"يقول ابن القيم: هذا مرض من أمراض القلب مخالف لسائر الأمراض في ذاته وأسبابه وعلاجه إذا تمكن واستمكن منه الأطباء وداؤه وأعيى العليل داؤه . وعشق الصدر إنما يبتلى به القلوب الفارغة من محبة الله تعالى المعرضة عنه .المتعوضة بغيره عنه فإذا امتلأ القلب من محبة الله والشوق إلى لقائه دفع ذلك عنه مرض عشق الصدر ولهذا قال تعالى في حق يوسف كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين مثلا على أن الإخلاص سبب لدفع العشق وما يترتب عليه من السوء والفحشاء التي هي ثمرته ونتيجته والعشق مركب من أمرين استحسان المعشوق وطمع في الوصول إليه فمتى انتفى أحدهما انتفى العشق.
وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تنافر منها اختلف.
وقال تعالى وإذا النفوس زوجت أي قرن كل صاحب عمل بشكله ونظيره نقرن بين المتحابين في الله في الجنة وقرن بين المتحابين في طاعة الشيطان في الجحيم فالمرأ مع من أحب شاء أو أبى وفي صحيح الحاكم وغيره عن النبي صلي الله عليه وسلم لا يحب المرأ قوما إلا حشر معهم والمحبة أنواع متعددة فأفضلها وأجملها المحبة في الله والله وهي تستلزم محبة ما أٍحبه الله وتستلزم محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومنها محبة الاتفاق في طريقة أو دين أو مذهب أو كلمة أو صناعة أو قرابة أو مراد ما ومنها محبة نيل فرص من المحبوب إما من جاهه أو من ماله أو من تعليمه وإرشاده أو قضاء وطر منه، وهذه هي المحبة العرضية التي تزول بزوال موجبها وإما المحبة التي بين المحب والمحبوب فمحبة لازمة لا تزول إلا لعارض يزيلها ومحبة العشق في هذا النوع فإنها استحسان روحاني وامتزاج نفساني.
ولولا مانع الكبر والحسد والرياسة والمعاداة في الكفار لكانت الرسل أحب إليهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ولما زال هذا المانع من قلوب أتباعهم كانت محبتهم لهم فوق محبة الأنفس والأهل والمال
"المقصود أن العشق لما كان مرضا من الأمراض كان قابلا للعلاج وله أنواع فإن كان ما للعاشق سبيل من وصل محبوبه شرعا وقدرا فهو علاجه كما ثبت في الصحيحين من حديث بن مسعود قال رسول الله صلي الله عليه وسلم يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء فدل المحب على علاجين أصلي وبدلي وأمره بالأصلي وهو العلاج الذي وضع لهذا الداء فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلا.
وروي ابن ماجة في سننه عن ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال لم نر للمتحابين مثل النكاح وهذا المعنى الذي أشار إليه سبحانه عقيب إحلال النساء حرائرهن وإمائهن عند الحاجة بقوله يريد الله إن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا فذكر تخفيفه في هذا الموضع واعتباره من ضعف الإنسان يدل على ضعفه عن احتمال هذه الشهوة وأنه سبحانه خفف عنه أمرها بما أباحه له من أطايب النساء علاجا لهذه الشهوة وتخفيفا عن هذا الخلق الضعيف ورحمة به.
- وإن كان لا سبيل للعاشق إلى وصال محبوبه قدرا وشرعا أو هو ممتنع عليه من الجهتين وهو الداء العضال فمن علاجه إشعار نفسه اليأس منه فإن النفس متى يئست من الشيء استراحت منه ولم تلتفت إليه فإن لم يزل مرض العشق مع اليأس فقد انحرف الطبع انحرافا شديدا فينتقل إلى علاج آخر وهو علاج عقله بأن يعلم بأن تعلق القلب بما لا يطمع في حصوله نوع من الجنون. وإن كان الوصل متعذرا شرعا لا قدرا فعلاجه بأن ينزله المتقدر قدرا إذا لم يأذن فيه الله فعلاجه الصبر ونجاته موقوف على اجتنابه.
فإن العاقل متى وازن بين نيل محبوب سريع الزوال بفوات محبوب أعظم منه وأدوم وْأنفع وألذ أو بالعكس ظهر له التفاوت فلا تبع لذة الأبد التي هي لا خطر لها بلذة ساعة تنقلب آلاما وحقيقتها أنها أحلام نائم أو خيال لإثبات له فتذهب اللذة وتبقى التبعة وتزول الهوة وتبقى الشقوة . فإذا تيقن أن في إعطاء النفس حظها من هذا المحبوب هذين الأمرين هان عليه تركه .
ورأى أن صبره على فواته أسهل من صبره عليهما بكثير فعقله ودينه ومروءته وإنسانيته تأمره باحتمال الضرر اليسير الذي ينقلب سريعا لذة وسرورا وفرحا لدفع هذين الضررين العظيمين. وجهله وهواه وظلمه وطيشه وخفته بأمره بإيثار هذا المحبوب العاجل بما فيه جالبا عليه ما جلب والمعصوم من عصمه الله
فإن لم تقبل نفسه هذا الدواء ولم تطاوعه لهذه المعالجة فلينظر ما تجلب عليه هذه الشهوة من مفاسد عاجلته وما تمنعه من مصالحها . وليجاوز بصره حسن الصورة إلى قبح الفعل وليعبر من حسن المنظر والجسم إلى قبح المخبر والقلب
فإن عجزت عنه هذه الأدوية كلها لم يبق له إلا صدق الملجأْ إلى من يجيب المضطر إذا دعاه وليطرح نفسه بين يديه على بابه مستغيثا به متضرعا متذللا مستكينا فمتى وفق لذلك فقد ترك باب التوفيق فليعف وليكتم ولا يشبب بذكر المحبوب ولا يفضحه بين الناس ويعرضه للأذى فإنه يكون ظالما متعديا
ولا يفقه بالحديث الموضوع من عشق فعف فمات فهو شهيد وفي رواية من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يكون من كلامه. فإن إفساد عشق الصور للقلب فوق كل إفساد بل هو خمر الروح الذي يسكرها ويصدها عن ذكر الله وحبه والتلذذ بمناجاته والاستجابة له ويوجب عبودية القلب لغيره.