الصرْعُ Epilepsy هو أحد الاضطرابات العصبية الفسيولوجية، ويمثل اختلالا عابرا في وظائف المخ يحدث فجأة ويتوقفُ تلقائيا، وقد يُسَبَّبُ بعدد من الاسْتفزازاتِ المختلفة، والصرْعُ هو أكثرُ الحالاتِ العصبية الخطيرة شيوعا وتبلغُ معدلات حدوثه ذُرْوَتها في الطفولة المبكرة والمُسْنين.
تعريف وتصنيف الصرْع:
ما هو الصرع؟ إذا أردنا أن نعرف ما هو الصرع فإن علينا أن نتصور أن المخ هو المقابل الحيوي للكمبيوتر -مع الفارق طبعا- وأن خلايا المخ مرتبطة: كل منها بالأخرى وتتصل ببعضها عن طريق شحنات كهربية بسيطة وفي بعض الأحيان يحدث نشاط غير طبيعي في الشحنات الكهربائية في خلايا المخ فينتج عن ذلك اضطراب الوعي أو اضطراب نفسي أو حركات عضلية ارتجافية، فإذا ما تكررت هذه الظواهر يقال إن هذا الشخص يعاني من مرض الصرع أو النوبة. ومن هنا يتضح أن النوبة أو الصرع هو حدث وقتي يحدث لفترات قصيرة ويكون فيها المخ تحت تأثير نشاط كهربائي غير طبيعي متكرر.
فإذا حدثت هذه الأنشطة الكهربائية في جزء محدود من المخ يحدث ما يسمى بالنوبة الصرعية الجزئية أو بالنوبة الصرعية البؤرية. فمثلا إذا حدث الاضطراب الكهربائي في الخلايا المخية المسئولة عن المراكز الحركية للجسم بالفص الجبهي Frontal Lobe من المخ ويترتب على ذلك حركات ارتجاجية في طرف أو جزء من طرف أو نصف الوجه أو في شق كامل من الجسم وعادة لا تكون مصحوبة باضطراب أو فقد الوعي وتسمي بالنوبات الصرعية البؤرية الحركية.
أما إذا اختلت الشحنات الكهربائية في خلايا المخ بالمراكز الحسية المسئولة عن الإحساسات بالجسم والممثلة في الفص المخي الجداري فيشعر بالخدر أو النمل أو الوخز أو الكهرباء أو برودة أو سخونة تنتشر في طرف أو جزء من طرف أو في الوجه أو الشق كله وقد يصاحب هذه الإحساسات شعور بتغير في حجم الطرف المصاب.
أما الاضطرابات الكهربائية في الفص الصدغي Temporal Lobe فتؤدي إلى نوبات اضطراب الوعي مع شحوب وجه المريض وشخوص العينين وفقد التعبير والانتباه مع هلاوس بصرية مرئية مخفية Frightening Visual Hallucinations تكون على شكل شيطان أو حيوان مخيف مفترس وقد يسمع المريض رنينا أو طنينا لا يستطيع تفسيره، كما يشعر المربض كأنه في حلم وقد يصاحب ذلك حركات تبدو كأنها ذات قصد حيث يقوم الشخص بأعمال معقدة تبدو كأنها ذات هدف ولكن في نفس الوقت يبدو على المريض عدم الوضوح الفكري، وفي بعض الأحيان يثور المريض ويقوم بأعمال اندفاعية ذات عنف ووحشية وتستمر هذه النوبات عدة دقائق يعود بعدها لوعيه ولكنه لا يتذكر شيئا مما حدث أثناء النوبة.
أما إذا شمل النشاط الكهربائي المخ كله فيحدث ما يسمي بالنوبة الصرعية المتعممة Generalized Epileptic Seizure أو الصرع الكبير Grand Mal Epilepsy حيث يفقد المريض وعيه ويعاني من حركات وتقلصات توترية تصيب عضلات الجسم كله والوجه ويصبح وجه المريض أزرق نتيجة تشنج عضلات التنفس وكذلك يتراكم اللعاب في الفم والبلعوم ويختلط بالهواء فيظهر من الفم بشكل زبد وقد يبرز اللسان بين الأسنان فيعضه المريض ويدميه كما تفرغ المثانة ونادرا يفرغ المستقيم نتيجة التشنج ويعقب هذا النوع من التشنجات صداع وقتي مع اختلاط التفكير ولا يذكر المريض شيئا مما حدث أثناء النوبة.
