هذا المقال ليس أكثر من بعثرةٍ لمجموعةٍ من الأفكار التي تعتريني واحدةً واحدةً منذ فترة، وكنت غالبا ما أرجئ كتابتها، لكن مقال براءات الاختراع غير بريئة!!، استفزني لكتابة ما أستشعرُ منذ فترة، فمن بين ما سأكتب هناك تساؤلات، وهناك ملاحظات عملية يشاركني فيها كثيرٌ من الأطباء النفسيين، وهناك ما أثبتته الدراسات الطبية العلمية، وهناك خلف السطور معاناة مرضى ومسئولية أطباء، وهناك ما أدريه وما لا أدريه بعد، وأنا أتساءل أكثر مما أقررُ حقيقة ما أو مجموعة حقائق، أتساءل-رغم معرفتي ببعثرة المقال- وأنتظر المشاركات، وأنا إن شاء الله جاهز -إذا دعوتم لي- للرد والتعليق على مشاركاتكم، فليست هذه المقالة الطويلة العريضة غير ومضات خاطفة تحتاج كل منها إلى مقال على الأقل وربما أكثر، وأسأل الله أن يُكثِّر.
0 دخلت عليَّ واحدةٌ من مندوبات الدعاية ورفعت في وجهي مطوية الدعاية Brochure لتريَني الصورة في أول صفحات المطوية وتسألني: هل وصلني الموقفُ الصعبُ الذي تقفُ فيه المعلمة؟ والحقيقةُ أنني أعطيتُ إيماءةً برأسي لتكملَ(وكان ما وصلني فقط هو أن الفصل نظيفٌ وملون،..... يبدو أنني قارنته بالفصول على أيامي!!) المهمُّ أنها تابعت كلماتها لتزفَّ لي بشرى انتهاء معاناة ستة ملايين مستخدمٍ للعقَّار الجديد الذي يحل لأول مرة مشكلةَ المثانة مُفْرِطَةِ النشاط Overactive Bladder وأن ملايينَ أخر على مستوى العالم ينتظرون وصفات أطبائهم النجباء، ونصحتني بأن أتخيل أن واحدة من كل خمس نساء فوق سن الأربعين تعاني من المثانة مفرطة النشاط، وهنا اضطررتُ إلى الاعتراف بأنني لم أفهم الصورة التي عرضتها في البداية، وحملقتُ مرةً أخرى في الصورة وقلتُ لها معذرةً وضحي لي!(لم أنتبه لخط الطباشير المائل الذي تكتبه المعلمة بيمناها، ولا لِكَزِّ المعلمة بيدها على حامل الطباشير) فراحت تشرح لي كيف أن المعلمة غلبتها قطراتٌ من البول في ذلك الموقف، ولاحظت الطالبات ذلك ورحن يتغامزن ويتضاحكن.......، فكرت بعد ذلك في أمورَ كثيرة ومواقف خبرتها على مدى سنوات من العمل كطبيب نفسي.
وراحت ضيفتي المدربة جيدا تحاصرني بمعلوماتها وتقول: قد تلحظُ أن واحدة من مريضاتك تعتذرُ أثناء جلسة العلاج النفسي لقضاء حاجتها، أو قد تشتكي لك واحدةٌ منهن من قيامها مرتين أو أكثر من نومها لتتبول، أو من أنها تتبول أكثر من ثمانية مرات خلال أربعة وعشرين ساعة، عليك أن تسألها لتحكي لك أكثر عن تلك المشكلة، فهناك من تعانين في صمت، وهناك من تفلت منهن بعض القطرات، ولا يشتكين بسبب الخجل، وأن المثانة مفرطة النشاط والتي عرفنا أعراضها إنما تكونُ بسبب أن المثانة لسبب أو لآخر تستجيب لمجرد تجمع خمس الكمية المطلوبة من البول بنفس طريقة استجابتها لامتلاء المثانة فترسل للمخ وتستقبل وربما فقدت المريضة التحكم وأفلتت منها قطرات؛
وقد تتداخل تشخيصيا وعرضيا مع حالات سلس الضغاط Stress Incontinence والناتج غالبا عن ضعف العضلات الداعمة للمبال Urethera، مما يجعل السعال أو الضحك أو العطس أو حملُ شيءٍ ثقيلٍ، كل ذلك قد يؤدي إلى انفلات قطرات من البول، وكثير من الحالات يكونُ فيها كلٌّ من سلس الضغاط والمثانة مفرطة النشاط في نفس المريضة.
