دراسة نفسية للرباعيات
عاش صلاح جاهين حياته في حالة تجوال مستمر بين مرتفعات المرح ومنخفضات الاكتئاب، وخلال نوبات صعوده وهبوطه المتكررة كان يمر على مساحات واسعة من الخبرات والمشاعر الإنسانية ولذلك كانت شخصيته ذات ألوان طيف متعددة فكان شاعراً رقيقاً وفيلسوفاً عميقاً وإنساناً بسيطاً ورساماً للكاريكاتير وكاتباً للاستعراضات و………و…… وغيرها كثير.
وهذه الحالة من التناوب بين موجات المرح وموجات الاكتئاب نسميها في الطب النفسي الاضطراب الوجداني ثنائي القطب، وإن كان يبدو من التسمية أنها أقرب للتشخيصات الطبية إلا أن كثيرين ممن يعانون من هذه الحالة (وخاصة في درجاتها البسيطة والمتوسطة) يكون لشخصياتهم سحر خاص، وذلك لتنوع وثراء خبراتهم الوجدانية والإنسانية ولمرونة وتغير تلك الخبرات الوجدانية التي تجعلهم في حالة أقرب إلى سيولة المشاعر وتدفقها، ولذلك يكثر بينهم المبدعين.
وسوف نستأذن القارئ في استخدام تعبير "ثنائية الوجدان" للتعبير عن هذه الحالة بشكل مبسط وإن كان هذا التعبير ربما يثير بعض الاعتراضات العلمية الأكاديمية نظراً لعدم تطابقه مع الاسم العلمي الدقيق للحالة، ويمكن للقارئ أن يستعمل تعبيرات أخرى بديلة في مثل هذا الموقف مثل "نوابية الوجدان"، وأصحاب ثنائية الوجدان لديهم مساحات هائلة للحركة من أعلى المرح إلى أسفل الاكتئاب وبالعكس، وهم أثناء نوبة المرح نجدهم متفائلين ومنطلقين ومقبلين على الحياة وباحثين عن اللذة والسعادة، في حين نجدهم أثناء نوبة الاكتئاب في حالة حزن وانطواء وانسحاب ورغبة في الموت وإحساس قاتل بالملل وفقدان المعنى.
والشخص في تقلباته المتعاقبة بين هذه النوبات يفرح كثيراً ويتألم كثيراً، يرى الأبيض شديد البياض ويرى الأسود شديد السواد، ولا يحترم الحلول الوسط. وبما أن التقلبات بين قطبي الوجدان هي السمة السائدة في حياته فإنه يعلي من قيمة المشاعر على حساب قيمة العقلانية والمنطقية.
وهذه الصبغة الوجدانية في هذه الشخصية تعطيها لوناً مميزاً وكاريزما آسرة تجعلها قريبة إلى القلوب ومحببة إلى النفوس وهو ما أطلق عليه حديثاً "الذكاء الوجداني" وحين يكون ثنائي الوجدان شاعراً أو فناناً فلا شك أن لديه قدرة هائلة على وصف ما يراه في رحلاته الوجدانية (صعوداً وهبوطاً) بدقة شديدة حيث تسمح حساسيته الأدبية والفنية بالتقاط كل شاردة وواردة تصادفه ويكون بعد ذلك قادر على إعادة تنظيم ما سمعه وما رآه وأخرجه في أسلوب أدبي، ولذلك تكون أهمية دراسة إنتاجه الأدبي لرؤية الظواهر النفسية بشكل أكثر دقة ووضوحاً وعمقاً، وهذا ما سنحاوله في هذه الدراسة ونحن نتتبع رحلات الشاعر الوجدانية من خلال ديوانه "رباعيات":مرح، اكتئاب .
