يسعى المروجون لأوهام القوة الأمريكية من نخبنا المستلبة من أقام منها ومن هاجر سواء انتسب إلى أصحاب الغفلة والسذاجة فأحسن الظن بأمريكا إو إلى من ساءت نواياه مثل مستخدميه من الأمريكان يسعون إلى تقديم أحداث المعركة الأخيرة في العراق وكأنها وقائع خواتم تحددت دلالاتها نهائيا وليست كما هي فعلا وقائع فواتح لن تتعين دلالاتها إلا بمقبل الأحداث. وستبين الأيام أن كل البراقع التي تخفي الطابع الوهمي للقوة الأمريكية التي يتذرعون لن تصمد أمام أحداث الثورة العربية الإسلامية التي توفرت شروطها في الأرض العربية بدءا بالعراق وختما بكل عواصم الإسلام في أرض العروبة بعد أن تتحد ذروتا النهضة العربية والصحوة الإسلامية.
فالأحداث التاريخية الحاضرة لا تعد خواتم إلا إذا قرأت قراءة يسعى صاحبها إلى قتل الأمل بتوطيد اليأس من خلال تأويل الأفعال الجارية تأويلا يجعلها نهاية منتسبة إلى الماضي (سر حرب العدو النفسية) لكنها تعد فواتح إذا قرأت قراءة يسعى صاحبها إلى بعث الأمل بقتل اليأس من خلال تأويلها تأويلا يجعلها بداية منتسبة إلى المستقبل (سر الصمود الذي نريده)، وقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن أغلب نخبنا الذين انتدبتهم وكالة الاستعلامات الأمريكية للتبشير برسالة أمريكا التحضيرية يسعون إلى تدعيم حرب أمريكا النفسية محاولين إقناع الرأي العام العربي بأن القوة الأمريكية قوة لا تقهر بدليل سقوط بغداد في لمح البصر وأن على المرء أن يحوقل قبل الاستسلام بل وأن يحمدل لبدء الاندماج في المخطط الأمريكي لتحقيق التحضير،
لم أسمع في حياتي بنخبة أو معارضة صادقة يصدق المنتسبون إليها أن الاستعمار يمكن أن يكون قوة تحرير فضلا عن التحضير إلا بين علمانيي العرب الذين نجد في بعض المغاربيين منهم أبشع الصور لما عرفوا به من الجمع بين بواقي الاستعمار القديم ممثلة في مزاعم التنوير الفرنسي المعتمد على التبشير الكاثوليكي والشيوعي وإرهاصات الاستعمار الحديث ممثلة في أوهام الديموقراطية الأمريكية المعتمدة على المعمدانية والليبرالية.
وقد انضم إلى هذا الجوق كل الذين سيطر عليهم حال الانهزام أمام الحرب النفسية التي صاحبت المغالطات الإعلامية للمعركة الحالية فصوروا أمريكا على أنها قد انتصرت فيها انتصارا ساحقا. وليس من العجيب أن يكون المعلقون العرب في التلفزات العربية أكثر جزما في حديثهم عن النصر الأمريكي من الأمريكيين أنفسهم، إذ إنهم في الحقيقة يعبرون عن نفس الموقف الذي كان يدعو إلى الحسم الحربي السريع وبات يعبر عن قلب الصفحة الأسرع تخوفا من طول المعركة وما قد يؤدي إليه من نتائج على الأنظمة التي تمول هذه التلفزات.
*غاب التحليل المنطقي الرصين فتلاه انعدام الفهم الهادئ المكين:
لا أفهم كيف يعد انتصارا ما حققه جيش أكبر قوة في العالم حاليا بمعونة أكبر قوة فيه سابقا بعد عنت دام عشرين يوم لم يتمكنا فيها من التغلب على مناوشات مليشيا حزب البعث العربي, خاصة إذا صدق الزعم بأن الجيش النظامي قد انفرط عقده منذ اليوم الأول وأن الحرس الجمهوري قد خانت قياداته العسكرية قياداته السياسية قبل بداية المعركة؟ لذلك فلا عجب إذا كانت المحللون الأمريكان أقل تصديقا بهذا النصر من الانهزاميين العرب بصنفيهم أعني الحكام الراغبين في الحسم السريع للبقاء في الحكم بالدبابة الأمريكية والنخب العميلة التي تريد أخذ الحكم بالدبابة الأمريكية قبل أن تتحرك الشعوب التي يخشاها كلا الرهطين، لم يعد أحد من الحكام ولا من المعارضين يستحي من ركوب الدبابة الأمريكية كلاهما صار في الهواء سواء ويكفي دليلا على إدراك أمريكا لهزيمتها أن القيادات العسكرية في عرضها اليومي لمجرى المعارك لا يتكلمون إلا على انتصارات وهمية وسخيفة لأنها لم تكن موضوعا لمعارك فتعتبر انتصارات.