وإذا أصابت الاضطرابات الكهربائية خلايا مراكز الانتباه يحدث اضطراب الوعي وشحوب الوجه المريض وشخوص العينين مع فقد التعبير والانتباه وقد يصاحب ذلك حركات في الجفنين أو الحاجبين يعود بعدها المريض إلى حالته الطبيعية لمتابعة عمله وتسمى هذه النوبات بالنوبة الصغيرة Petit Mal Epilepsy أو الغيبة Absence Seizure وهذا النوع من الصرع كثير الحدوث في الأطفال ويتكرر كثيرا في اليوم الواحد حتى مائة أو مائتي مرة.
ويمكن تصنيفُ مرضى النوبات الصرعية طبقا لكونِ النوبة مُتَعَمِّمة Generalized أو جزئية Partial (بؤرية Focal )، أي تبقى مقصورة على مكان واحد صغير في الجهاز العصبي المركزي مثلا الفصُّ الصدغي، وهل هناك اختلالٌ في الوعي (وإذا حدث فإنها تُسمى نوبة جزئية معقدة Complex Partial Seizure ) أو ما إذا كانت النوبةُ الجزئية تسبِّبُ تعميما ثانوياSecondary Generalization، وبوجه عام فإنه في 60-70% من كل مرضى الصرْع لا توجدُ أسبابٌ واضحةٌ للنوبات، وحوالي ثلثي المرضى يتوقفُ حدوث نوباتِهِم خلال 2-5 سنوات من بدايةِ حدوثها، ويحدثُ ذلك عادة في سياقِ استعمال العقاقير.
آلية إمراض الصرْع Pathogenesis of Epilepsy :
سببياتُ (عِلِّيـة) الصرْع غيرُ معروفة في أغلبها، ولكن معظمَ العلاجات المستخدمةِ لعلاج الحالة تعملُ من خلالِ تعْديل التوازنِ بينَ حمضِ الجاما أمينوبيوتريك Gama Aminobuteric Acid التثبيطي والشبكات الجلوتاماتية الاستثارية داخل المخ، أو جهد الاضطرامِ المتكرر للعصبونات، ويبينُ تسجيلُ مخطط كهربية المخ (Electroencephalography (EEG أن النوباتِ الصرْعية (الأحداث النشبية Ictal Events ) ترتبطُ بتفريغ كهربي يُظْهِرُ إما حَسَكة وموجة متعممة مُزامنة أو بؤرية، وإن كانت الشذوذاتُ في المخطط قد تظهرُ ظهورا عابرا دونما دليل ظاهر على وجود نوبة (النشاط بين النشبتين أو بين النشبات Interctal Activity ).
ويمكنُ أن تأخذَ النوبة الصرْعية المتعممة أشكالا عديدة لكنها تقليديا تتكوَّنُ من طور توتري Tonic (حيث تتصلب العضلات) وطور رَمَعي Clonic (رجيجٌ للأطراف والجسد) وتليهِ فترةٌ من فقدِ الوعي، وكانت تسميةُ هذا الشكل نوبة الصرع الكبير Grand mal Epilepsy ، ولكنها الآن أصبحت النوبة التوتُّرية الرَمَعِية المُتَعَمِّمَة Generalized Tonic Clonic Seizure) GTCS)، وقد أعيدَ تصنيفُ نوبات الصرْع الصغير Petit mal Epilepsy الآن كشكل من أشكال الصرْع الأولي المتعمم Primary Generalized Epilepsy.
وأحد نماذج توليدِ التفريغ الصرْعي هي أن النشاط بين (النشبي Interctal Activity ) إنما يمثلُ تغيرا لإزالة الاستقطاب تتداخلُ معه جهودُ فعل من مجموعات من العصبونات وتلي ذلك فترةٌ من فرْط الاستقطابِ فيها تُنَشِّطُ تلك العصبوناتُ عصبونات بينية تثبيطية مجاورة في حينِ تتعطلُ هي نفسها.
