في الأحوال العادية يستقبل الطفل المولود بفرحة وتضاء له الشموع ويحاط بالرعاية في حضن أمه وفى كنف أبيه ويكبر في جو من الحب والقبول ويشعر بالانتماء لأسرته وعائلته ويفخر بذلك الانتماء وتتحدد عليه هويته.
ولكن للآسف في حالات أخرى يستقبل الطفل بالاشمئزاز والنفور ويتم التخلص منه فور ولادته بوضعه على أحد الأرصفة أو بجوار سله مهملات أو على باب أحد دور العبادة، ويترك لعده ساعات أو أيام بدون غذاء أو رعاية في ظروف جوية قاسية حتى يعثر عليه أحد فيبدأ مشوار العناء حيث تتناقله أياد كثيرة من الشخص الذي عثر عليه إلى قسم الشرطة إلى دار الرعاية إلى المرضعة ثم إلى دار الرعاية ثم إلى أحد الأسر.....
وهكذا لا يذوق هذا الطفل المسكين طعم الاستقرار أو الراحة أو الأمان، وهو يدفع ثمن خطيئة أبويه بلا ذنب جناه، وفى أحيان أخرى يموت الأبوين أو أحدهما فيجد الطفل الضعيف نفسه بلا رعاية ولا مأوى فيواجه نفس مصير الطفل اللقيط، ولكن في هذه المرة بسبب الموت أو الفقر الذي لحق بالأبوين. ولدراسة هذا الموضوع من الجانب النفسي يحسن بنا استعراض بعض التعريفات والأحكام الخاصة بهذا الموضوع:
0 اللقيط: هو الطفل غير البالغ الذي يوجد في الشارع أو ضال الطريق ولا يعرف نسبه.
0 حكم التقاطه: والتقاطه فرض من فروض الكفاية، كغيره من كل شيء ضائع لا كافل له، لأن في تركه ضياعه.
0 من الأولى باللقيط: والذي يجده هو الأولى بحضانته إذا كان حراً عدلاً أميناً رشيداً، وعليه أن يقوم بتربيته وتعليمه.
0 النفقة عليه: وينفق عليه من ماله إن وجد معه مال، فإن لم يوجد معه مال، فنفقته من بيت المال، فإن لم يتيسر فعلى من علم بحاله أن ينفق عليه.
0 ميراث اللقيط: وإذا مات اللقيط وترك ميراثاً ولم يخلف وارثاً كان ميراثه لبيت المال، وكذلك ديته تكون لبيت المال إذا قتل، وليس لملتقطه حق ميراثه.
0 ادعاء نسبه: ومن ادعى نسبه من ذكر أو أنثى ألحق به متى كان وجوده منه ممكناً، لما فيه من مصلحه اللقيط دون ضرر يلحق بغيره، وحينئذ يثبت نسبه وإرثه لمدعيه (سابق 1987).
0 التبني: هو العملية التي توكل فيها رعاية الطفل إلى واحد أو أكثر من الراشدين كي يعيش في أسره بديله ليست هي أسرته البيولوجية ولكنها أسرته بموجب القانون حيث يتم نسبه قانوناً إلى هذه الأسرة. ولا يجوز أن ينسب الطفل لأحد إذا كان نسبه معلوماً من قبل تطبيقاً لقول الله عز وجل في الآية الخامسة من سورة الأحزاب:"ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً".
0 الكفالة: هي أن يقوم شخص راشد أو أسره برعاية طفل دون أن يحمل الطفل أسم الشخص أو اسم الأسرة كأن يكون الطفل معلوم النسب مسبقاً أو أن الكفيل لا يرغب في التبني.
0 الأسرة البديلة: هي أسره لا ينتمي إليها الطفل بيولوجياً، ولكنه يعيش في كنفها وربما يحمل اسمها فيكون متبنى أو لا يحمل اسمها فيكون مكفولاً.