فلا آبار النفط ولا الجسور بالأمر الذي استهدفه الجيش العراقي حتى يقال إن القوات الأمريكية قد انتصرت بحمايتهما: لم تكن قيادات العراق غبية بحيث تخطط للانتصار في حرب طويلة تعلم أنها ستبدأ بعد نهاية المعركة بحلول الصيف وبداية الانتخابات الأمريكية ثم تهدم شرطي صمود الشعب العراقي أعني الثروة البترولية والقاعدة الأساسية، ويعلم ألجميع حتى أغبى الضباط المتقاعدين الذين تملتئ بهم تلفزاتها أن تحقيق هذين الأمرين من أيسر الأمور على أضعف الناس في زمن الحرب فضلا عنه قبلها لو كان ذلك مقصودا.
ثم إن ما حصل في الشمال بالنسبة إلى البترول وفي بغداد بالنسبة إلى الجسور يكذب ما يدعيه الأمريكان: فهم لم يصلوا إلى آبار النفط الشمالية والجسور البغدادية إلا في نهاية الأسبوع الثالث فلم لم يهدمهما جيش العراق لو كان ذلك في نية قياداته؟ أو مثل السيطرة على الجو لكأن الناس نسوا أن ذلك كان حاصلا منذ بداية الحصار ومنع الطيران في الجنوب والشمال إلى غير ذلك من الانتصارات التعويضية كمهزلة الحديث عن إيصال الماء والنور والغذاء لمدينة أم قصر التي لا تبعد عن الكويت إلا بعض الأميال بديلا من عدم القدرة على تحقيق الأمرين الوحيدين اللذين يمكن أن يعتبرا نصرا أمريكيا لكون بقائهما يمثل شرط استئناف المقاومة في اللحظة التي يختارها العراقيون: التمكن من الجيش إبادة أو أسرا والتمكن من القيادة الحكومية والسياسية وكوادر حزب البعث قتلا أو أسرا.
وحتى يتيقن الرأي العام العربي بضرورة الصمود أمام الحرب النفسية وعدم الانخداع بأوهام الانتصارات التلفزية سنفحص واقعتين أساسيتين: يزعم أصحاب القراءة التيئسية أنهما حدثان نهائيان يعبران عن النصر الأمريكي, ليتأكد من أن عين الحقيقية الموجودة على أرض المعركة تقول بأن الجيش الأمريكي قد فرض عليه الانتشار في أرض العراق انتشارا جعله في العراء دون أن يتمكن من القوات العراقية التي حققت بأقل التكاليف الانسحاب التكتيكي الناجح بدليل قلة الأسرى والقتلى بل وحتى قلة العتاد المهدم. ويكفي العراقيين أنهم حالوا دون أمريكا وحربها عليهم بشروطها حتى يكونوا قد حققوا أول انتصار إذ هم يكونون قد جعلوها مضطرة لمحاربتهم بشروطهم.
وبذلك فالعراق قد فرض على أمريكا منطق رد الفعل بدلا من منطق الفعل الذي أصبح بيد العراقيين سلما وحربا بعد حصول ما تتصوره أمريكا انتصارا خاصة والمعارضات التي تعتمد عليها كان أول من أفقدها المصداقية معاملة الأمريكان لهم خلال الحرب وبعدها: وستجري المعركة المقبلة على الواجهتين المدنية والعسكرية أولاهما هدفها تعجيز أمريكا على إدارة العراق المدنية وتلك هي مادة المواجهة السلمية بتقنيات العصيان المدني والتظاهر وفيها سيكون الإعلام العالمي كله مع العراقيين والثانية هدفها تعجيز أمريكا عن السيطرة العسكرية وتلك هي مادة المواجهة الحربية بتقنيات حرب العصابات والفداء وفيها سيكون الرأي العام الأمريكي وخاصة خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة أكبر حليف للثورة العربية الحقيقية التي بدأت الآن في العراق.