ومع تكرار الحسكات (بين النشبية) تقصُر فترةُ فرْط الاستقطاب ويُنَشِّطُ ذلك مدى من القنوات الأيونية (الساكنة في الطبيعي) في العصبونِ، كما تزيدُ من تركيزات البوتاسيوم البراني Extracellular (خارج الخلوي)، ويزيد هذا كله من إزالةِ استقطاب العصبونات، فإذا نُشِّطَت عصبوناتٌ كافيةٌ (وتَغَلبتْ على عصبونات الجابا البينية التثبيطية) تَنْتُجُ تفريغاتٌ متزامنةٌ عبرَ مجموعات من العصبونات التي يمكنها إحداثُ النوبة، وتُنْهَى النوبةُ أو التفريغُ المتزامنُ بعد ذلك من خلال عملية تثبيط نَشِطَة من داخل العصبونات نفسها (عبر القنوات الأيونية) وداخلَ الشبكة العصبونية بواسطة النشاط الجاباوي بين العصبوني.
ورغم أن هذا النموذج مفيد كوسيلة لفهم الفسيولوجي الخلوي للصرْع بغضِّ النظر عن سببه، إلا أن من الواضحِ أن الأشكالَ المختلفةَ للصرْع تنتجُ عن شذوذات مختلفة، ويعتقدُ أن الصرْع الأولي المُتَعمم Primary Generalized Epilepsy المصحوب بتغيرات منتشرة في مخطط كهربية الدماغ (EEG) ينتجُ من شذوذات في قنوات كالسيوم معينة في المهاد، ومرضى نوباتِ الفص الصدغي الجزئية المعقَّدة Complex Partial Seizure قد تكونُ لدى بعضهم ندبةٌ صغيرةٌ في ناحيةِ الفص الصدغي الإنسية تمثلُ فقدَ عصبونات ودباق داخل الحُصَيْن نتيجةَ أذية نقْصِ التأكْسُج Hypoxia أو الإقفار Ischaemia في سن مبكر.
علاج الصرْع:
يشمل علاجُ الصرْع المعالجة العقَّارية أو التدخلَ الجراحي في حالةِ وجودِ آفة بنيوية محددة و/أو فشلِ المعالجة العقَّارية، وتفيدُ العقّاقير كل أشكالِ الصرْع، حيث يؤدي استخدامُ عقَّار واحد إلى التحكّم في النوبات في 70-80% من مرضى النوباتِ التوترية الرمَعية وفي 30-40% من مرضى النوباتِ الجزئية (البؤرية)، وقد يستفيدُ المرضى غير المُستجيبين لعقّار واحد من إضافة عقار ثان (إضافي) ولكن 7% فقط من الحالات الحَرُونة يبرؤونَ تماما من النوبات.
آليات عمل العقاقير المضادة للصرع:
وهذه الآلياتُ غيرُ مفهومة جيدا، فبعضُ العقّاقير (بنزوديازيبينز والفيجاباترين والفينوباربيتال) تحسنُ التثبيطَ بواسطة الجابا (التثبيط موسط الجابا)، بينما تحْصُرُ عقّاقير أخرى قنوات الصوديوم (فينيتوين والكاربامازيبين وفالبورات الصوديوم واللاموتريجين)، وأما الإثوسوكسيميد والمؤثرُ فقط في الغَيْبات فيثَبِّطُ تيّارَ الكالسيوم المولدِ للحَسَكَة في عصبوناتِ المهاد، ويمتَلِكُ عقّار فالبورات الصوديوم نفسَ التأثير على قنواتِ الكالسيوم إضافة لتأثيرِه على قنوات الصوديوم ولعلَّ هذا ما يفسر المجال الواسع لنشاطه المضاد للصرْع.
وأكثرُ العقّاقير استخداما لعلاج الصرْع هي الكاربامازيبين وفالبورات الصوديوم واللاموتريجين بسبب نَجاعتهم وآثارهم الجانبيةِ المحتملة إلى حد بعيد رغم حسْنِ توثيقها.