وعمليتي التبني والكفالة يتوقع أن تزدادا بشكل مطرد في العقود القادمة نظراً للتغيرات الاجتماعية والأخلاقية الحالية والمتوقعة والتي أدت إلى ضعف نسبى في الروابط الأسرية وزيادة معدلات الطلاق والعلاقات غير الشرعية. والسؤال الهام الذي يحير الناس في هذا الموضوع هو: متى نخبر الطفل بحقيقة نسبه؟
والإجابة تتوقف على عوامل كثيرة، ولكل حالة السيناريو المناسب لها، ولكن الخبرة أثبتت أنه من الأفضل أخبار الطفل فيما بين الثانية والرابعة من عمره بشكل بسيط متدرج يستوعبه عقله الصغير، فيقال له إن أبوه وأمه قد ذهبا بعيداً وأن من يقومان على رعايته الآن يحبانه مثل أبويه تماماً ولن يتخليا عنه أبداً، وذلك حتى لا يعلم الطفل بحقيقة نسبه من خارج الأسرة فيشعر عندئذ أن أسرته بالتبني قد أخفوا عنه الحقيقة وأن أسرته الأصلية قد نبذته. (Kaplan, Sadock and Grebb, 1994).
وبعض الأسر تؤجل ذلك حتى سن السابعة أو الثامنة حتى يستطيع الطفل استيعاب الموقف بشكل أفضل، وبعض الأسر تؤجل ذلك حتى يكبر الطفل ويصل إلى مرحلة الشباب ويصبح قادراً على الاستقلال والاعتماد على نفسه، وفى كل الحالات يجب مواجهة الآثار التي تترتب على معرفة الشخص بحقيقة نسبه ودعمه نفسياً حتى يتجاوز هذه المحنة.
الحالة النفسية للأطفال المتبنين (أو المكفولين):
هؤلاء الأطفال تزيد بينهم الاضطرابات الانفعالية والسلوكية مقارنة أقرانهم، مثل السلوك العدواني والسرقة، وصعوبات التعلم. ووجد أنه كلما كان التبني في سن متأخرة كلما كانت هذه الاضطرابات أكثر احتمالاً وأكثر شدة. وهذه الاضطرابات لها جانب وراثي وجانب مكتسب.
أما الجانب الوراثى فيعود إلى النشأة البيولوجية لهذا الطفل، فقد وجد أن النساء اللائي يحملن سفاحاً يكنّ أقل ذكاءاً على وجه العموم حيث يتراوح ذكاءهن من83 إلى 96، وهن من طبقات دنيا في الأغلب، ويرتبط الحمل سفاحاً بسمات مرضية في شخصية المرأة يمكن أن يرثها الابن أو البنت (الحنفي، 1992).
أما الجانب المكتسب فيتمثل في حالة القلق والاكتئاب التي تعترى الأم منذ بداية حملها بهذا الجنين غير الشرعي، وتترجم هذه الاضطرابات النفسية في صورة تغيرات كيميائية تؤثر في نمو الطفل وحالته الوجدانية. وربما تكون هناك محاولات إجهاض متكررة، وإذا لم تنجح هذه المحاولات ووصل الجنين إلى مرحلة الولادة فإنه لا يستقبل بالفرحة ولا تضاء له الشموع وينعم بالدفء، بل يتم التخلص منه بإلقائه في الشارع، كل هذا لابد وأن يترك بصماته في شخصية هذا الطفل فيما بعد. يضاف إلى ذلك عدم وجود رعاية عاطفية تلبى احتياجات هذا الطفل، وتعرضه للإهمال والنبذ في بقية مراحل طفولته.
وإذا تربى في دار للرعاية فإنه يفتقد جو الأسرة الحاني ويفتقد الهوية الأسرية والانتماء لأب وأم وعائلة ويعانى من الوصمة الاجتماعية بوصفه لقيطاً أو منبوذاً من أسرته الأصلية لأسباب أخلاقية أو مادية.
مزايا وعيوب الأسرة البديلة:
وإذا حدث وتم إلحاق هذا الطفل بأسرة سواء كان ذلك بالتبني أو الكفالة فإنه يحصل على ميزة تربيته في جو أسرى يشعر فيه بالحب والانتماء. والاتجاه الحديث الآن هو إلحاق هؤلاء الأطفال بأسر بديلة على أن تتكفل المؤسسات الاجتماعية بالإنفاق عليهم، وهذا يشجع الأسرة على تقبلهم. ويتم ذلك بناءاً على عقد بين دار الرعاية والأسرة، وذلك بعد دراسة أحوالي الأسرة والاطمئنان على سلامتها من الناحية الاجتماعية والأخلاقية وذلك بواسطة الأخصائيين الاجتماعين والنفسيين. وقد نجحت هذه التجربة في بعض الدول المتقدمة حتى وصلت إلى توفير أسر بديلة لـ90% من الأطفال المقيمين في دور الرعاية، وقد حُول جزء كبير من ميزانيات دور الرعاية إلى الإنفاق على هذه الأسر البديلة. (Carson, Butcher & Coleman, 1988)
وهناك عدة احتمالات وراء قبول الأسرة لتبنى أو كفالة هؤلاء الأطفال نذكر منها:
1- الاستفادة المادية من العون الذي تقدمه المؤسسات الاجتماعية لهم مقابل كفالتهم للطفل.