*الواقعة الأولى المزعومة:
إن أولى الوقائع التي يتذرع بها المنهزمون هي احتلال القوات الأمريكية للتراب العراقي، ويتناسى هؤلاء المنهزمون أن الوجود المادي للقوة العسكرية الأمريكية على الأرض العربية ليس بدعا، فهذه حال كل البلاد العربية من المحيط إلى الخليج. لذلك فإن الأمر المفيد في هذا الاحتلال هو وجه الجدة فيه وليس الاحتلال نفسه، ولهذه الجدة وجهان:
الوجه الأول: هو أن احتلال الأرض العربية لم يعد أمرا مجانيا فضلا عن أن يكون بأجر يدفعه أصحاب الأرض المحتلة. لا بد للمحتل أن يدفع من دمه وبالذات من الدم الأمريكي في العراق (والدم الإسرائيلي في فلسطين) وكلاهما صار في عالمنا الحالي- عالم القيادات السياسية والفكرية الجبانة غربية كانت أم شرقية- أغلى بضاعة لذلك فهو الكلفة الوحيدة المؤثرة على مافية الحكم في دولتي العصابات الدولية: أمريكا وإسرائيل.
وإذن فالمعركة الأخيرة قد نقلت العرب من احتلال تدفع نظمهم أجره لحمايتها منهم إلى احتلال تدفع فيه مافية أمريكا وإسرائيل ما لا قبل لها بتحمله بالقدر الذي سنجبرها عليه فضلا عن كون الثأر صار عربيا(آلاف المتطوعين من كل أقطار الوطن) ولم يبق منحصرا في العراق وفلسطين وفضلا عن كون الثروة التي تريد أمريكا نهبها لها خاصية الحماية الذاتية: فهي سريعة الالتهاب في منابعها وفي أنابيب نقلها مما يعني أن أمريكا لن تستطيع حمايتها حتى لو جيشت ملايين العسكر فتصبح كلفه الحماية أكبر من ثمرة الاستغلال.
أما الوجه الثاني وهو الأهم فيتمثل في كون القوة الأمريكية قد فقدت القسط الأكبر من فاعلية الردع. فالمعلوم أن الردع يعتمد على لا تناهي الممكن غير الحاصل قبل الاستعمال وليس على تناهي الممكن الحاصل بعده. وإذن فبمجرد حصول المجابهة ينتقل الردع من القوة اللا متناهية التي يقع بها التخويف إلى القوة المتناهية التي وقع بها العدوان فيصبح الردع أمرا محددا ومن ثم قابلا للعلاج الناجع إذ إن حصوله يعين عيوبه ونقائصه فيمكن من التغلب عليه مهما كانت قوته، وفي هذه الحالة فلا أحد يمكن أن يخشى قوة أمريكا إذا قرر أن يكون كريما ما دامت مليشيا حزب يكاد يكون ميتا بمفعول الحكم الطويل تمكنت من الصمود عشرين يوما استعملت فيها أمريكا ما لم تستعمل مثله في الحرب العالمية الثانية.