ويتميز عقّار فالبورات الصوديوم بالغيابِ النسبي لإحداثِ النُعاس، ومجالِ نشاطه الواسع والطبيعة الخفيفة أو المعتدلة لآثاره الضائرة (الغثيان، زيادة الوزن، النزوع للنزف، الرُعاش، والفقد المؤقت للشعر)، وأما عيبُهُ الرئيسي فهو أن استجابات ذاتيةَ التَّحْساسِ أحيانا تسبِّبُ تسمُّما كبديا شديدا أو مميتا، إضافة إلى احتماليةِ الإمْسَاخ (للجنين في حالة استخدامه أثناء الحمل)، ولهذا السبب غالبا ما يفضل استخدامُ الكاربامازيبين أو اللاموتريجين، والآثارُ السامةُ للعصبِ الخفيفةُ (كالغثيان والصداع والدوخة والشفع والرنح) شائعةٌ، وغالبا ما تضعُ حدا لجرعاتِ العقّار، وأما نُدْرة المُحَبَّبات Agranulocytosis فهي تفاعل ذاتي التحْساس Idiosyncratic Reaction نادرٌ للكاربامازيبين؛
وأما اللاموتريجين فهو عقّار جديدٌ نسبيا له مجال نجاعة واسعٌ ويعتبرُ آمنا إلى حد ما أثناء الحمل، وأما الفينيتوين فهو عقّارٌ صعبُ الاستخدام بسبب استقلابِهِ المعقد، فقد يحتاج مدة تصل إلى 20 يوما ليصل مستواه في البلازما إلى الثباتِ بعد تغيير الجرعةِ وبالتالي فإن الجرعةَ يجب أن تزَوّدَ بالتدريج حتى يمتنعَ حدوثُ النوبات، أو تظهرَ علاماتُ اختلالِ وظائف المُخَيخ (الرأرأة والرنح والرُّتَّة أو عسر التلفظ)، وما تزال هناك آثارٌ جانبيةٌ غير سارة للفينيتوين وتشملُ تضخُّمَ اللَّثةِ وحَبَّ الشبابِ والجلدَ الدهني وخُشُونةَ ملامح الوجه وزيادةَ الشعر في الجلد، وكل هذا يجعلهُ غير محبوب للمرضى خاصة النساء، والفينوباربيتال هو عقّارٌ مؤثر في كل من النوباتِ التوترية الرمَعية والنوبات الجزئية، لكنه يسبب النعاس بشدة كما يحدث تحملٌ له وإذا أوقفَ فجأة يمكن أن تحدث الحالة الصرْعية (المتكررة آنيا)، وتشملُ آثارُه الجانبيةُ الأعراضَ المُخيخية والدوخة في الراشدين وفرطَ الحركة في الأطفال؛
وأما العقّاقير فيجاباترين وجابابينتين وتوبيراميت، وليفيتيراسيتام فكلها أصنافٌ جديدةٌ قُدِّمت كعقّاقير إضافية للمرضى الذين لم يُتحكَّم تماما في نوباتِهم بالعقاقّير الأخرى، وأما الإثوسوكسيميد فيفيدُ فقط في علاجِ نوبات الغيبة والنوبات الرمَعية (حركات رَجيجية وجيزة دونما فقد لوعي)، وأما الكلونازيبام فهو بنزوديازيبين قويٌ مضادٌّ للتشنجات ويفيدُ في نوباتِ الغيبة والنوبات التوترية الرَّمَعية وفي النوبات الرمَعية لكنه يسببُ النعاس جدا كما يمكن أن يحدثَ التحمُّل مع الاستعمال الطويل.
والمعالجة بمضادات الصرْع (التشنجات) أثناء الحملِ تحتاج إلى الانتباهِ بسبب الاحتمال الإمساخي Teratogenic Potential لكثير من تلك العقّاقير خاصة الفالبورات والفينيتوين.
والمعالجة بمضادات الصرْع (التشنجات) أثناء الحملِ تحتاج إلى الانتباهِ بسبب الاحتمال الإمساخي Teratogenic Potential لكثير من تلك العقّاقير خاصة الفالبورات والفينيتوين.
واقرأ أيضاً:
الصرع في الأطفال: نصائح عملية / الصرع بين العلم والدجل والطب النفسي / امرأة وفصها الصدغي / صرع الفص الصدغي / إنه داء الصرع؟! ربما / قصور معرفي وربما صرع الفص الصدغي