أولادنا في رمضان1
لحظة الإفطار............. لا يمكن أن تنسى من أذهان الأطفال، الأسرة كلها مجتمعة، الوالد يؤكد: "عجلوا الفطر" وقد حكى لهم عن أجر من فطر صائما يوما، الأطفال يتسابقون ليضعوا التمر في أفواه بعضهم وأفواه الأم والأب لينالوا أجر إفطار الصائم، وغير مسموح للوالدين أن يمسكوا التمرة بأيديهم بل على الطفل أن يضعها بنفسه في فم والديه وإخوته ومن يسبق يفوز بأجر ذلك اليوم، وكثيرا ما تكون الوالدة أو الوالد أحد الفائزين.
كان الأطفال يفهمون أن حبيبنا صلى الله عليه وسلم سن لهم الإفطار على التمر فإن لم يكن فاللبن فإن لم يكن فالماء لذا كانوا يحرصون على هذا الترتيب رغم وجود الأطعمة الشهية ولا مانع بعد ذلك من اختطاف قطعة من هنا أو هناك من أحد الأطباق قبل إعداد المائدة كذلك عرف الأطفال أن السنة الوتر في التمر مثلا ومع جوعهم كان الوالد يقول ضاحكا الوتر غير محدد يعني 119 وتر المهم أن تكون وترا.
الكل في هذه اللحظة مبتسم، كان الأطفال يحبون لحظة الإفطار جدا، وكانوا يحبون ترديد الدعاء قبل لحظة الإفطار كما أخبرهم والدهم أنه لا يرد، لا أذكر أن أحدا كان ينشغل باللهفة الشديدة على الطعام كما رأيت عند بعض البيوت الآن، بل لم يكن شهر رمضان شهر معاناة أو مجاعة في ذهن الأطفال أبدا، ولم تكن طقوس الشراء وتخزين الأطعمة ضمن طقوس الشهر رغم إن الوالد كان يحرص على ألا يخلو البيت من الأطعمة المميزة لرمضان.
صلاة التراويح....... الوالدان يعلنان: "سنذهب لصلاة التراويح من يريد أن يذهب؟".
صلاة التراويح هي نوع من أنواع التحدي بين الأطفال: "أنا صليت ست ركعات كاملة" "أما أنا فقد تفوقت عليك وصليت عشرا" وكان الوالدان يقسمان الأدوار بين الأطفال ويصطحبان طفلين كل يوم والصبي كان ملازما لوالده في كل الصلوات بل لنقل في كل مكان باستثناء العمل، ترتدي الطفلتان الخمار (الذي يقل قليلا عن طول الثوب القصير) وتصحبن والدتهن للصلاة.
في الطريق ينادي الوالد إحداهن هامسا وكأنه سيسر لها بسر خطير، ويدس في يدها ريالا (العملة السعودية) ويقول هامسا أعطي هذه لذلك الرجل الفقير هناك، والطفلة تفهم جيدا لماذا يهمس الوالد، فنحن نخفي الصدقات، وتشعر بالفخر الشديد أنها صاحبة هذا السر الخطير، وفي أثناء ذهابها يفعل الوالد الشيء نفسه مع الأخرى وفي اتجاه آخر، والطفلة تمسك المال بيدها وتغلقها عليه جيدا لكيلا يرى أحد كم معها إمعانا في السرية.
صحيح أن كلتا الطفلتين تحكي لجميع من في المنزل عن الأمر بشكل منفرد فتقول "هل أخبرك بسر لا تخبر به أحدا؟ لقد فعلت كذا وكذا" ويبتسم الوالدان من بُعد فقد وصلت الرسالة ووصل الدرس.
ومفهوم العطاء في رمضان........ تشكل في أذهان الأطفال بأشكال متعددة، فمن طقوس رمضان المميزة التهادي بين الجيران بالأطعمة الشهية قبل الإفطار وكثيرا ما كانت الأم تجعل دورا لكل طفل لتوصيل الهدية للجيران كل يوم، وأذكر أننا انتقلنا في حي جديد لم نكن نعرف فيه أحدا وكنا نجد يوميا طفلا يدق الباب ويقول نحن جيرانكم من البيت المقابل وتفضلوا هذه الهدية، وكانت الأم بالمقابل تعيد الطبق ممتلئا بهدية جديدة الطريف أن الأم والأب لا يعرفون هؤلاء الجيران شخصيا والوالد تعرف على الرجل بعد ذلك في المسجد عند صلاة العشاء.
وهدية الجيران تكون عادة من الطبق المميز لليوم أو من الحلوى الشهية.
كان الوالد يعود من عمله قرب المغرب لكن ذلك لا يمنع أن يصطحب أحد الأطفال لشراء بعض الخبز أو التمر واللبن ثم توزيعه على الصائمين من الزوار أو الفقراء أمام الحرم المدني قبيل المغرب بقليل وكانت هذه نزهة مميزة عند الأطفال.
الترابط الأسري في رمضان كان من أهم مميزات الشهر، فقد كان الأطفال يشعرون بدفء الأسرة ويرتبط ذلك في أذهانهم بجو العبادة اللطيف، والروحانية الجميلة فكانت تصرفاتهم تلقائية لم تكن أوامر أو إجبارا من الوالدين.