*الواقعة الثانية المزعومة:
أما الواقعة الثانية المزعومة فهي سقوط بغداد السريع والمفاجئ. فالبعض يزعم أنها هزيمة للجيش العراقي والبعض يزعم أنها خيانة من القيادة العراقية العسكرية أو السياسية والعسكرية معا. وتناسى الجميع أمرين مهمين:
1- فما الذي جعل أمريكا تضطر إلى قتل الصحفيين جهارا نهارا ومحاولة منعهم من الاطلاع على نتائج معركة المطار التي تقدمت دخول بغداد وما تلاها مما يزعم هزيمة أو خيانة؟
2- وكيف تم التراجع المنظم لحاميات بغداد وقيادات العراق فلم تتمكن أمريكا من تحقيق أهدافهما واضطرت إلى ما كانت تتصور نفسها غنية عنه بفضل السيطرة على الجو والقوة المدرعة؟
كل من ينكر على العرب والمسلمين القدرة على المبادرة العسكرية وقيادة المعارك بكفاءة لا يمكن أن يفهم كيف يمكنهم أن يجبروا العدو على خوضها بحسب منطقهم وشروطهم بدلا من الاقتصار على رد الفعل وخوضها بحسب منطقه وشروطه رغم أن ذلك قد تكرر الآن مرتين: الأولى عندما حلت الحركة الطالبانية نفسها لتحول دون المجابهة فتنقل المعركة من إيقاع المناجزة (=الحرب الخاطفة) التي يريدها العدو إلى إيقاع المطاولة (حرب الاستنزاف) التي يريدونها بحيث إن الحرب الفعلية بدأت عندما تصورت أمريكا أنها قد انتصرت والثانية هي ما نفترض أن الدولة العراقية قد فعلته سواء كان ذلك باجماع القيادة كلها أو بسلوك من يتصورهم البعض قد خانوا لعدم إدراك خيارهم الحل الأمثل في تجنب الصدام للحفاظ على مقومات المقاومة التي ستبدأ بعد المعركة وخاصة في معركة حكم العراق تحت المضلة الأمريكية إلى الحد الذي تنهزم فيه أمريكا وتفر بجلدتها كما حصل لها في فيتنام، فتوقيت الحرب (الصيف وعند بداية حملة الترشح للرئاسة في أمريكا) وضرباها (المدنية والعسكرية) سيكونان باختيار العراقيين.
فخطة الأمريكان اعتمدت على رفض معارك المدن بالتحرف عنها لاستبدالها بتكتيك الحصار الهادف إلى جبر القوة المدافعة على الوقوع في عجزين:
1. عجز مدني في تسيير المدن العراقية بتخريب مرافقها وخدماتها كقطع الماء والكهرباء والدواء حتى يثور الشعب على القيادة.
2. وعجز عسكري في حماية أرض العراق من خلال الحيلولة دون المقاومة والتموين التعبوي طاقة وذخيرة وغذاء وشربا. ولا يمكن لقلب مثل هذه الخطة على العدو أن يرتجله العراقيون. لذلك فالنجاح في القلب قد كان بحسب خطة سابقة الروية،ذلك أن الغاية من قلب خطة العدو هي إجباره على تحمل هاتين المهمتين بدلا من تحميلهما للعراقيين ليقع هو في المعاجزتين اللتين سعى إليهما:
1- فقد بات على أمريكا أن تتكفل بالإدارة المدنية أو أن تقبل بإدارة مدنية تحميها هي فتقل أهوال الحرب على الشعب العراقي وتتحمل أمريكا تبعات كل تقصير (ولا يمكن أن تخلق هذه الإدارة من عدم وإذن فهي ستضطر إلى استعمال الموجود).
2- وعليها أن تسعى إلى السيطرة العسكرية على كل شبر من أرض العراق ولا يكون ذلك إلا بالانتشار في المدن والقرى وكل الطرقات والثغور وهو ما يعرضها لمشاكل التموين بأبعاده الطاقية والذخيرية والإعالية.
والمعلوم أن كلا الأمرين مستحيل من دون جيش جرار يكون عدده أضعاف الجيش الأمريكي الحالي في المنطقة وبدون خيانات تكاد تكون مستحيلة لتعارض أهدافها مع أهداف أقطاب المعادلة العراقية الثلاثة: فالشيعي لن يساعد أمريكا على الأقل من أجل التنفيس على إيران إن لم يكن حبا في العراق والكردي لن يساعد أمريكا لكون الثمن المطلوب لا تستطيع أمريكا توفيره من دون محاربة تركيا والمعارضة الخارجية لا يمكن أن تفعل شيئا ما تقبل أن تصبح مجرد غطاء للحكم الأمريكي بنفس الإدارة التي حكم بها حزب البعث ثلاثين سنة خلت،
وبذلك فأمريكا ستضطر إلى خوض حربين كلتاهما خاسرة بحكم ما تنوي استعماله من أدوات: فالسيطرة المدنية تقتضي تفعيل المجتمع المدني الذي سيكون بالضرورة عليها لا لها إذ هو سيكون ضد السلطة الإدارية الأمريكية مباشرة أو بصورة غير مباشرة والسيطرة العسكرية ستولد حرب المدن والقرى والأرياف بمنطق حرب العصابات التي لا يمكن لجيش أمريكا النظامي أن ينجح فيها والمقاومة تشتد أكثر لو استعملت أمريكا الأكراد ضد العرب. لذلك فإنه لا يمكن لأمريكا أن تربح أيا من الحربين: فالمقاومة سيقودها المسجد وأجهزة الدولة التي دخلت دهاليز العمل السري فأصبح لها وجود الأشباح الفاعلة من وراء حجاب ومن ثم فهي تستطيع تنظيم المقاومة دون انفعال بردود العدو لعدم تعينهما المادي القابل للسحق.