2- حل مشكلة العقم في الأسرة باستحضار طفل يرضى دوافع الأمومة والأبوة داخل الأسرة. وفى هذه الحالة يستخدم الطفل لحل مشكلة الأسرة وليس العكس.
3- الشفقة والرحمة تجاه هذا الطفل وعدم انتظار أي مكافأة دنيوية.
وفى كل الحالات ربما يعانى الطفل مشكلات تربوية في أسرته البديلة يمكن إجمالها كالتالي:
1) التدليل: وخاصة إذا كانت الأسرة قد عانت لفترة طويلة الحرمان من طفل بسبب العقم ، فيحتمل أن يحوطوا هذا الطفل القادم بالتدليل وتحقيق كل رغباته فينشأ أنانياً كثير المطالب ، غير قادر على تحمل المسئولية.
2) الحماية الزائدة: وخاصة إذا كانت الأم البديلة لديها سمات عصابية تجعلها شديدة الحرص وشديدة الخوف عليه، فتحوطه في كل حركاته وسكناته فينشأ إعتمادياً خائفاً، أو يتمرد بعد ذلك على تلك الحماية وخاصة في فترة المراهقة، فيصبح عدوانياً ثائراً.
3) الإهمال: وهذا يحدث في حالة الأسرة التي تكفل الطفل مقابل مكافأة مادية، فغالباً لا يكون لديهم عطاء عاطفي لهذا الطفل، وهذا الإهمال يجعله ينشأ منطوياً حزيناً فاقداً للثقة بنفسه وبالناس.
4) النبذ: وهو يحدث شعورياً أو لا شعوريا نتيجة الوصمة الاجتماعية التي يحملها هذا الطفل لكونه لقيطاً أو منبوذاً من أسرته الأصلية. وهذا النبذ يجعله مليئاً بالغضب والميول العدوانية نحو الآخرين.
5) الغيرة: وتحدث غالباً في فترة المراهقة، فإذا كانت المتبناة بنتاً فربما حدثت غيرة من الأم البديلة تجاهها حيث تخشى حدوث ميل عاطفي أو غيرة بين البنت وبين أبوها بالتبني (فيلم العذراء والشعر الأبيض)، وإذا كان المتبنى ولداً حدث العكس. وهذه الغيرة ربما لا تظهر بشكل مباشر وإنما تظهر في صورة اضطراب في العلاقات ربما تصل إلى محاولة التخلص من هذه البنت المراهقة(المشكلة) وأحياناً يتم التخلص منها (أو منه) بشكل عدوانى كما حدث في حالة عرضت علىّ حيث قررت الأم إخبار ابنتها بالكفالة بشكل مفاجئ بأنها لقيطة وأنها يجب أن تعود إلى دار الرعاية في هذه المرحلة، وأصرت على ذلك، وقد ألحق ذلك إيذاءاً نفسياً شديداً للبنت حيث فقدت انتماءها الاجتماعي في لحظة وغارت الأرض من تحت قدميها وفقدت هويتها واضطربت كل حساباتها وتوقعاتها من الحياة وبين يوم وليلة انتقلت من منزل دافئ وأسرة محترمة إلى دار رعاية باردة الأركان وباهتة الملامح وتحمل معها وصمة اجتماعية وأخلاقية تمنعها من القدرة على الذهاب للجامعة ولقاء صديقاتها ومعارفها. وهذا نوع من العدوان وحكم الإعدام ممارسة الأم بالتبني بدافع الغيرة.
6) التفرقة في التعامل: وإذا كان المتبنى(أو المكفول) يعيش في أسرة بها أطفال آخرين من صلب الأب والأم فغالبا ما تحدث تفرقة في المعاملة تؤدى إلى شعوره بالاختلاف والنبذ والظلم وعدم الأمان (فيلم الخطايا).