في بداية نوبة اكتئاب يعبر الشاعر عن إحساسه بقلة الحيلة وانعدام القدرة على الاختيار وذلك في عبارات حزينة يائسة:
عجبي عليك… عجبي عليك يا زمن
يابو البدع يامبكي عيني دماً
إزاي أنا أختار لروحي طريق
وأنا إللي داخل في الحياة مرغماً
ويتعمق شعوره بانعام الحيلة (Helplessness) فينوح قائلا:
مرغم عليك يا صُبح مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليَّا ولا كانلي ميل
شايلني شيل دخلت في الحياه
وبكره ح أخرج منها شايلنَّي شيل
ويشعر بفقد السيطرة وكأنه دمية تتناوبها الأيادي بلا أدني اختيار:
سنوات وفايته عليَّا فوج بعد فوج
واحده خَدِتني ابن والثانيه زوج
والثالثة أب خدتني والرابعه إيه
إيه يعمل إللَّي بيحدفُه موج لموج؟
ويضاف إلى انعدام الحيلة شعور بالحيرة والتردد وفقد القدرة على اتخاذ القرار وكلها من أعراض الاكتئاب:
وأنا في الضلام… من غير شعاع يهتكه
أقف مكاني بخوف ولا أتركه
ولما ييجي النور وأشوف الدروب
أحتار زيادة… أيهم أسلكه؟
ثم تزداد الحيرة ويتسع نطاقها ويمتد إلى الملكوت كله وتثور تساؤلات وجودية لا تجد لها جوابا:
نظرت في الملكوت كتير وانشغلت
وبكل كلمةْ (ليه؟) و(عشانيه) سألت
أسأل سؤال…… الرد يرجع سؤال
وأخرج وحيرتي أشد مما دخلت
وتزداد الحيرة وتفقد الأشياء معناها ويطل العدم برأسه الأسود من كل مكان:
خرج ابن آدم م العَدَمْ قلت: ياه
رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه
تراب بيحيا …… وحيّْ بيصير … تراب
الأصل هوَّ الموت والا الحياة؟
وحين تفقد الأشياء روحها ومعناها عند الاكتئابي يتساوى كل شيء مع أي شيء وتضيع الفروق وتبهت الألوان:
ضريح رخام فيه السعيد اندفن
وحفرة فيها شريد من غير كفن
مريِّت عليهم …… قلت يا للعجب
لاتنين ريحتهم فيها نفس العفن
والمكتئب لديه وعي حاد بالفقد ولذلك يتعمق شعوره بالندم:
ياما صادفت صحاب وما صَحِبتْهمش
وكاسات خمور وشراب وماشربتهمش
أندم على الفرص إللي أنا سبتهم
والا على الفرص إللي ما سبتهمش
ويخالط الاكتئاب مشاعر قلق وخوف يضيع معها الإحساس بالأمان، وهنا يشعر بحاجته للإيمان، والإيمان يقين واستقرار، وطبيعة الشاعر الوجدانية المتقلبة ترفض الاستقرار على حال، لذلك تفضل موقف الحيرة:
غدر الزمان يا قلبي مالهوش أمان
وحاييجي يوم تحتاج لحبة إيمان
قلبي ارتجف وسألني … أآمِنْ بإيه ؟
أآمن بإيه محتار بقالي زمان
ومع الاكتئاب والحيرة وفقدان المعنى يفقد الشاعر الإحساس بالهوية:
يا باب يا مقفول… إمتى الدخول
صبرت ياما وإللي يصبر ينول
دقيت سنين… والرد يرجع لي: مين ؟
لو كنت عارف مين أنا… كنت أقول
وتنتهي نوبة الاكتئاب، وتبدأ نوبة مرح فيشعر بالامتداد الزمني العميق ويشعر بالثراء والامتلاء والزحام:
أنا شاب لكن عمري ولا ألف عام
وحيد ولكن بين ضلوعي زحام
خايف ولكن خوفي مني أنا
أخرس ولكن قلبي مليان كلام
ومع تصاعد نوبة المرح تصحو الرغبة في الحياة والامتداد والتغلغل في كل الكائنات وهو ما يطلق عليه "امتداد الأنا"(Ego Expansion):
أحب أعيش ولو أعيش في الغابات
أصحى كما ولدتني أمي وأبات
طائر… حُوان… حشرة… بشر بس أعيش
محلا الحياة… حتى في هيئة نبات