*حصر أوهام القوة الأمريكية.
ولنأت الآن إلى أوهام القوة الأمريكية لنحدد أنواعها ونبين طابعها الوهمي بمجرد أن انتقلت من قوة الإمكان الرادع الذي يكاد يكون لا متناهيا (وتلك علة جبن السوفيات والصين وأوروبا أمامها) إلى قوة الحصول التي أبرزت حدودها ومن ثم قابليتها للهزيمة بعون الله ومشيئته. فهذه القوة التي صدع بها المنهزمون آذاننا سعيا منهم لتبليد عقولنا وتوهين عزائمنا تنقسم إلى خمسة أنواع اثنان منها يغلب عليهما بعد توجيه الفعل إلى الخارج واثنان يغلب عليها بعد توجيه الفعل إلى الداخل والأخير يتعادل فيه الوجهان:
1- القوة الدبلوماسية والاستراتيجية.
2- القوة الإعلامية والدعائية.
3- قوة الاستعلام والحرب النفسية.
4- القوة التقنية والعسكرية
5- القوة الاقتصادية والسياسية.
وجميع هذه القوى هزمت فيها أمريكا خلال المعركة الحالية رغم ما يبدو انتصارا عند المنهزمين منا حكاما ومعارضين لعدم تمييزهم بين الأماني والحقائق. فلا أحد يجهل أن الحرب قد بدأت بعد أن فشلت أمريكا في تحقيق نصر في النوعين الأولين من القوى. بدأت بفشل دبلوماسي واستراتيجي إذا قسنا الحدث بما تقدم عليه لأن أمريكا لم تتمكن من جعل الأمم المتحدة أداة تحقيق أهداف سياستها مثلما عودت العالم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. والأهم أن هذا الفشل قد أعلن بداية عهد الاستعمار المباشر الجديد إذا قسنا الحدث بما سيتلوه.
فالقوى الأخرى ستضطر بعد اليأس من الحل الدبلوماسي لتقاسم العالم مع أمريكا بالحسنى ستضطر للشروع في تقاسمه معها بالقوة خاصة وقد ذهب الغباء بقادة أمريكا إلى التلويح بمعاقبة البلاد التي لم تسمح لها بمواصلة توظيف الأمم المتحدة: وبالحصر معاقبة فرنسا. وهذه الهزيمة وطأت لها هزيمة إعلامية ودعائية علامتها المظاهرات التي عمت العالم ضد الحرب مما يعني أن أمريكا فشلت إعلاميا ودعائيا حتى في أمريكا وإنجلترا نفسيهما فضلا عن بلاد العالم.
ثم إن الحرب جرت بالشكل الذي جرت عليه بسبب فشل أمريكا في النوعين الأخيرين من القوى. فشل تقني عسكري إذ قد تبين أن التعويل على التقدم التقني وحده ليس كافيا مهما كان الفارق النوعي شاسعا. فالحرب الاستعمارية (التي تريد أخذ الخيرات وليس فقط تأديب المستهدف بها) لا يمكن أن تنجح من دون حلفاء على عين المكان مهما كان التقدم التقني وقوة الآلة العسكرية. والدليل السلبي على ذلك نجده في ما حدث بفضل الرفض التركي الذي حال دون فتح الجبهة الشمالية بالشكل الذي تريده أمريكا. أما الدليل الإيجابي فهو ما حدث بسبب خنوع جل الأنظمة العربية التي جعلت أرضها (ولا فائدة من الحديث عن عرضها المفقود) مسرحا للوطء الأمريكي فمكنت القوة الأمريكية من الحضور الفعلي الذي لا يمكن للتقدم التقني والعسكري أن يغني عنه.