والنماذج المضيئة في رمضان.... لم تقتصر على الوالدين فقط أمام أعين الأطفال، فهناك أصدقاء الوالدين، وإن نسيت لا أنسى ذلك المعنى الجميل في الأخوة والذي أحكيه دائما كلما طرح موضوع الأخوة أمامي والذي تمثل أمام أعيننا في موقف رائع لأحد أصدقاء الوالد ـــ وكان صاحب قلب رقيق وخلق عال ـ وكنا نعرف ذلك عنه من حديث الوالد.
ففي أحد أيام رمضان وقبيل أذان المغرب بدقائق، يدق جرس الباب، ويرتبك المنزل، ترى من ذلك الضيف الذي يأتي بغير موعد في هذا الوقت؟، تسرع الأم للاستعداد بتحضير إفطار مناسب بينما يفتح الوالد الباب لمعرفة الزائر والأطفال يرقبون المشهد بدهشة وترقب، يغيب الوالد قليلا ثم يعود مبتسما وهو يحمل عددا من الأكياس، ويقول: إنه عمكم فلان جاء مع آخر وهو يقول أنهم أحبوا أن يتصدقوا علينا اليوم بأجر إفطار الصائم فجاؤوا ليفطروا عندنا على التمر والماء ثم ينصرفان، والجميل أن الضيف كان من الأدب والفطنة أنه كان يعلم أن الوالد لا يمكن أن يكتفي بالماء لإفطار الصائمين بل سيصر أن يفطروا إفطارا كاملا، وبما أنه يعلم أن الزيارة كانت مفاجئة فلم يدع مجالا لإحراج أهل المنزل فجاء ومعه أنواع مختلفة من العصائر، والكثير من الخبز والفلافل وهي أكلة شعبية رخيصة الثمن ويقول للوالد: أحضر ما عندك ونضعه على ما معنا ليكون إفطارا متميزا، ولم يكن هذا كل شيء بل كان الضيف العزيز محملا بالهدايا لكل أفراد المنزل أقمشة وملابس وألعاب رغم أنه كان رقيق الحال، وتناول الضيفان المهذبان الطعام بسرعة قياسية كي يتيحا للوالد مشاركة عائلته بقية إفطارهم، يا لها من لفتة رأى الأطفال أثرها على وجه الوالدين فحفرت في نفوسهم معنى عميقا للأخوة لا ينسى.
وموقف آخر لشخص آخر حيث كان الأسبوع في نهايته وقد وعد الوالد الأطفال بنزهة يترقبونها من زمن، وقد استعد الجميع وتأهبوا للخروج وإذا بجرس الباب يدق، وانهار الأطفال، وأجابت إحداهن من جهاز استقبال الزائر:"من"؟ فأجاب الزائر: "فلان هل الوالد موجود" وتحطمت أحلام الأطفال بالنزهة، ويستقبل الوالد الزائر على الباب بترحاب شديد ويصافحه بشدة، ثم يقول له: "وإذا قيل لكم ارجعوا فارجعوا" فيبتسم الضيف ويصافح الوالد بحرارة وينصرف دون أن يدخل.
الأم تعاتب الوالد بلطف وتقول: النزهة كان من الممكن أن تتأخر، وكان يمكننا استقبال الضيف، لكن الوالد أصر على أن يوصل المعنى للأطفال، فيقرأ الآيات ويشرحها ويذكر مواقف مشابهة حدثت بين الصحابة رضوان الله عليهم مبينا أن الخير كل الخير في اتباع هدي الله ورسوله. الطريف أن هذا الضيف لم يكن لديه هاتف ولم تكن الهواتف المحمولة قد عرفت بعد فكان هناك شبه اتفاق بينه وبين الوالد أنه لا حرج أن يحضر متى شاء، فإذا لم يكن الموعد مناسبا فبكل بساطة "فإذا قيل لكم ارجعوا فارجعوا" حتى أنني أمازح الوالد الآن وأقول له أنني من كثرة المرات التي رجع فيها ذلك الضيف العزيز أحسب أنه لم يدخل بيتنا يوما.
ليلة السابع والعشرين.......... يعود الأب من صلاة التهجد متهللا يقول: هل تعرفون؟ أشعر أن الليلة هي ليلة القدر، والمطر الخفيف يتساقط في الخارج وأرى السماء مضيئة بلا قمر، الأب والأم شديدي التأثر بروحانية الليلة، وتقترح الأم أن يخرج الجميع بجولة بالسيارة ليشاهد الجميع هذا المشهد، يسير الوالد بالسيارة ويقول بتأثر: هل ترون السماء المضيئة؟ هل تشعرون بالرحمة مع حبات المطر؟ يعود الجميع إلى المنزل بشعور رائع من النشوة، رغم إن الأطفال لم يكونوا يستوعبون معنى ليلة القدر.
ذكريات الطفولة كثيرة، تهيج كما قلت بين الحين والآخر، وهذه بعض ذكرياتي مع رمضان أعرضها حبا وعرفانا لوالدي الحبيبين، وأدعو الله أن يجزيهما عنا خيرا.
واقرأ أيضاً:
كيف نستفيد من رمضان / معلومة تهمك في رمضان / على باب الله نعمة رمضان30/9/2006 / على باب الله: رمضان العهد والوفاء / رمضان دروس وعِبَر