ويزداد الإحساس الإيجابي بالذات ولكن هذا الإحساس تقطعه حالة من القلق النفسي والخوف:
سَهِّير ليالي وياما لفَّيت وطفت
وف ليلة راجع في الضلام قمت شفت
الخوف… كأنه كلب سد الطريق
وكنت عاوز أقتله… بس خفت
ويتعمق الرعب والخوف ويستقرا داخل نفس الشاعر:
كان فيه زمان سِحليَّة طول فَرسَخين
كهفين عيونها وخَشْمَها بَرْبخين
ماتت… لكين الرعب لم عمره مات
مع إنه فات بدل التاريخ تاريخين
وتتداخل مشاعر الإعجاب والانبهار مع مشاعر الخوف فتعكر عليه صفوه:
عجبتني كلمة من كلام الورق
النور شَرَق من بين حروفها وبَرَقْ
حبّيت أشيلها ف قلبي… قالت حرام
ده أنا كل قلب دخلت فيه اتحرَق
ثم ينفلت من هذه التناقضات ومن كل قيوده:
كل إللي في الخّمارة صابهم جنون
صبحوا الرجال يتبادلوا كاس المنون
وبدم ونبيت انكتب ع الجدار
"يا ميت ندامة ع إللي قلبه حنون"
ويدخل في مزيد من التقلب في محاولة لتعتعة الوضع القائم:
قالوا الشقيق بيمُصّ دم الشقيق
والناس ما هَيًّا ناس بحق وحقيق
قلبي رميته وجبت غيره حجر
داب الحجر…… ورجعت قلبي رقيق
وبعد هذه التعتعة يبدأ الإحساس بالخفة والقدرة:
بين موت وموت… بين النيران والنيران
ع الحبل ماشيين الشجاع والجبان
عجبي عَلادي حياة… ويا للعجب
إزاي أنا – ياتخين – بقيت بهلوان
ثم يبدأ الانطلاق المدى لنوبة مرح:
أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس
جلجت بُه صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج… قمتو ليه خفتو ليه
لافْ إيدي سيف ولا تحت مني فرس
ويعاوده الاكتئاب الموسمي في الربيع فيتضاعف الأسى حيث يجد نفسه غير قادر على مواكبة صحوة الطبيعة في هذا الفصل الجميل:
دخل الربيع يضحك لقاني حزين
نده الربيع على اسمي لما قلت مين
حط الربيع أزهاره جنبي وراح
وإيش تعمل الأزهار للميتين
ويؤلمه فقد المشاعر وعدم إحساسه بالحياة (Anhedonia):
مهبوش بخربوش الألم والضياع
قلبي ومنزوع م الضلوع انتزاع
يا مرايتي يا إللي بترسمي ضحكتي
يا هلترى ده وش والاّ قناع
ويستمر فقد الإحساس وفقد الأمان وفقد الارتباط بين الداخل والخارج وبالتالي فقد القدرة على التعبير عن المشاعر (Alexythymia) :
حبيت… لكن حب من غير حنان
وصاحبت لكن صحبة مالهاش أمان
رحت لحكيم وأكتر لقيت بلوتي
إن إللي جوّه القلب مش ع اللسان
ويغمره الإحساس بالحزن ويؤثر ذلك على إدراكه للأشياء من حوله فيستقبل الحزن قادماً إليه من العيون.
أعرف عيون هي الجمال والحسن
وأعرف عيون تاخد القلوب بالحضن
وعيون مخيفة وقاسية وعيون كتير
وباحسّ فيهم كلهم بالحزن
ويفقد الشاعر قدرته على الفرح رغم وجود أشياء كثيرة تدعو لذلك ويحس بمطاردة العيون الحزينة له:
إيش تطلبي يا نفس فوق كل ده
حظك بيضحك وانتي متنكده
ردت قالت لي النفس : قول للبشر
ما يبصوليش بعيون حزينة كده
ثم يحاول الاندفاع والتمرد والثورة على كل قيوده، ولكنه يعود مرة أخرى إلى حالة من الاستسلام والخضوع:
اقلع غماك يا تور وارفض تِلفْ
اكسر تروس الساقية واشتم وتِف
قال: بس خطوه كمان… وخطوه كمان
يا أوصل نهاية السكة يا البير يجّف
والشاعر يعلي من قيمة المشاعر حتى تلك الحزينة منها ويرفض اعتبارها مرضاً مثل باقي الأمراض لما لها من جلال وقيمة:
