كنتُ أظنُّ كما يظنُّ كثيرون في مجتمعاتنا العربية أن الناس في المجتمع الغربي مقتنعون مقبلون على الطبيب النفساني كما تظهرُ لنا الأفلام الأجنبية والمسلسلات التليفزيونية!.
وكنتُ أعتقدُ أن النظرة السلبية للطب النفسي هيَ سمةٌ من سمات مجتمعاتنا العربية لأن كل شيء من حولي يشيرُ إلى ذلك، إلا أنني عندما قرأت معطيات التراث الغربي في الطب النفسي وجدتُ أن وصمة المرض النفسي ووصمة الطب النفسي والطبيب النفساني بالتالي، إنما هيَ مكونٌ أساسيٌّ في الفكر الغربي على مر العصور، بينما هي في تراثنا العربي غير موجودةٍ إلا لماما، وإذا حقيقة الأمر هيَ أن الأفلام والمسلسلات التليفزيونية الأجنبية تلك إنما هيَ موجهةٌ أصلاً للمجتمع الغربي لمحاربة التوجه السلبي نحو الطب النفسي والمرض النفسي والمتأصلةُ أصلاً في ذلك المجتمع!
وبينما يحاولُ المفكرون في الغرب إيهامنا بأن التوجه السلبيَّ تجاه المرض النفسي والطب النفسي بالتالي إنما هو توجهٌ عالميٌّ نبعَ في كل مجتمعٍ على حدة، تبينَ لي أن الحقيقة هيَ أنهُ نبعَ من عندهم وانتقل إلينا، ولو أننا بحثنا في تراثنا العربي لوجدنا ما يشير إلى توجه آخر وتصورٍ آخر مختلف بالفعل عما أخذناه غافلين عن الغرب!!.
وسأحاول في هذا المقال الإجابة عن سؤال طالما حاولت الإجابةَ عنهُ وهو ما سببُ النظرة السلبية التي ينظر بها الناس إلى الطب النفسي؟ وأتمنى أن أكون موفقًا في إجابتي هذه، ولابد عند الحديث عن سبب رفض الناس في مجتمعاتنا للطب النفسي أن نتعرض لمفاهيم عديدة تتعلق بالجن والمس واللبس والعلاج بالرقية أو بالقرآن الكريم، وكذلك علاقة التدين بالمرض النفسي، وما يعتقده كثيرون من أن المرض النفسي لا يصيب المؤمن القوي وكلها مفاهيم تشيع بين الناس في بلادنا مثقفين وغير مثقفين، وللأسف فقد أعرضَ الأطباءُ جميعا عن مناقشتها معتبرينَ أنها من سمات المجتمع الغافلِ الذي لا يعرف شيئًا عن العلم الحديث وأنا أقول أنَّ جزءًا كبيرًا من المسؤولية هنا قد تخلَّى عنه الأطباءُ المسلمون وكأنهم يتركون الباب مفتوحاً لغيرهم ممن لا يعلمُ إلا الله مدى صدق نوايـاهم ويعلم الجميع مدى قصورهم في المسائل الطبية والأعراض النفسية.
0المجتمع الإسلاميُّ (أو الشرقيُّ بصفةٍ عامة) الذي نعيشُ فيه مجتمعٌ تراحميٌّ في المقام الأول، صحيحٌ أننا مع الأسف الشديد أصبحنا نفقدُ تلك الصفة الاجتماعية بالتدريج في الفترة الأخيرة، إلا أنني أتكلمُ عن جذور المفاهيم التي كانَ يقومُ عليها مجتمعنا، ولعلَّ في المثال التالي ما يؤكدُ هذا الكلام: فمما هو مشهورٌ بينَ الأطباء النفسيين من أن الكثيرين ممن يعتبرهم أهلنا في الريف أناسًا "مبروكين"، أو "مجذوبينَ" أو "شيوخًا" إنما هم مرضى باضطراب الفصام المزمن أو النقص العقلي الخفيف -وهذا أمرٌ لا أنفيه لأنهُ صحيحٌ بالفعل- ولكنني أريدُ من القارئِ أن يستنتجَ معي من ذلك أن المريضَ النفساني كثيرًا ما يحتضنهُ مجتمعنا خاصةً في الريف فيتعاملُ معه على أنهُ مجذوبٌ أو مبروكٌ إلى غير ذلك من المفاهيم التي تحملُ طابعًا تراحميا، بالرغم من أن البعض قد يستخدمُ نفس هذا المثال ليبينَ جهل المجتمع بالطب النفسي.
