجة لإعادة تقييم مسألة المسارعة للكشف عن العملاء في كل من لبنان وفلسطين. وعلينا أن نذكر أن قدرة قوى الاحتلال على اختراق المجتمعات المحتلـة والمقهورة تُعتبر مُسـلمـة تاريخيـة؛ ففي المواجهات بين الأمم، سـيكون هناك من يكون مسـتعداً لبيع نفسـه ومصالح شـعبـه لعدوه، وعليه فإن تمكن (إسرائيل) من تجنيد العملاء العرب ليس أمراً شاذاً، سيما أن الصهاينة يوظفون في جهدهم الاستخباري عوائد تفوقهم في الحروب مع العرب.
لكن ما لا يمكن التسـليم به هو عدم التحرك الجدي لمواجهـة الاسـتخبارات الإسـرائيليـة والعمل على تقليص قدرتها على اختراق المجتمعات العربيـة على هذا النحو المهين. ومن الواضح أن معالجة هذا الخطر يجب أن تبدأ من محاولة سحب الأوراق الرابحة من يد (إسرائيل). فمن الواضح أنه من الأهمية بمكان تغيير البيئة السياسية في العالم العربي والتخلص من واقع الاستبداد وتحسين مخرجات العملية التعليمية وربط الشباب العربي بالمنظومات القيمية والأخلاقية المستندة لدين الأمة وإرثها الثقافي والحضاري. بالطبع إلى جانب المعالجة القانونية والقضائية المتمثلة في محاسبة العملاء. لكن رغم كل ما تقوم به (إسرائيل) من جهود في المجال الاستخباري، إلا أن تاريخ الصراع يُدلل على أن هذه الجهود لم تنجح في قهر الإرادة العربية في المواجهة وثني حركات المقاومة عن مواصلة مسيرة التحرير.
واقرأ أيضاً:
من أين تستمد (إسرائيل) قوتها؟