من الشعارات الجوفاء، الشعار المضلل الذي يُصور العالم العربي وكأنه مقسوم إلى فسطاطي "اعتدال" و"ممانعة"، وهو تصوير فيه الكثير من المبالغة. وإن كانت الدول العربية المنضوية تحت لواء "الاعتدال" هي الدول التي تتساوق مع المشروع الصهيوأمريكي، فإنه يتوجب إعادة تعريف "الممانعة"، ووضع معايير حقيقية لعضوية ناديها. إن أي دولـة تُدار من قِبل نظام ديكتاتوري قمعي لا يمكن أن تكون "ممانعـة"؛ فالديكتاتوريـة والطغيان هما أخطر داء يمكن أن يُصيب جهاز المناعـة لأي شـعب أو أمـة. فوجود مثل هذه الأنظمـة هو الذي يوفر البيئـة الخصبـة لاسـتغوال أمريكا والكيان الصهيوني، فهدف الديكتاتور الأسـمى هو الحفاظ على كرسـيـه، وهو مسـتعد لقبول كل شيء من أجل بقاءه في الحكم.
النظام "الممانع" هو النظام هو الذي يصون حقوق مواطنيـه؛ لا يعتقلهم ولا يُعذبهم، ولا يُحاربهم في أرزاقهم دون جريرة ارتكبوها إلا لتبنيهم آراء لا تروق للطغاة! الطغاة عبيد لكراسـيهم، والعبيد لا يُحررون أوطاناً ولا يعزون أمـة! من يسـوم شـعبـه صنوف العذاب لن ينتصر لحرمات شـعب فلسـطين التي تُنتهك، فهذه الأمور لا تدخل في نطاق أولوياتـه، وكل ما يعني هؤلاء الأقزام هو العمل على عدم انتقال عدوى التمرد على واقع الذل إلى شـعوبهم. مشهد يعكس بشاعة النفاق العالمي وازدواجية المعايير.
ولقد بيَّن أن أكثر ما يُرعب الكيان الصهيوني والمهووسون بـ "ديموقراطيته"، هو أن يُترك الخيار للعرب في اختيار من يرونه مناسباً لإدارة شؤون الحكم لديهم. وأنه كان لأمر بالغ الدلالة ما كشف عنه تلفزيون الكيان باللغة العبرية بتاريخ 10/10/2005 حول تفاصيل اجتماع عقده رئيس وزراء الكيان الأسبق (آرئيل شارون) وعدد مقلص من وزرائه مع كبار قادة الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية حول تصور العلاقات المستقبلية مع العالم العربي. فقد كان من اللافت أن هناك إجماعاً بين (شـارون) وقادة أجهزتـه الأمنيـة على أنـه من مصلحـة الكيان الإبقاء على أنظمـة الحكم الشـموليـة في العالم العربي.
ليس هذا فحسب، بل أن المجتمعين توصلوا إلى استنتاج مفاده أن التحول الديموقراطي في العالم العربي، وبالذات في الدول التي تُحيط بالكيان الاحتلالي، سيُفاقم المخاطر الاستراتيجية على وجود الدولة العبرية نفسها. المجتمعون الذين استمعوا إلى تصورات قدمها عدد كبير من المستشرقين الصهاينة وعدد من كبار قادة أفرع المخابرات الذين تعاطوا مع الشؤون العربية خلصوا إلى نتيجة مفادها: أن التحول الديمقراطي في العالم العربي سـيُفضي بالضرورة إلى وصول نُخب سـيكون من المسـتحيل على الدولـة العبريـة التوصل معها لتسـويات سـياسـيـة وفق بوصلـة المصالح الإسـرائيليـة. ولم يكن هناك ثمـة خلاف على أن وصول الإسـلاميين إلى الحكم يعني فيما يعني أن الصراع بين العرب والكيان الصهيوني لن يُحل إلا عن طريق الحسـم العسـكري، الأمر الذي يعني أن على الدولـة العبريـة ألا تُعيد سـيفها إلى غمده أبداً...، كما يقول المؤرخ الصهيوني (بنتسيون نتنياهو) والد رئيس الوزراء الصهيوني (بنيامين نتنياهو).