يا حزين يا قمقم تحت بحر الضياع
حزين أنا زيك وإيه مستطاع
الحزن مابقالهوش جلال يا جدع
الحزن زي البرد… زي الصداع
وهو يقلق ويحتار حين يزول الحزن والقلق ويصبح في حالة صفاء "اللهم اجعله خير" وزوال هذه المشاعر تساوي لديه النهاية: الموت أو الفلسفة:
في يوم صحيت شاعر براحة وصفا
الهم زال والحزن راح واختفى
خدني العجب وسألت روحي سؤال
أنا مُت؟… والا وصلت للفلسفة؟
ويواصل سخريته واستهزاءه من النشاط العقلي الفلسفي الذي يراه عقيماً:
الفيلسوف قاعد يفكر سيبوه
لا تعملوه سلطان ولا تصلبوه
ما تعرفوش إن الفلاسفة يا هوه
إللي يقولوه بيرجعوا يكدّبوه؟
والشاعر يفضل الحيرة والتردد على الاستلام للمقاييس الجامدة التي تحد من حريته وحركته:
وقفت بين شطين على قنطره
الكدب فين والصدق فين يا ترى
محتار ح أموت… الحوت خرج لي وقال
هو الكلام يتقاس بالمسطره؟
وثنائي الوجدان لديه القدرة على رؤية الوجه والوجه الآخر في ذات اللحظة، ولمَ لا وقد خبر قمة المرح وقمة الاكتئاب وأعطاه ذلك درساً في أن كل شيء له وجهين فهو يرى الألم والصراخ وراء الحب والجمال:
سرداب في مستشفى الولاده طويل
صرخات عذاب ورا كل باب وعويل
… وفي الطريق متزوقين البنات
متزوقين للحب والمواويل
ويعاوده الشعور بالتفاهة والسذاجة والملل، ويعلي من قيمة الانتحار في مواجهة هذا الواقع الذي يراه عبثياً تافهاً، ويعتبر الانتحار ميزة إنسانية تفرق الإنسان عن الحيوان:
الدنيا أوضه كبيره للانتظار
فيها ابن آدم زيُّه زي الحمار
الهم واحد… والملل مشترك
ومفيش حمار بيحاول الانتحار
ويعاوده الملل ويراه داءً أصعب من أي داء، وليس له علاج إلا الموت:
أيوب رماه البين بكل العلل
سبع سنين مرضان وعنده شلل
الصبر طيب… صبر أيوب شفاه
بس الأكاده مات بفعل الملل
وهو لا ينخدع بالعلو والبريق، فلديه شعور قوي بانتصار العدم في النهاية وهذه إحدى السمات الهامة للموقف الاكتئابي:
يا طير يا عالي في السما طظ فيك
ما تفتكرش ربنا مصطفيك
برضك بتاكل دود وللطين تعود
تمص فيه يا حلو… ويمص فيك
ثم تصحو لديه الرغبة في الحياة والانطلاق ويشعر أن ما يريده يتجاوز حدود إمكانياته:
يا للي نصحت الناس بشرب النبيت
مع بنت حلوه… وعود، وضحك، وحديت
مش كنت تنصحهم منين يكسبوا
تمن ده كله؟… والا يمكن نسيت
ثم يعلن انتصار مبدأ اللذة دون أي رادع ويشعر بحالة من الفيضان والتدفق والخلود:
ما حد في الدنيا دي واخد جزاته
ولا حد بيفكر في غيره لذاذاته
ماتعرفيش يا حبيبتي… أنا وانتي مين؟
إنتي عروس النيل… وأنا النيل بذاته
ثم تلوح موجة مرح جديدة وهو يصر على اقتناصها مهما كان الثمن:
من بين شقوق الشيش وشقشقت لك
مع شهقة العصافير وزقزقت لك
نهار جديد أنا… قوم نشوف نعمليه
أنا قلت ياح تقتلني… ياح اقتلك
ويتبع ذلك حالة من الانطلاق الغريزي الجامح والرؤية الصارخة للمثيرات:
النهد زي الفهد نط اندلع
قلبي انبهبش بين الضلوع وانخلع
يا للي نهيت البنت عن فعلها
قول للطبيعة كمان تبطل دلع
ويتواصل الانطلاق الغريزي والإدارك المتجسد والناطق لكل المثيرات:
صوتك يا بنت الإيه كأنه بدن
يرقص يزيح الهم يمحي الشجن