فإذا نظرنا إلى الأصل اللغوي العربي لمجنون وهو "جِـن"، وهو نفس الأصل لكلمات مثل الجنة والجنين والجُنَّةِ أو الستر وكذلك الجان أو الجن فأما يشير إليه الأربعة معانٍ الأوائل فكله إيجابي إلى حدٍّ كبيرٍ فالمجنون هو ذلك المجدِّدُ والمبدع والذي يحاول أن يُغَـيِّرَ من حال الركود الذي تعيشهُ أمتهُ أيْ أن المفهوم لم يكن سلبيًّا تماما، إلا أنها كذلك أصل للفظة الجن أو الجان وهذا سبب من أسباب المشكلة حيث يربط البعض بين الجن والجنون !
ومفهوم الجان في الإسلام إنما يشير إلى نوع من المخلوقات يقابل النوع البشري وليس فيه ما يشين ولا يعيب حتى أن الإسلام كدين إنما أرسل للجن كما أرسل للإنس وإن كان هناك بالطبع ما يخيف في مفهوم الجن لكونهم كائنات غيرُ مرئية ولها قدرات تفوق قدرات البشر، ولذلك فإنهُ وإن كان البعض قد رأى أن سبب الجنونِ هو تسلط الجان على المريض فإنَّ نظرة الإسلام إلى الجان كأمة مثل أمة الإنس حمتِ المرضى النفسيين من أن يحرقوا أو يعذَّبوا أو يبعدوا لأن أرواحا شريرة تسكُنهم فليس كل الجان أشرار في الفهم الإسلامي.
ولذلك عومل المريض النفسي كما يعامل أيُّ مريض فكان المريض النفسي يُعالج في مستشفى بغداد وفي مستشفى قـلاوون بالقاهرة في القرن الرابع عشر جنبا إلى جنب مع مريض الجراحة والباطنة والرمد وهذا هو ما احتاج الغرب ستة قرون لكي يصلوا إليه على أنه أحدث الصيحات في علاج المريض النفسي مع غيره من المرضى لما لذلك من أثر جيد في تصحيح المفاهيم التي ترى المرض النفسي مجلـبةً للعار وتفصل بين المريض النفسي وبين سواه من المرضى مما يسبب إعاقة اجتماعية بعد الشفاء أكثر من المرض نفسه!.
وما أقوله هنا يشهدُ به كثيرون في الغرب ومن بينهم أحد المتحيزين لليهود، إذ يقول جان شارل سورنيا في كتابه تاريخ الطب الذي ترجمه د.إبراهيم البجلاتي (سلسلة عالم المعرفة 281): وهو يتحدثُ عن المستشفيات التعليمية في بلاد المسلمين: "كانت هذه المنشآت الفسيحة تنقسم إلى أجزاء، واحدٌ منها لمرضى العقل (المعتوهين)، إضافة إلى صيدلية، ومكتبةٍ، ومسجدٍ صغيرٍ ومدرسة قرآنية"، ومشهور كيف كانت تقسم مستشفى قلاوون في القاهرة وكيف كان التعامل مع المرضى النفسانيين واحدا من أرقى صور التعامل الإنساني.
وأما في أوروبا فقد كان علاج المرضى النفسيين في القرون الوسطى يتم على يد رجال الكنيسة، ولذلك انتشرت الخرافات وساد التطرف بالإيمان في الأمور الغيبية كالسحر وتلبس الجان وقد كان يتم احتجاز المرضى النفسيين آنذاك في أماكن سيئة ومعزولة، لأنهم قد لبِسَتْهُم الأرواحُ الشريرة وكان البعض يتم التخلص منهم بالحرقِ والبعضُ الآخرُ يتعرضون لأسوأ أنواع المعاملة مثل التقييد بالأغلال المثبتة في الجُدْران أو الأشجار لفترات قد تصل إلى عشرات السنين مما أدى إلى ركود الأبحاث في الطب النفسي وإلى تخلفه عن كافة فروع الطب الأخرى، وبالتالي عدم إدراك الناس لحقيقته ومدى فائدته إضافة إلى ذلك فإن الصراع بين العلم والكنيسة في أوروبا في القرن الماضي ربما كان أحد الأسباب الأساسية في رفض الناس للطب النفسي، فبينما استطاعت جميع العلوم تقريبا أن تثبت مكانتها وجدارة علمائها مقابل عجز وتخلف رجال الكنيسة -الذين كانوا وللأسف يعتبرون رمزا للدين وأهله في ذلك الوقت في حين عجز الطب النفسي أن يحقق ذات المكانة، وأن ينجح بنفس الجدارة التي نجحت بها غيره من العلوم.