الديموقراطية تعني التشبث بالحقوق
وينضم ما توصل إليه صُناع القرار في الدولة العبرية من سياسيين وعسكريين من استنتاجات قاطعة، إلى فيض من الأحكام التي توصل إليها عدد من كبار الباحثين الصهاينة حول خطورة تحول العالم العربي نحو الدمقرطة. (البرفسور يحزكيل درور) الذي يوصف بأنه "أبو الفكر الاستراتيجي والسياسي" يقول في صحيفة الصفوة "هارتس" بتاريخ 04/03/2005: "أنا مع الديموقراطيـة، ولكن هيا نتخيل ديمقراطية في مصر أو في الأردن! فهل هذا سـيُعزز سـلامهما مع (إسـرائيل)؟ بالطبع لا. النُخب الحاكمـة تفهم الحاجة للسـلام، ولكن الجمهور في الشـارع، الجماهير في الأسـواق، بالتأكيد لا. اسـتطلاعات الرأي العام في مصر تُظهر بوضوح أن الجمهور لا يؤيد السـلام مع (إسـرائيل)".
ويُضيف (درور) أنه على مدى تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي فقد كان للجماهير العربية دوماً توجهات "لا سامية" أكثر من الحُكام العرب الذين كانوا في حاجة لليهود. ويخلص (درور) إلى القول أن التحول الديمقراطي في العالم العربي يعني اندفاع العرب نحو التشـبث بحقوقهم.
التعلق بـ (إسرائيل)
ويصل (بن كاسبيت) المعلق الصهيوني البارز في صحيفة "معاريف" نفس الاستنتاج حيث يقول: "أن (إسرائيل) لا يُمكنها أن تعيش في ظل تحول العالم العربي نحو الديمقراطية، حيث أن الرأي العام العربي معادي للسلام معها، في حين تعي الديكتاتوريات العربية أهمية علاقاتها بـ (إسرائيل)".
وفي "مزايا" الأنظمة الديكتاتورية التي يُشدد عليها كبار الباحثين الصهاينة هو حقيقة ارتكاز هذه الأنظمة على موقف الإدارة الأمريكية كمصدر لشرعية بقائها، في حين أن الأنظمة الديمقراطية تستند إلى شرعية نتائج الانتخابات النزيهة التي يُمليها الشعب، كما يرى المستشرق (جاي باخور) الباحث البارز في مركز "هرتسليا متعدد الاتجاهات" في صحيفة "يديعوت أحرنوت" بتاريخ 18/01/2004. ويُنوه (باخور) إلى: أن حقيقـة حرص الأنظمـة العربيـة الشـموليـة على موائمـة سـياسـتها مع السـياسـة الأمريكيـة طمعاً في البقاء، جعلها ترى في مغازلـة (إسـرائيل) والتودد لها بمثابـة "جواز السـفر" لقلب صُناع القرار في واشـنطن! ويجزم (باخور) أن مبادرة أنظمـة الحكم العربيـة للتطبيع مع (إسـرائيل) تأتي فقط لعدم استناد هذه الأنظمـة إلى شـرعيـة الانتخابات، حيث أن كل ما يهم هذه الأنظمـة هو بقاؤها، وليـس مصالح شـعوبها...
ومن المفارقة أن (باخور) يصل لاستنتاج مثير حيث يوصي صُناع القرار في الدولة العبرية بتجاهل مبادرات التطبيع التي تُبديها الأنظمة العربية!!!