أما الهزيمة الاقتصادية والسياسية فهي الدليل الصريح والعلني بأن أمريكا لا يمكن أن تبقى قوة اقتصادية من دون مخزون العالم الطاقي العربي الذي تريده أداة لابتزاز الغرب والشرق ومن ثم من دون الاحتلال العسكري المباشر للأرض العربية إدراكا لتهاوي التسيير عن بعد لقيادات الإسلام التقليدي والعروبة القومية المؤذن بصعود إسلام الصحوة والعروبة الملية وقدرتهما على التحرير الفعلي للثروة المادية والروحية للعرب قلب الأمة الإسلامية.
ولما كانت حاجة أمريكا للعرب حيوية لهيمنتها على العالم كله إلى حد محاولة أخذ أرضهم بالقوة ولو بالعودة إلى عهد الاستعمار المباشر فإن الفشل الحتمي لهذه السياسة بات من مصلحة جميع الأمم وليس من مصلحة العرب وحدهم: وقد تجنح أمريكا للحلول الوسطى مع العرب إذا كانت لهم قيادات مدركة لهذه المعطيات فلا يعتبرون الحرب هدفا بذاته بل هو أداة من أدوات تحقيق الهدف العربي الأساسي: تحقيق الوحدة العربية لقيادة العالم الإسلامي قطبا مسهما في تحديد آفاق الإنسانية المقبلة لتحريرها من الهيمنة الأمريكية ماديا والإسرائيلية روحيا.
أما الهزيمة الخامسة فتتمثل في خطأ كل الحسابات الأمريكية التي اعتمدت على استعلامات وحرب نفسية كلها مبنية على أوهام خدعت أبواق الشرسطية فخدعوها بها وهم يحاولون مخادعنا بما انطلى عليهم من الخدع. فهذه الهزيمة كانت علامتها الأولى حادثة الحادي عشر من نوفمبر التي بينت أن الجهاز الاستعلامي الأمريكي لا يقل بلادة عن أجهزة البلاد المتخلفة ما دامت كفاءته لم تتمكن من توقع المتوقع لغياب الخيال المبدع.
ثم اكتملت هذه الهزيمة في حسابات الحرب العراقية التي تبين أنها جميعا خاطئة. فقد فشلوا في إقناع تركيا بتمكينهم مما لو فعلت لساعدتهم على تكوين الدولة الكردية ظنا منهم أن قيادات تركيا يجهلون مصالح بلادهم وفشلوا في تحقيق الترحيب الشيعي رغم كل الوعود بتكوين الدولة الشيعية جهلا منه بأن شيعة العراق لن يكونوا أداة سهلة ليس فقط بسبب عراقيتهم بل لأن مصلحة إيران تقتضي أن تغرق أمريكا في المستنقع العراقي حتى تتمكن من إتمام المناعة الرادعة. وفشلوا في توظيف ما يمكن أن يكون قد حصل من خيانات بين القيادات العسكرية والسياسية (ولعلها مجرد انقلاب داخلي استفاد من الحرب) ما داموا لم يقضوا ماديا على الجيش العراقي وحزب البعث وكلاهما لا يمكن أن يذوب السكر باليسر الذي يتوهمه استراتيجيو أمريكا.
وفشلوا في بناء القوة السياسية البديل لكون الزعماء الذي يعتمدون عليهم لا يزنون جناح بعوضة فضلا عن كون القوى السياسية التي يمكن أن تقدم البديل هي الشيعة والأكراد وكلاهما له برنامج لا يماشي الخطة الأمريكية كما أسلفنا. وفشلوا خاصة وأخيرا في تحقيق شروط النجاح لما يزعمون أنه غاية الحرب الأساسية أعني النموذج الديموقراطي الذي سيبنون الشرق العربي على منواله خاصة وقد بلغ الغباء بمخططيهم إلى حد الزعم بأنهم سيطبقون سياسة التطهير الإيديولوجي البعثي قياسا على سياسة التطهير من النازية فضلا عن سخف القدح المتعمد لزناد الحرب العرقية بين العرب والأكراد في الشمال والحرب الطائفية بين السنة والشيعة في الوسط والحرب الحزبية بين فرق الشيعة في الجنوب وتوليد الخوف من ذلك كله في قلوب حلفائهم من الأنظمة العربية: وتلك هي الهزيمة المطلقة في كل الأبعاد الخمسة التي ذكرنا وخاصة في بعد الحرب النفسية على الأمة العربية.