المهم أن المطلوب هو أن تساعد في تعرية ما قد تخفيه المريضة وتتعايش معه، وتساعدها على البوح ثم تقدم لها المنتج الفذ المعجزة، وذكرتني بما لم أنسه وإن لم أفهم له سببا في وقتها من سحب عقاقير كنا نستخدمها لمريضاتنا إذا اشتكين من تلك المشكلة، وسحبت تلك العقاقير بلا سببٍ واضح وبعضها لنفس الشركة التي دربت تلك المندوبة، وقالت هي عندما سألتها أن ذلك كان لأنها عقاقير كثيرة الآثار الجانبية قليلة الأثر العلاجي وغير نوعية التأثير Nonspecific على المثانة مفرطة النشاط!
هنا تذكرتُ مجموع ما كان منذ فترة من مواقف مماثلة فعقاقير تجبُّ عقاقير لأن العقاقير الجديدة أكثر تخصصا وتمييزا على الهدف المطلوب علاجه، آثارها الجانبية أقل، وإزعاجها للمريض بالتالي أقل، وأثمانها لذلك أضعاف أثمان العقاقير القديمة، وكثيرا ما كنا نجرب الجديد مرارا على مرضانا فلا نلحظ فرقا كبيرا، اللهم إلا في حالات الوسواس القهري حيث مكنتنا عقاقير الماسا من الوصول بمرضانا إلى مستوى أفضل مما كنا نستطيعه باستخدام الماس، لكننا مثلا فيما يتعلق بعلاج الاكتئاب، ما نزال فعليا لا نملك عقاقير أفضل واقعيا من العقاقير القديمة ثلاثية الحلقة Tricyclic Antidepressants التي تعمل على كثير من الناقلات العصبية، ولعلني أكتب مقالا يوما ما في هذا الموضوع، لكنني أكتفي الآن بالإشارة إلى ما تشهده الأسواق (المصرية خاصة) من توقف إنتاج كثيرٍ من تلك العقاقير الرخيصة الثمن الجيدة الأثر العلاجي، وكثيرا ما تدور مناقشات بيني وبين أخي الدكتور أحمد عبد الله في هذا الأمر ويطالب كل منا الآخر ونفسه بضرورة التصدي لما يحدث في سوق الدواء المحلي (ومن ثم العالمي)، وهو ما يذكرنا بالمعاني التي تضمنها مقال براءات الاختراع غير بريئة!! ، لكن هذا أيضًا أمرٌ لعلنا سنرجع إليه في مقال منفصل.
0 إنما أنوي في هذا المقال أن أتحدثَ عن استنتاجٍ في منتهى الخطورة، وقد نتج عن ملاحظةٍ بعد ملاحظةٍ ثم ملاحظةٍ، وعلى مدى عقدٍ ونصف من سنوات العمل في مجال الطب النفسي، تميزت عن ما سبقها من عمر الطب النفسي وعلم الأدوية النفسانية التأثير Psychopharmacology بتعاقب العقاقير الواحد تلو الآخر، وهو تقريبا نفس ما حدثَ في معظم تخصصات الطب والجراحة، وإن بدت الوتيرة في الطب النفسي أكثر حدةً لأن التغير في العقاقير المستخدمة للعلاج تواكبت معه تغيرات في طريقة فهم الأطباء للأعراض وللأمراض نفسها، بدءًا من كيف تحدثُ ولماذا تحدثُ وحتى كيفَ تعالجها العقَّاقير، وتغيرت نظريات مثلما تغيرت عقاقير، حتى أصبحنا نستطيع أن نقول أننا كأطباء نفسيين نستطيع (بأمر الله) علاج كل أنواع الاكتئاب -على سبيل المثال- طمعا في شفائها بطرقٍ عديدةٍ وكلها فاعلةٌ في معظم الحالات ولكننا لا نعرف بالتأكيد كيف يحدثُ الشفاءُ من الاكتئاب، وليس لدينا سوى نظريات لكل منها ما يؤيدها (وهو كثير) وما يدحضها أيضًا لصالح عقَّارٍ آخر أحدثَ أو مجموعة عقاقير.
