هو عميد العائلة لا يقطعون أمراً بدونه، ودائماً رأيه هو الأقرب للصواب، وشخصيته غاية في التوازن والنضج فهو يملك ناصية العلم وناصية الخبرة في آن وقد بلغ من العمر سبعون عاماً وله عدد كبير من الأبناء والأحفاد.
ومنذ عدة شهور بدأ يتغير فأصبح كثير الشكوك فيمن حوله يتهمهم بأنهم يدبرون أمراً لنقل ملكية أرضه إليهم، وبأنهم يسرقون أمواله ليلاً وهو نائم ويتهم زوجته بخيانته مع زوج ابنته، ويأتي بالكثير من الأدلة على كل هذه الأشياء المخجلة، وخلال هذه الشهور انقلبت أحوال العائلة فالجميع مندهش ومضطرب ومذهول مما يسمع من هذا الأب الذي عاش يحوطهم جميعاً بالمحبة والرعاية،
وهاهو الأب يهدم كل شيء كانوا يعتزون به بل ويطعنهم في أمانتهم، بل ويطعنهم في شرف أمهم تلك السيدة الفاضلة التي لم تعرف في حياتها غير سجادة صلاتها ورعاية زوجها وأبنائها، ولم يكتف بذلك بل راح يشكو لكل الناس في القربة بأن أبناءه يمنعون عنه الطعام، وزاد على ذلك أنه ذهب إلى نقطة الشرطة يقدم بلاغاً يطلب فيه حمايته من زوجته وأبنائه الذين يخططون لقتله، وأصبح هذا الرجل الكبير سناً ومقاماً حديث القرية كلها والقرى المجاورة، فالناس يعجبون كيف يفعل به أبناؤه هكذا بعد أن بلغ من العمر عتياً .. !! وعبثاً يحاول أبناؤه كف هذه التهم عن أنفسهم.
ومنذ عدة أسابيع بدأ يعلن عن رغبته في الزواج ويخرج إلى الشارع يغازل الفتيات الصغيرات ويتحرش بهن مما كاد يؤدي إلى حدوث مشاكل كبيرة في القرية لولا تدخل أولاده ومنعهم إياه من الخروج وقد لاحظوا أنه أصبح يفعل أشياء كثيرة وينسى أنه فعلها ويقسم بأغلظ الأيمان أنه ما فعل هذا الشيء، ولاحظوا أيضاً أنه لم يعد يعط أي اهتمام للجوانب الأخلاقية التي كان من أشد المحافظين عليها، فهو لا يتورع الآن أن يخلع ملابسه بالكامل أمام الرجال والنساء في البيت أو خارج البيت، عندئذ فكروا في عرضه على الطبيب النفسي.
0 هذه الحالة نموذج لمرض السَّبَه (عته الشيخوخة)Dementia والذي يتميز بضعف الذاكرة وضعف القدرات العقلية عموماً، ولكنه في بعض الأحيان مثل هذه الحالة- ربما يبدأ بتغير في السلوك بحيث يأتي الشخص بسلوكيات لم يتعود عليها قبل ذلك وهي منافية للعرف والأخلاق وغريبة على طبيعة شخصيته، أو تكون هناك ضلالات اضطهاد أو ضلالات عظمة أو غيرها حيث يعتقد في حدوث أشياء لم تحدث، وهنا يلتبس الأمر على أهل المريض فهم يستغربون منه هذا السلوك، ولكنهم غير متأكدين تماماً أن هذه حالة مرضية،
وبالكشف على هذا المريض وعمل القياسات النفسية لقدراته الفعلية نكتشف مدى التدهور الذي حدث له، وبعمل الأشعات المقطعية أو أشعة الرنين المغناطيسي يتبين الضمور الحادث في المخ.
ويستحسن في هذه الحالات أن يبدأ العلاج مبكراً فيعطى المريض بعض الأدوية التي تؤدي إلى تحسن القدرات الذهنية مثل الأكسيلون (Exelon) والأريسبت (Aricept) مع أدوية تؤدي إلى انضباط السلوك مثل الأبيكسيدون (Apexidone) أو ريسبيردال (Risperdal)، مع الاهتمام بعلاج الأمراض الأخرى المصاحبة كالسكري وارتفاع الضغط وغيرها من الأمراض.
وهذا المريض يحتاج لرعاية أسرية تساعده على التكيف مع حياته في ظل ضعف قدراته العقلية وضعف الضبط السلوكي لديه، فهو يحتاج إلى أن يكون في بيئة يألفها فلا ينقل إلى مستشفى أو دور مسنين بل يظل في البيت الذي عاش فيه ويعرف مداخله ومخارجه، ويقوم الجميع بمساعدته على تناول طعامه وشرابه وعلى العناية بنظافته الشخصية وعلى أداء حاجاته وعلى حمايته من الأخطار التي ربما يتعرض لها نتيجة لضعف إدراكه لها.
ويجب أن يدرك الأهل أن عته الشيخوخة يزيد مع الوقت وأن العلاج لن يمنعه أو يوقفه ولكنه يؤخر تدهوره، وأن الرعاية الإنسانية لمثل هذا الشخص هي أفضل شيء يقدم له في هذه الظروف خاصة وأنه قد قدم لأبنائه الكثير قبل ذلك، وأن الله أوصى بالوالدين في هذا السن وخاصة في مثل هذه الظروف فقال تعالى"وبالوالدين إحساناً".
واقرأ أيضًا:
الصندوق الأسود لمذبحة ذكرى / أزمة منتصف العمر