*علل هذه الهزائم:
لماذا يتجاهل أحباب أمريكا ومادحوها من النخب السياسية التي تهيم الآن بالديموقراطية البرجوازية هيامها السابق بالديموقراطية الشعبية هذه الهزائم المتكررة ويواصلون الحديث عن قوة أمريكا التي لا تقهر؟ الجواب بين: يكفي أن نعلم أن هذه النخب هي نخب التنوير الفاشي على النمط الأوروبي سابقا ونخب التنوير الصهيوني على النمط الأمريكي حاليا وإذن فهي مهزومة حضاريا لا يمكن أن توجد إلا بوصفها نخبا عميلة أقصى ما تستطيع القيام به هو الجلوس في صدر المجالس للتصوير التلفزي والتعبير عن فرحها السخيف بديموقراطية الدبابة الأمريكية.
لماذا تتجاهل هذه النخب الترابط الوثيق بين فشل أمريكا في النوعين الأولين وفشلها في النوعين الأخيرين؟ إنهم يرفضون أن يحللوا علل فقدان أمريكا لكل مصداقية وعدا (لم يكف وعد بعض بلاد إفريقيا الفقيرة للتصويت معها) ووعيدا (تجرأت ألمانيا على قول لا رغم أن الجيش الأمريكي ما يزال محتلا أرضها) لأنهم لو فعلوا لأدركوا أن لجوء أمريكا للقوة ليس إلا من جنس انتفاضة المحتضر: المستقبل لأقطاب العالم الثلاثة المقبلة أعني العالم الإسلامي والشرق الأقصى وأوروبا الموحدة.
ولما كنا لا نعتقد أن فشل أمريكا في إقناع القيادات في العالم الأول والثاني والثالث القيادات التي رفضت متابعتها في خياراتها يمكن تفسيره بتحول خلقي جعل هذه القيادات تصبح من حماة العدل أو من مناهضي الظلم أو تكون من الحمق بحيث تتصور نظام العراق ليس فاسدا ولا دكتاتوريا فإن التفسير الوحيد لموقف هذه القيادات هو اقتناعها بأن أمريكا صارت عاجزة وعدا ووعيدا. فهي قد صارت عاجزة وعدا لأنها لم تعد قادرة على دفع الرشاوى بالقدر المغري فعلا لا قولا(مثال ذلك:روسيا باتت أكثر طمعا في المساعدة الأوروبية بعد التأكد من كذب الوعود الأمريكية). وهي عاجزة وعيدا.
لم تعد أمريكا تخيف أحدا مهما خوفت لسببين:
1- فما هو ممكن لأقوى الدول بات في متناول الأفراد فضلا عن المجموعات المنظمة القادرة على نقل الحرب إلى أي مكان في العالم .
2- والنوع الجديد من الحروب ليس هو النوع الذي يمكن لأمريكا أن تزعم في المعجزات.
لم يعد الردع عن بعد يغني عن الحضور المباشر في أرض المعركة. وهذا الحضور يرجع الحرب إلى شروطها الثابتة: لا بد فيها من إنسان مؤمن بقضية وكل هزيمة علتها عدم الإيمان لا عدم الإتقان الذي يمكن أن يحصل بمجرد أن يجعلك الإيمان جازما بالتعلم كما قال قيصر روسيا في حروبه مع بلاد اسكندنافيا. فبعد الترادع المتبادل في الحرب الباردة عاد العالم إلى حروب الاستعمار المباشر التي تستهدف احتلال الأرض لاستنزاف خيراتها. ويقتضي هذا الاحتلال الحفاظ عليها بأهلها عبيدا لخدمة المحتل: لذلك فأسلحة الدمار الشامل ليست كافية لربح مثل هذه الحروب.
فاستعمار الأرض من دون استعباد أهلها غير مجد إلا إذا انتقل الشعب المستعمر إلى الأرض المحتلة لاستخراج خيراتها بنفسه وهو مستحيل عندما يكون القصد خيرات المعمورة كلها مية لأن عدد الأمريكان مهما كبر لا يكفي لهذه المهمة فضلا عن كون الكلفة تصبح مما لا يستطاع: والمجابهة المباشرة على الأرض لن تؤتي ثمرتها إلا باستسلام أهلها وهو المفهوم الحقيقي لأصل العبودية التي لا يمكن أن يقبل بها من كان أول دخوله للتاريخ السيادة على التاريخ الكوني برسالة تسعى إلى تحقيق القيم الإسلامية السامية.