أي أننا نستطيع تشخيص وعلاج الاكتئاب لكننا لا نعرفُ بالتأكيد كيف يحدثُ المرضُ ولا كيف يحدثُ الشفاء منه، ولكن الغريب العجيب هو أن غياب التفسير هنا ناتجٌ عن تضارب مصالح شركات إنتاج العقاقير مدعوما بنتائج دراسات علمية تتم رعاية ما يستنبط منها من أفكار تخدم توجهات معينة، في مقابل نتائج دراساتٍ أخرى تخدم ربما طرق علاج لا تصلحُ للتسويق بنفس سهولة العقاقير وتتم تغطية نتائجها أو نشرها في نطاق ضيق قدر إمكان المتحكمين في عملية سيولة المعلومات التي تقدم للأطباء، وبرغم ما تدعيه معظم تلك الدراسات لنفسها من حيادية وموضوعية، فإن تحيز معظمها لم يعد خافيا على أحدٍ من الأطباء، حتى من غير المهتمين، -وهم كثيرٌ مع الأسف- والمهم أن هناك ما أستطيع تسميته بتشكيل وعي الأطباء، ومن خلالهم ربما تشكيل وعي المرضى.
ولا أنسى ملاحظةً قديمةً لاحظتها أثناء سنواتِ الإعداد لدرجة الدكتوراه، وهيَ أن الاهتمام البحثي بظاهرةٍ مَرَضِيَّةٍ ما إنما يجيءُ تابعا لاكتشافِ عقَّارٍ يؤثرُ فيها أو يعالجها بشكلٍ أو بآخر، وأن حجم ذلك الاهتمام يعتمدُّ لا على أهمية الظاهرة بالنسبة للمريض نفسه وإنما يعتمدُّ على قوة الشركة أو الشركات المنتجة للعقَّار أو العقَّاقير التي تؤثرُ في تلك الظاهرة، وكي أكونَ أكثر وضوحا فإنني سأحكي قليلاً عن مرض الفصام Schizophrenia : فقد كان العلاج التقليدي لذلك المرض هو استخدام مضادات الذهان التي تعمل من خلال تأثيرها المضاد للناقل العصبي "دوبامين Dopamine"، ولما كانت تلك العقَّاقيرُ تحدثُ تأثيرها الأكبر والأوضح على أعراض اضطراب الإدراك كالهلاوس Hallucinations بأنواعها، وبعض أعراض اضطراب التفكير كالأفكار الوهامية Delusions، فقد كان الاهتمام البحثي كله منصبا على الدوبامين، وكانت النظريات العلمية التي يتداولها الباحثون والأطباء وتمتلئ بها المراجع والدوريات الطبية هي أن زيادة الدوبامين هي المسئولة عن الأعراض الذهانية في اضطراب الفصام، وكانت الدراسات العلمية تبحثُ عن أفضل الطرق لتلافي الأعراض الجانبية لاستخدام مضادات الدوبامين تلك ومن أشهرها الأعراض خارج الهرمية Extra pyramidal Symptoms (كالرعشة Tremor والبطء الحركي Akinesia وربما التقلص العضلي Dystonia أو التململ الحركي "الزلز" Akathesia)، باعتبار أن استخدامها قدرٌ لا مفرَّ منه،
