منذ ما يربو على العقدين من الزمان قرأت وسمعت عنه، وأول ما لفت نظري كان بالطبع اسمه أعجبني واحتفظت له بمكان لائق في الذاكرة. بعدها بسنوات سألت الأستاذة صافي ناز كاظم: لمن أقرأ من الروائيين المصريين والعرب... وفكرت قليلا، وأجابت:
مهم... تقرأ صنع الله... سألتها هل عندك شيء له؟؟!! قالت: اقتنيت لتوي روايته الأخيرة – في ذلك الوقت –"ذات"... وأخذت "ذات".. صنع الله... لتكون واحدة من بضعة روايات قليلة أفلحت في إكمالها دون أن أمَّل أو أكف وكانت"ذات"، وغيرها من روايات ثرية سببا في اعتناقي لفكرة أن الروائي الحقيقي يملك نظرة هي أعمق من السياسي الناشط، وحتى الأكاديمي في تحليلاته وتنبؤاته، لأن الروائي يبتلع ويمضغ أكثر.. ويهضم أبطأ... ليبدع ويفرز أجودَ وأغنَى.
في الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفي شدة العتمة يحتاج الناس إلى أية ومضة تنير، وتهدي، ومنذ عقود طويلة نعيش في واد غير ذي زرع، ولا طحن بالتالي، ولا معنى، ولا طعم، ولا لون، ولا رائحة، والمثقف شريك في الجريمة، متورط في الفضيحة، ومتواطئ حتى النخاع... يسمح لنفسه أن يكون تارة القفاز الحريري الذي يلف القبضة الحديدية الباطشة، حتى لو انخلع بعد أن يتلوث بالدم الحرام ثم يقذف به في قعر أقرب سلة مهملات.
* سمح لنفسه أن يكون المحَلِّلَ أو المحَلَّـلَ الذي يعيد الوئام بين سلطة فاقدة للمشروعية والمصداقية والأهلية، وبين جموع سبق وطلقت سلطتها طلاقا بائنا بالثلاثة... لا رجعة فيه!!!
* أشهر قرنيه، وحك الأرض بحافره ثم اندفع عندما لوحت له السلطة بقماشة خطر التطرف والأصولية... ليخوض معركة يظنها معركته، فإذا به مجرد جزء من عرض دموي رخيص يتكرر كل ليلة بمشاركته ثم... يعودون به للحظيرة. وافق أن يكون سيف العز يضرب به خصومه.
* وافق أن يكون سيف العز يضرب به خصومه، يحسب أنه بذلك سيصبح نديما للأمير، فإذا بالسيف مشهرا في وجهه بعد حين.. جاهزا أن ينغرس فيه... إذا سولت له نفسه أن يحدثها بشيء غير التسبيح لصاحب العرش أو تلاوة غير آيات "الكرسي"!!!
* فرح بالاحتفاليات _والموالد طقس مصري قديم _وتمهرج مع المتمهرجين، وعارضها أحيانا وللمعارضة ضمن الديكور مكان ومكانة- لإثبات... أن كل شيء على ما يرام، وأن ما لدينا ليس "كاتم صوت"، ولكن صوت وصوت آخر... وتغافل أن أصوات الأحاديث التي تجري داخل الغرف المغلقة أو القاعات المكيفة لا تتعدى جدرانها، ويظل الصمت موحشا، والسكوت قاتلا، والجمود فتاكا... خارجها
* وظل متمردا يترنح كالبندول تغضب عليه السلطة فيضطرب ويتوعد، وقلبه معلق بها، ثم ترضى عنه أو تستدعيه فيمتلئ صدره بالفخر والتحقق... كونه شيئا مذكورا!!!، وهو طوال الوقت يتحدث عن رأي الناس، وصوت الناس، وضمير الناس، وغضب الناس، يتحدث فقط عنهم ولا يتحدث معهم، أو إليهم، رغم أن الحياة ميدانه، والناس جمهوره، ولكن العلاقة الأهم في حياته ظلت علاقته بالسلطة سخطت أو رضيت!!!!
* ولاحت أمام الجماعة الثقافية المصرية إن صح التعبير الفرصة تلو الفرصة لتغيير هذا الوضع المزري، ونشر صفحة غير تلك البائسة السوداء توالت بيانات الشجب والإدانة أو التأييد أو الاحتفاء... ثم بعد ذلك... لا شيء سوى صخب داخل الحظيرة..... وموات خارجها.... ولا تسأل عن الانتقال من السيئ إلى الأسوأ.
كان هذا هو المشهد الثقافي المستمر الحزين حتى وقف ذلك النحيف المرهف مثل سيف سلوه من غمضه، أو رمح ممشوق متوجه إلى السماء في شموخ... كان وحده كاتبا صعر الشيطان خده... حين كان الكل عبده... كما يقول الشاعر.. وكما قال وفعل كاتبنا.. حين اختصر الواقع في كلمات أثبتت لي أن الفكرة التي أعتقدها عن الروائي الحقيقي صحيحة.
0 وسيقولون لك أن الخروج عن النص لم يكن سوى مسرحية سخيفة أخرى مثل المساخر التي تملأ ليلنا، وتفسد نهارنا وسيقولون أنه لم يكن جديرا بها من الأصل، وأن "اللجنة" التي اختاروها هم... لم تكن محايدة أو على كفاءة.!!!، وسيقولون أن "ذات" الروائي العجوز متضخمة، وأن موقفه تتصاعد منه "تلك الرائحة" الحمراء الفاقعة، وسيقولون أن السلطة ديمقراطية أكثر من اليونان في أثينا، وسويسرا في برن وأن الكاتب يستحق"وردة" على بيانه ولكنهم يختلفون مع موقفه برفض الجائزة المكافأة.
وسيقولون... ويقولون..... كلاما كثيرا لا يساوي قيمة الحبر الذي يرسمه، أو الهواء الذي يحمله، أو الوقت الذي يتبدد في محاولة سماعه أو الرد عليه.
0 الخوف الحقيقي أن ينفض هذا الحدث ولا يسفر الغبار الثائر عن شيء سوى الصمت والسكون، والاستقرار والاستمرار.... المعتاد. والأمل أن يكون موقف الروائي بداية لمسار جديد يضع فيه المثقف نفسه حيث ينبغي أن يكون وسط الناس يفهم لغتهم ويتفاعل مع أمورهم بوصفه مشاركا إيجابيا لا يعيد ترديد ما يقال بينهم، ولكن يستثمر معرفته لصالح نهضتهم، وانعتاقهم من أسر التخلف والخرافات، والعجز العقلي والاجتماعي.
0 هذه هي مهمة المثقف الآن: أن يخرج من الحظيرة، وينخرط وسط الناس وعيا وتنمية وتنظيم جهود.
0 والمجد للمثقف إذا قدم بفكره وعمله، ووعيه، وحركته وسط الناس ما ينفعهم، فهذا وحده الذي يمكث في الأرض، وغير ذلك يذهب... غير مأسوف عليه
اقرأ أيضا:
على باب الله الثقافة والسياسة / حليم وصفوان وفساد الزمان / إبحار الأجيال وتعاقب الأمواج البناءة