يا حلوتي وبدنك كأنه كلام
كلام فلاسفة سكروا نسيوا الزمن
ويصل إلى قمة تفجر الإحساس بالسعادة والانطلاق الجامح:
كرباج سعادة وقلبى منه انجلد
رَمَح كأنه حصان ولَفّ البلد
ورجع لي نص الليل وسألني… ليه
خجلان تقول إنك سعيد يا ولد
ثم يأخذ المنحنى في الهبوط بالتدريج ويصبح في حالة سعادة هادئة:
مزيكة هادية الكون فيها انغمر
وصيف وليل وعقد فل وسَمَرْ
يا هلترى الناس كلهم مبسوطين
ويا هلترى شايفين جمال القمر؟
وتستمر السعادة الهادئة ولكنه يشك في بقائها ويتمنى استمرارها ولو ليوم واحد:
انشد يا قلبي غنوتك للجمال
وارقص في صدري من اليمن للشمال
ماهوش بعيد تفضل لبكره سعيد
ده كل يوم فيه ألف ألف احتمال
وهو في هذه الحالة من السعادة والرومانسية يتمنى زوال القيود الاجتماعية ويتمنى إطلاق حرية العلاقات بدون وصم أخلاقي:
حدوته عن جعران وعن خُنفسه
اتقابلوا حَبّوا بعض ساعة مسا
ولا قال لهم حد اختشوا عيب حرام
ولا حد قال دي علاقة متدنسة
ويراوده الخوف من الغوص في أعماق الاكتئاب مرة أخرى فالاكتئاب عنده يساوي الغرق:
سمعت نقطة مَيّه جُوّه المحيط
بتقول لنقطة ماتنزليش في الغويط
أخاف عليكي م الغرق… قلت أنا
ده اللي يخاف م الوعد يبقى عبيط
والمكتئب لديه خوف كامن من الفقد، والفقد بالنسبة له مسألة تهدد وجوده:
جالك أوان ووقفت موقف وجود
يا تجود بده يا قلبي يا بْده تجود
ما حد يقدر يبقى على كل شيء
مع إن –عجبي- كل شيء موجود
ولا يعوض المكتئب في هذه الحياة غير نظرة تقدير ولمسة حب:
كيف شفت قلبي والنبي يا طبيب
هَمَد ومات والا سامع له دبيب
قاللي لقيته مختنق بالدموع
ومالوش دوا غير لمسة من إيد حبيب
فالحب للمكتئب هو طوق النجاة في بحر الحياة المتلاطم:
بحر الحياة مليان بغرقى الحياه
صرخت خش الموج في حلقي ملاه
قارب نجاه!… صرخت قالوا مفيش
غير بس هو الحُب قارب نجاه
ويصور الشاعر بدقة شديدة لحظات الانتقال من المرح إلى الاكتئاب والعكس:
فتحت شباكي لشمس الصباح
ما دخلش منه غير عويل الرياح
وفتحت قبلي عشان أبوح بالألم
ماخرجش منه غير محبة وسماح
ويعاود تصوير هذه اللحظة مرة أخرى موضحاً تلقائية حدوث هذا التغير من مزاج لآخر دون أدنى سيطرة منه على ذلك:
غمست سنك في السواد يا قلم
علشان ما تكتب شعر يقطر ألم
ما لك جرالك إيه يا مجنون…… وليه
رسمت وردة وبيت وقلب وعلم
وتعود السعادة إليه مرة أخرى حيث يستيقظ الطفل بداخله ليلهو ويمرح. وربما في الأبيات التالية تأكيد لنظرية (إريك برن) عن التكوين الثلاثي للنفس: الطفل والراشد والولد:
مرحب ربيع مرحب ربيع مرحبهْ
يا طفل يا للى في دمى ناغا وْحَبَا
علشان عيونك يا صُغَّن هويت
حتى ديدان الأرض والأغربه
ويمر الشاعر بلحظة سعادة جميلة صافية لا يشوبها أي خوف:
العشب طاطا للنسيم ونخ
أخضر طري ما لهش في الحسن أخ
عصفور عبيط أنا… غاوي بهجة وغنا
ح انزل هنا…. وإنشا لله يهبرني فخ
ويعبر عن حبه الشديد للحياة والذي يمتد حتى إلى ما بعد الموت:
أوصيك يا إبني بالقمر والزهور
أوصيك بليل القاهرة المسحور
وإن جيت في بالك… إشتري عقد فل
لأي سمرا… وقبري إوعك تزور