وأما ما غير ذلك من أوجه القصور في تلك المجموعة من العقاقير فنادرا ما كان يتكلمُ فيه أحد ونادرا ما كان يبحثُ فيه أحد، ولكن ما حدث في الآونة الأخيرة كان أن تم التركيز على فداحة وخطورة تلك الأعراض خارج الهرمية، كما بُرِّزَتْ كذلك بعضُ أعراض الفصام المزمن كالأعراض السالبة Negative Symptoms حتى أصبحت الأعراض تقسم تقسمُ إلى أعراض سالبة وأعراض موجبة Positive Symptoms وأصبح مرض الفصام نفسه يقسم على هذا الأساس، واتهمت العقاقير التقليدية بأنها تضخم مشكلة الأعراض السالبة بل وأنها قد تكونُ سببها في بعض الحالات؛
وهكذا فأثناء النصف الثاني من العقد الأخير من القرن العشرين، أصبحت تلك العقاقير الرخيصة الفعالة عقاقير "تقليدية" قديمة ينصح بعدم استخدامها ما استطاع الطبيب النفسي لذلك سبيلا فعليه أن يختار الأفضل لمريضه، وحاصرتنا الدوريات العلمية ومحاضرات المحاضرين النابغين عن عيوبها، وبرزت أو بُرِّزتْ عيوبٌ لم تكن تُبَرَّزُ من قبل، في نفس الوقت الذي قدِّمت فيه العقَّاقير غير التقليدية الحديثة بأسعار فوق طاقة المرضى وذويهم غالبا، فالعقَّاقير الجديدة تحسن كل الأعراض موجبة وسالبة، وتمنع التدهور المعرفي فتصلح بالتالي للطالب المريض وللطبيب والمهندس ورجل الأعمال المريض، كما أنها لا تحدث الأعراض خارج الهرمية، وبمنتهى الصراحة هي تمنح لا التخلص من أعراض الذهان فقط وإنما أيضًا جودة الحياة Quality of Life، وجودة حياة المريض طبعا تهمُّ الطبيب المعالج كما تهم المريض.
والمهم هو أن الأمر لم يقف عند حد جعل وعي واهتمام الأطباء منصبا على مجوعة معينة من الأعراض وإنما تعدى الأمر ذلك إلى محاولات عمل برامج توعية اجتماعية ضد الفصام، والدعاية للعقاقير الجديدة بين الناس العاديين في نفس الوقت، وكتبت مقالات في الجرائد الرسمية حتى أصبحنا نواجه أسئلة المرضى عن العقار السحري الجديد الذي يحلُّ مشكلة الفصام، فكم من الآباء والأمهات كانوا على استعداد لعمل أي شيء وتحمل أي نفقة من أجل محو وصمة الفصام عن أبنائهم، وبالطبع وصف الطبيب النفسي لهم ذلك الدواء، ولكننا لم ندرس خبرة هؤلاء الناس مع العقاقير الجديدة دراسة علمية محايدة، ببساطة لأن أحدا من المحايدين لا يدعم دراسة من جيبه، ولأن البحوث على العقاقير لا تفيد في الترقيات في حالة أساتذة الجامعات.