اعتمدنا في هذا التحليل على فرضية عمل ودلالة بعض المعطيات. وإذا كانت دلالة المعطيات غير قابلة للتهمة فإن الفرضية قد تكون عرضة للقدح. لكننا يمكن أن نزعم أن هذا الفرض ليس مجرد أمنية. فهو الفرض الوحيد المنطقي: فجيش عمره ثمانين سنة لم ينفرط عقده في حرب الثماني سنوات وظل صامدا خلال حرب الثلاثة عشر سنة وحزب بتجربة حزب البعث لا يمكن أن يذوبا من دون أدلة مادية على هذا الذوبان كما يزعم تفاؤل حفنة من الخونة من العرب أو كما تتوهم المافية الحاكمة في أمريكا في تصريحاتها العلنية.
لكن الكل يعلم أن هذه القيادات لا تصدق هذه التصريحات وتعتبرها للاستهلاك المحلي والعربي لكونها تعلم أن الحرب الفعلية ستبدأ بمجرد انقشاع غبار المعركة التي لم تحقق أي هدف من أهدافها بل أثبتت العكس تماما من مقاصدها : ما قدم على أنه حرب الحضارة على التوحش أثبت بدليلين لا داحض لهما أن العكس هو الذي حدث أعني نهب المتاحف وحرق المكتبات وما اعتبر حرب تحرير صار حرب القواعد الأربع الدائمة فضلا عن الفشل في مستوى القوى الخمس التي أشرنا إليها في التحليل. لذلك فإن أمريكا تنوي استثمار هذه المظاهر التي لا تنطلي إلى على ذوي العزائم الخائرة لتربح الحرب خارج العراق بالتأكيد على الأثر النفسي في قيادات الأنظمة العربية ذات الفرائص المرتعدة إلى حد صد المستجيرين بهم على الحدود. ولعل البعض سيذهب إلى نفي نسبه العربي ظنا منه أن التنازلات ستكفي لإيقاف السياسة الأمريكية والإسرائيلية.
وعسى أن يتمكن النظام العراقي المتستر الآن أن يحرر العراق من المفارقة التي أصابت الهلال الخصيب بأكبر أدوائه. فحرب التحرير العربية اعتمدت على التعاكس بين القيادة والشعب ربما بسبب تعدد الطوائف وخاصة في العراق وسورية حيث نجد العجب العجاب الدال على عدم الشرعية السياسية للأنظمة الحاكمة: فأغلبية الشعب العراقي شيعية والقيادة من السنة (لكنها سنية بالاسم وتدعي أنها علمانية وهي علمانية بالاسم لكونها فاشية) وأغلبية الشعب السوري سنية والقيادة من العلوية (لكنها علوية بالاسم وتدعي أنها علمانية وهي علمانية بالاسم لكونها فاشية).
0يقيني وطيد بأن العراق لن يتصومل ولن يتلبنن. فالانسحاب التكتيكي للجيش العراقي والتفرق المنظم لحزب البعث علتهما توقع القيادة العراقية العسكرية والسياسية لأهداف الخطة الأمريكية الدفينة والاستعداد لها رغم أن مفارقة العلاقة بين القيادة والشعب المفارقة التي أشرنا إليها قد تعرقل أساب الصمود: وأستطيع أن أقول مثل هذا الكلام في حق النظام العراقي دون أن أخشى تهمة الدفاع عنه لأني كنت من معارضيه عندما كان البعض يظنه قادرا على النفع والضر، فقد كانت لي الشجاعة على الدعوة لإزالة النظام بجيش عربي وكانت لي الشجاعة على الدعوة لتبني النظم العربية للمعارضة العراقية بدلا من اتهامها بالخيانة وجبرها على اللجوء لأعداء الأمة وأخيرا فقد كانت لي الشجاعة على معارضة النظام في عقر داره عندما أفسدت على الوفد التونسي المشاركة في امضاء التماس العفو على عدي من أبيه في قتل أحد حرسه سنة ست وثمانين برفض الإمضاء وتشجيع كل التونسيين على عدم تبني اللائحة التي تزعّـمها بعض العائشين على موائد الأحزاب الحاكمة في الوطن العربي.
"نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله" عمر بن الخطاب