ولكي يحتفظ بحالة السعادة لابد له من إغماص العين عن رؤية الواقع المؤلم (الإنكار) والانطلاق نحو السعادة دون النظر لما يحدث على الأرض:-
غمض عينيك وأرقص بخفه ودلع
الدنيا هي الشابّه وأنت الجدع
تشوف رشاقة خطوتك تعبدك
لكن أنت لو بصيت لرجليك… تقع
ولكن سرعان ما تعود مخاوفه وحساباته على الرغم من أنه يطمئن نفسه بأن أحزانه الحالية والقادمة سوف تنتهي كما انتهت من قبل، فقد أصبح متعايشاً مع تقلباته المزاجية:
حاسب من الأحزان وحاسب لها
حاسب على رقابتك من حبلها
راح تنتهي ولابد راح تنتهي
مش انتهت أحزان من قبلها
وتصحو بداخله ثورة جامحة ضد خوفه الذي امتد إلى ذريته مستنكراً ذلك الخوف ومسفها له:
ولدي نصحتك لما صوتي اتنبح
ما تخافش من جني ولا من شبح
وإن هبّ فيك عفريت قتيل اسأله
ما دافعش ليه عن نفسه يوم ما اندبح
وتساوره الرغبة للتنفيس عما بداخله والانطلاق بلا خوف:-
يا عندليب ما تخافش من غنوتك
قول شكوتك وأحكي على بلوتك
الغنوة مش ح تموتك إنما
كتم الغنا هو اللي ح يموتك
وتبلغ رغبته أقصى مدى لها في الحرية والانطلاق ورفض أي قيد مهما كان بريقه:-
البط شال عدّى الجبال والبحور
ياما نفسي أهجّ .. أحج ويّا الطيور
أوصيك يا ربي لما أموت … والنبي
ماتودّنيش الجنة … للجنة سور
ويعود الطفل "الباشا" مع نوبة الانبساط بكل ما يحمل من خفة ودهشة ورشاقة:
في الهوّ ماشى يا بهلوان إش إش
يا فراشة منقوشة على كل وش
شقلبت عقلي وعقلي شقلبني
وكنت باحسبني بقيت ما اندهشّ
وتنطلق موجات الغرائز وينشط الإدراك الحسِّي في لحظة انبساط جامحة:
غطس وقب الموج نهود بمبي
من ألف جيل جمالات ما تعلم بي
يا قلبي عيب دول أمهاتنا القدام
أستغفر الله العظيم ربي
ثم يعاوده الاكتئاب ويهدده دائماً وكأنه القاعدة في هذه الحياة وبين كل البشر:
إيه اللي خدته من مرور السنين
يا قلبي إلا دمعتك والأنين
بتئن وبتفرح وترجع تحن
مع إن مش كل البشر فرحانين
ويشعر بتفاهة الحياة وعدم جدواها وثقل خطواتها:
مركب ورق من نفخة تتطوح
ركبتها والكل بيلوّح
سوّحت فيها اتنين وخمسين سنة
للآن … ولا بتغرق ولا تروّح
ويتزايد لديه الإحساس بفقد السيطرة على مشاعره وتحدوه الرغبة في التخلص من كل ذلك ويلوح أمامه طريقان لذلك: الطريق الاختياري (الانتحار) والطريق القدري (الموت). وفي النهاية تلح عليه تساؤلات وجوديه عميقة يخلص منها إلى حالة احتواء للروح في البدن في الوطن وتحدث حالة من التواجد بين كل هؤلاء:
قالوا ابن آدم روح وبدنه كفن
قالوا لأ بدن . قالوا لأ ده روح في البدن
رفرف فؤادي مع الرايات في الهوا
أنا قلت لأ روح في بدن في وطن
وفي كل ما سبق نجد صلاح جاهين يواكب تقلباته الانفعالية بين المرح والاكتئاب بصدق وعمق ويرسل نبضات إبداعية رائعة في كل الحالات وكان بذلك يتعامل مع اضطراباته الوجدانية كربان ماهر يقود سفينته فوق سطح الأمواج.
والحذر في مثل هذه الحالات أن نتعامل معها بالمنطق الطبي التقليدي فنسارع باستخدام مثبتات المزاج "Mood Stabilizers " أو الأدوية الأخرى التي يمكن أن تطفئ هذا النبض الإبداعي الحي في سبيل الوصول إلى حالة من الثبات الإكلينيكي الميت والبارد.
واقرأ أيضًا:
بائع الورد : قراءة في شخصية عمرو خالد / سعاد حسنى والجرح النرجسي