ولكننا على المستوى العملي وعبر الممارسة خلال سنوات من الخبرة مع تلك الأدوية الجديدة الواعدة الباهظة الثمن، تبدت لنا كأطباء نفسيين الصورة الحقيقية لتأثير تلك العقاقير، فهي فعلاً أقلُّ إحداثا للأعراض خارج الهرمية، وهي فعلاً أقلُّ تعزيزا لأعراض الفصام السالبة، لكنها لا تعالج الأعراض السالبة الموجودة أصلا، وليست بلا آثارٍ جانبية كما كان يروج لها، ولا هي جعلت المرضى أكثر إقبالا على العقَّار ولا أكثر إنتاجيةً ولا استمرارية عليه (فإن قلت الآثار الجانبية فقد تفاقمت الآثار الاقتصادية). اللهم إلا في بعض حالات لا نستطيع الجزم بأنها لو عولجت بعقاقير تقليدية لما كانت بهذا المآل الجميل أيضًا، وتبدت لنا في نفس المدى الزمني الآثار الجانبية للعقاقير اللاتقليدية من خلال ملاحظاتنا مع المرضى وأيضًا من خلال فضح الشركات لبعضها البعض، فهذا يرفع السكرَ في الدم وهذا يسببُ نقصا في كريات الدم البيضاء، وهذا يسببُ زيادةً مضطردةً في الوزن، وهذا يسببُ النعاس في غير أوانه وذاك قد يسببُ خللا في عمل القلب.... إلخ، حتى أن المرءَ بدأ يشكُّ ويتساءل عن جدوى الفارق الباهظ في الثمن بين النوعين من أنواع العقَّاقير، والإجابة الجاهزة هنا هي أن إنتاج عقَّارٍ جديد إنما يكلف مليارات الدولارات!
حتى أنني أصبحت أتفكه مع زملائي في التعليق على ما ننتظرُ من تسويق عقَّاقير جديدة للذهان قائلاً: جربنا التقليدي وجربنا اللاتقليدي، فهل نحن في ما انتظار ما ليس تقليديا وليس لا تقليديا؟! إنني أتخيل مندوب إحدى الشركات يقول لي: مضى زمان التقليدي واللاتقليدي، أقدم لك إذن عقَّارا ليس تقليديا وليس لا تقليديا وبالإنجليزية:Neither Typical Nor Atypical Drug، وكي لا أبتعد بكم عن المقصد الأساسي من هذا المقال أركز على ذكر الخلفية الفكرية التي عشنا بها (كأطباء نفسيين) خلال مراحل تلقي المعلومات المصاحبة لما حدثَ:
فبينما كنا في البداية نظن أننا فهمنا شيئا ولو غير أكيد عن كيفية حدوث أعراض الفصام من خلال نظرية اختلال الدوبامين وكانت مضادات الدوبامين "م.د أو مد Dopamine Antagonists "D.A هي العلاج المتاح وقتها، أصبحنا نحسبُ أيضًا أننا نفهمها من خلال نظرية الدوبامين والسيروتونين لأن عقاقير العلاج الجديدة هي مضادات السيروتونين والدوبامين "م.س.د أو مسد" Dopamine & Antagonists، ولا أدري كيف سينظرُ إليها غدا لكن الحديث عن اللدونة العصبية Neuroplasticity ، وإمكانية حثِّ الخلية العصبية المتحللة بعقاقير جديدة على استعادة عافيتها كل ذلك يفتح احتمالات فهمٍ جديد لاضطراب الفصام على أنه مسألةٌ عضويةٌ بالكامل من يدري؛ ولا أدري هل ما يتمُّ تشكيله هنا هو وعينا لغرضٍ في نفس شركة أو شركات أو أن فهم البشرية لذلك المرض الملغزُ هو الذي يتشكل؟؟ أنا بالفعل لا أجد الإجابة على هذا التساؤل، خاصةً أننا إذا خرجنا من أحجية الفصام وجدنا أمرًا مماثلا في أحجية الاكتئاب ومماثلا أيضًا في القلق الرهابي وغير الرهابي، هناك تشكلٌ لفهمنا نحن للمرض ينبع بسبب اكتشاف دواء يؤثرُ في أعراضه، أفلا يدعو كل ذلك للتأمل وربما الحذر من إطلاق أحكام نهائية في اضطراب من الاضطرابات؟
0 ولنعد إلى موضوعنا الأصلي في هذا المقال، وليتذكر معي زملائي من الأطباء تلك الفترة التي كان مندوبو دعاية عقَّارٍ ما من عقَّاقير علاج العِنَّةِ Impotence (أو فشل الاستجابة الجنسية في الذكور) يقدمون للطبيب مطوية دعائية تحمل اختبارا للرضا عن الممارسة الجنسية وينصحون الطبيب وينبهونه إلى ضرورة أن يسأل مريضه عن مدى رضاه عن أدائه الجنسي؟ فمن العيب أن تفلت منك وأنت الطبيب العظيم الجهبذُ تلك العورة النفسية (ضعفه الجنسي) التي يخفيها مريضٌ كمريض الاكتئاب مثلا أو مريض أوجاع الظهر نفسية المنشأ، يجبُ ألا تشترك مع المريض في مؤامرة غير واعية لإخفاء ضعفه الجنسي خلف أعراض أخرى.