سيكولوجية التعلق:
وهناك نقطة هامة لابد من مراعاتها في التعامل مع الطفل، وهى ما يعرف بـ"سيكولوجية التعلق" حيث يميل الإنسان إلى التعلق الوجداني بأشخاص معينين يقومون على رعايته ويميل إلى استمرارية هذا التعلق حتى يستشعر الطمأنينة والأمان، لذلك لا يجب قطع تعلقاته من وقت لآخر وبشكل مفاجئ، وهذا يحدث كثير – للأسف – لهؤلاء الأطفال، حيث تنتقل كفالتهم عدة مرات من الأم الأصلية إلى الشارع ثم إلى قسم الشرطة، ثم إلى دار الرعاية، ثم إلى مرضعة تكفله حتى سن سنتين حتى يتعلق بها كأم فينتزع من حضانتها ويلقى به مرة أخرى في دار الرعاية، ثم تأتى أسرة بديلة تأخذه لعدة سنوات فيتعلق بها ثم يفاجأ بعودته قسراً مرة أخرى إلى دار الرعاية … وهكذا. وهذا التقلب يحرم الطفل من التعلق الدائم الذي يمنحه الشعور بالانتماء والأمان.
والطفل المتبنى (أو المكفول) بعد أن يعرف حقيقة تبينيه (أو كفالته) تحدث لديه ازدواجية في الانتماء يحسدها في خياله بين الأبوين الحقيقيين والأبوين المتبنيين، وأحياناً يحدث صراع بين هذين الانتماءين، وربما يحل هذا الصراع بتوجيه عدوانه إلى أحد طرفي الصراع. وبما أن الأبوين الأصليين غير متاحين فهو غالباً يخرج عدوانه نحو الأبوين المتبنين، وقد رأيت شاباً رباه شخص غير أبوه وأحسن معاملته حتى أصبح طبيباً ولكنه كان يشعر ناحيته بمشاعر عدائية لا يعرف لها سبباً.
ويظل الطفل المتبنى يحلم برؤية أبوية الأصليين ويسعى لذلك كثيرا وحين يقابلهم أو يقابل أحدهم لا يشعر ناحيتهم بمشاعر قوية ولكنه يطمئن إلى هويته واصله ويجب أن يحتفظ بعلاقة ما تضمن له استمرار ذلك على الرغم من عدم شعوره بالحب لهم.
وهنا يتساءل البعض هل من الأفضل رعاية الطفل في دار رعاية أم في أسرة بديلة؟
والإجابة على هذا السؤال تضع في الاعتبار الأول مصلحة الطفل وظروفه، فدار الرعاية لا تعطى للطفل الجو الأسرى الطبيعي حيث يتجمع عدد كبير (غالباً) من الأطفال يقوم على رعايتهم عدد من الموظفين يقومون بأدوارهم غالباً بشكل مهني ربما يخلو من الجانب العاطفي.
ومن يزور هذه الدور فسوف يجد أطفالاً خلت عيونهم من بريق الحب والحنان الذي حرموا منه، وهم معزولون عن المجتمع طول الوقت، واذكر في أحد الزيارات وجدت أن أقصى ما يتمناه هؤلاء الأطفال هو أن يحملهم الزائرين لكي ينظروا من الشباك ويشاهدوا الناس والسيارات والشوارع، فإلى هذا الحد يعانون من الحرمان الحسي والعاطفي، ولا يعوض هذا الحرمان زيارة بعض أصحاب القلوب الرحيمة لهم، فهم يعيشون في دار الرعاية بلا روح وحين يزروهم أحد يندفعون نحوه وينادون "بابا" لأي رجل و "ماما" لأى امرأة دون أن تحمل هذه الكلمات المعنى العميق لها في نفوسهم كما هو الحال في الأطفال الذين يعيشون في كنف أسرهم يتمتعون بالحب والتدليل والرعاية من أبويهم، وعزلة هؤلاء الأطفال عن المجتمع تجعل لديهم صعوبات في التكيف حين يكبرون.
لذلك تزايدت المطالبة في كل دول العالم بتهيئة رعاية مناسبة من خلال الأسر البديلة على أن يتم ذلك بعناية شديدة وبعد دارسة أحوال وظروف هذه الأسر البديلة واستمرار متابعة أحوال الطفل داخل هذه الأسر بواسطة المؤسسات الاجتماعية المختصة حتى لا يتعرض الطفل لظروف غير مواتية.
ونحن في المجتمعات العربية الإسلامية لدينا تراث أخلاقي وديني يجعل لدينا ميل لاحتواء هؤلاء الأطفال وحسن رعايتهم حيث يقول رسولنا الكريم"خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يكرم"، ويقول أيضاً "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار بالسبابة والوسطى.
واقرأ أيضًا على مجانين:
الكـذب / كيف نمحو أميتنا التربوية ؟ / جيل الماوس والموبايل والريموت كونترول