يُساعدون (الموساد)
ويُشير الجنرال المتقاعد (داني روتشيلد)، الذي شغل في السابق منصب رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية "أمان" إلى حقيقة استفادة (إسرائيل) دوماً من حقيقـة حصر الأنظمـة الشـموليـة في العالم العربي اهتمامها فقط بالحفاظ على اسـتقرارها، وعدم ارتباطها بمصالح شـعوبها الوطنيـة والقوميـة. وأضاف في حديث مع الإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية بتاريخ 23/07/2005: "الحكومات التي يتم فرزها ديموقراطياً تكون ملتزمـة بالعمل على تحقيق المصالح الاسـتراتيجيـة لدولها، لذا فأن هناك مصلحـة إسـرائيليـة واضحـة وجليـة في بقاء أنظمـة الحكم العربيـة الحاليـة". ويضرب (روتشـيلد) مثالاً على ذلك بالتطورات الدراماتيكيـة على سـياسـة معمر القذافي، وانقلابـه على شـعاراتـه القديمـة بعد أن تملكـه الفزع من مصيرٍ كمصير صدام حسـين، ومسـارعتـه للإعلان عن التخلص من الأسـلحـة الكيماويـة، وخروجـه عن طوره من أجل اسـترضاء أمريكا!!!
من ناحيته يرى الكاتب والمعلق السياسي الشهير (آلوف بن): "أنه ليس من مصلحة (إسرائيل) تحول العالم نحو الديمقراطية وذلك لأن (إسرائيل) في هذه الحالة ستفقد خصوصيتها كـ "واحة" للديمقراطية في منطقة تحكمها الديكتاتوريات، وبذلك تفقد تل أبيب الحق في الزعم بأنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تربطها قواسم مشتركة مع حضارة الغرب."
ويعتبر الإسرائيليون أن الديكتاتوريات في العالم العربي أفرزت مع مرور الوقت قادة ضعاف، وبوجود هؤلاء القادة تصبح (إسرائيل) هي التي تمنح السلام لهم، لا أن تصنعه معهم، كما يقول (بنيامين نتنياهو) ـ صحيفة "هارتس" 18/04/2005 ـ. ويؤكد (عكيفا إلدار) أن (إسرائيل) وجدت فرصتها الذهبية في ممارسة الضغوط على القادة العرب الضعاف، حيث أن هؤلاء أبدوا دوماً قدراً كبيراً للاستجابة للضغوط التي مارستها عليهم تل أبيب. ولا يُساور (إلدار) شك في أن (إسرائيل) ستفقد هذه القدرة في حال تم استبدال الأنظمة الشمولية في العالم العربية بأنظمة ديمقراطية.
وقد وصل الأمر إلى درجة أن كبار قادة أجهزة المخابرات الإسرائيلية يرون أن هناك علاقة وثيقة بين هيمنة الأنظمة الديكتاتورية في العالم العربي وبين استعداد المواطنين العرب على السقوط في حبائل المخابرات الإسرائيلية وقبول عدد كبير منهم للعمل لصالح هذه المخابرات! ويقول (رافي إيتان) الذي شغل منصب قائد وحدة تجنيد العملاء في جهاز (الموساد) المعروفة بـ "قيساريا" في حديث مع التلفزيون الإسرائيلي بتاريخ (15/02/2006): "أن وجود أنظمة حكم شمولية في العالم العربي سهل على (الموساد) تجنيد العملاء من العرب". ويُفسر إيتان ذلك بالقول: "أن وجود أنظمـة حكم قمعيـة تقتل الشـعور بالإنتماء لدى المواطن العربي، وهذا يوفر البيئـة المناسـبـة لتجنيد العملاء من أوسـاط العرب."
أنه إزاء هذا الموقف الصهيوني الواضح والجلي من قضية دمقرطة العالم العربي فأنه يبدو حجم مساهمة الديكتاتوريات العربية في تحقيق مصالح الدولة العبرية بشكل مباشر وغير مباشر، وأنه يتوجب التخلص من هذه الأنظمة والانتقال للأنظمة الديمقراطية ولو من أجل تحسين ظروف العالم العربي في المواجهة مع (إسرائيل).
نقلاً عن موقع صالح النعامي
واقرأ أيضاً:
هذه هي إسرائيل الطيبة يا مستر بوش...