وإحقاقا للحق فإن تاريخَ الكنيسة القبطية المصرية، وذلك حسبما تمكنتُ حتى الآن من الوصول إليه، مُخْتلفٌ عن تاريخ الكنيسة الأوروبية، وَهُوَ تاريخٌ يدلُّ بوضوحٍ على نظرةٍ ومعاملة تنمُّ عنِ العطف على المرْضَى النفسيين واعتبارهمْ مرضى، ومُخْتلفينَ بالتالي عنْ من تسكنهم الأرواحُ الشريرة، وعليه فلمْ تكنْ في بلادنا أيُّ مبادئَ للموقف السلبي من المرض النفسي لا من جذورنا القبطية ولا من جذورنا الإسلامية، إلا أن صدارَة أوربا ثقافيا في العالم أدت إلى انتقال نظرة الرفض للمرضِ والمريض النفسي وللطب/الطبيب النفسي إلى الشعوب التي مازالت في بدايات التحضر (العالم الثالث)، والتي رفضت الطب النفسي ربما بدرجة أكبر مما حدث في أوروبا، خاصة وأن كثيرا من الأطباء النفسيين الأوائل في بلادنا تلقوا تعليمهم في الغرب، فمنهم من عاد إلينا نسخةً من معلميه يؤمن بما يؤمنون به ويكفرُ بما يكفرون، وأما أكثر الأطباء النفسيين المسلمين فقد كانوا يهزون أكتافهم أمام نظرة رفض المجتمع لهم تاركين الأيام لكي تبيِّنَ قيمَتَهُمْ للناس وقد اقتنع معظمهم بأن سبب رفض الناس هو تخلف المجتمع!.
وهم بالتالي لم يحاولوا لا إفهام الناس ولا البحث في تراثنا لتأصيل الطب النفسي، يضاف إلى ذلك قيام المعالجين التقليدين (الشيوخ وغيرهم) بتشويه صورة الطب النفسي وعقاقيره وأدوات علاجه، وبينما الشيوخ يكلمونَ الناس بلغة يفهمونها كان الأطباء النفسيُّون في أبراجهم العاجية عاكفين على الصمت، ثم أضيفَ بعد ذلك أثر الصحوة الإسلامية غير الموجهة التي تخللت أرجاء العالم الإسلامي بداية من الربع الأخير من القرن العشرين، واجتذبت كثيرين من الشباب اللذين اتخذوا مواقف عدائية من كل ما يبدو غربيَّ المنشأ حتى ولو كان كونه غربي المنشأ محض ادعاء مثلما هو الحال في التعامل مع المرض النفسي، إضافةً إلى اختلاط الأمر عليهم فيما يتعلق برد الأمراض النفسية كلها إلى مفاهيم كاللبس والمس والحسد وغير ذلك مما ننصح للفصل فيه بقراءة ما نشر على مجانين نقطة كوم، وذلك تحت التصنيف: نفس اجتماعي: سحر وحسد وتلبس، جهل نفسي
*فهل يُمكنني الزعم بأن هذه النظرةَ الرافضة والمتجنبة للطب النفسي قدْرَ الإمكان إنما جاءت إلى مجتمعاتنا مع الكثير مما جاء من أفكار وتوجهات ومشاعر الغرب بينما نحن مفصولون عن تراثنا أو نأخذه عنهم! وكأنما توقفَ العقل العربي عن التواصل مع تاريخه لقرون طويلة، ولو أننا بحثنا في تراثنا العربي لوجدنا ما يشير إلى توجه آخر وتصورٍ آخر مختلف بالفعل عما أخذناه غافلين عن الغرب!!، فهل نحن فاعلون؟ أسأل الله أن يمنحنا العون وأن يهدينا سواء السبيل.
واقرأ أيضاً:
الإعلام والإساءة للطب النفسي / كيف نعالج مرضانا؟؟ / الطبيب النفسي سيدخلك في الدوامة! فاحذرْ منه!! ××
التعليق: من حقك أن تكتب ما شئت كيف شئت، ومن حقي أن أؤيده أو أصفه، كما هي الحالة هذه المرة، بأنه كلام فارغ..
المرض النفسي وصمة في مجتمعاتنا ولم نستورد ذلك من الغرب، وكفانا سخافات نظرية المؤامرة التي أبقتنا في ذيل الأمم.. شتائم ابن حجر للموسوسين لا تزال ماثلة في الأذهان، والنظرة السيئة لهم تتنوع ما بين الجنون والكفر خاصةً إذا ما تعلق الأمر بالوسواس الديني الكفري (وبلاش تقول لي مش موجود)..
قس على ذلك باقي الأمراض النفسية التي يتم تصنيف أصحابها في خانة "عندهم لطف في نافوخهم" و"مجانين"..
ولو ذهب الشخص إلى الطبيب النفسي تكون المصيبة أكبر، حيث يعتبر ذلك الأمر سابقة كأي سابقة جنائية عادية، ويكون له أشد وأسوأ الآثار على التواصل الاجتماعي مع الغير وعلى فرص الزواج وغيرها..
نحن مجتمع يكره بعضه بعضاً، نتحدث كثيراً في الدين ونختزله في طقوس عبادية كانت أو بدعية، لكن مكون الكراهية عندنا عال ومخيف، والوصم الاجتماعي أحد أسهل وسائل وطرق تنفيس الكراهية ضد الغير، أي غير كان..