فإن صحت في المندوب يا أخي هذا مريضٌ مكتئبٌ وإذا عالجنا اكتئابه عاد كل شيء بإذن الله إلى ما كان عليه، فيردُّ عليك المندوب نعم نعم هكذا كنا عندما لم نكن نملك العقَّار الساحر الجديد، ثم ألست معي يا أستاذنا الكبير في أن تحسين الأداء الجنسي لمريض الاكتئاب أو غيره أو حتى من تنتج عنده العنة كأثر جانبي لبعض عقاقير كمضادات الذهان "التقليدية" ألا ترى يا سيدنا الطيب العظيم أن تحسين أدائه الجنسي سيحسن من حالته النفسية وقد يكونُ له أثرٌ كبير في شفائه؟
الحقيقة أنني كنت من بين من رفضوا ذلك الحديث، وطلبت عدم تكراره معي لأنني لن أكتب ذلك العقَّار إلا لمن يحتاجه كمريض، بل طلبت زيارة أحد المدراء أو المتخصصين في المنتج Product Specialist أو في الدعاية له Marketing Manager، وحين قابلني ناقشته عن رأيه كمسلم في عواقب ما يحدثُ من عرض لهذه المطوية الدعائية على أطباء غير نفسيين، ومثلا أطباء الريف (وهو ما يحدثُ بالفعل)، سألته عن رأيه كمسلم في فتح هذا الموضوع وتضخيمه بهذا الشكل وكأنه يمثل المشكلة الطبية الاجتماعية الأولى بالرعاية في مجتمعنا الذي لا يدري بحاله غير الله، فكان أن رد علي بأنني تنقصني المعلومات الحقيقة عن ما يحدثُ في السوق فهناك ما يباع على أنه ذا أثر مطابق لأثر العقَّار الذي يأكل هو عيشا من وراء بيعه، وأن معظم الأقراص المقلدة تلك لا تحمل أي مادة فعالة وبعضها يضرُّ، وإن كانت تحدثُ أثرا فعالا ويستمرُّ عليها البعض.
فقلت له فهمت إذن ولكنني لن أشارك، وفقط أذكر بأن الإعلان عن منتجكم السحري الذي سمح للإنسان الغربي أن يمارس الحب بلا نهاية، كان هو السبب وراء انتشار وازدهار بضاعة مقلديه، مثلما ازدهرت بضاعتكم أنتم، وكان أيضًا سببا في بلبلة أفكار الناس وشحذ تساؤلات وخيالات ما كان لها أن تشغلنا ونصحته بقراءة الفياجرا والنساء : الحبة الزرقاء من على استشارت مجانين ليرى حجم البلبلة وتداخل المفاهيم الذي لا داعي له في أمة كأمتنا على الأقل، وكررت له أنني لن أشارك في ذلك.
فكانت النتيجة أن نشرت عدة مقالات في الصحف تتحدثُ عن الحل الجذري والنهائي لمشكلة البوال في الأطفال، كما وزعت ووضعت ملصقات معبرة في الصيدليات وعلى مداخل عمائر الأطباء، وحدث ولا حرج عن الوعي المفاجئ الذي اعترى الناس بأن المشكلة لها حل وهذا الحل هو العقار السحري الجديد، وحقيقة الأمر بعد ذلك اتضحت فلا العقار الجديد يحلُّ المشكلة من جذورها كما فهم الناس، ولا الطفل أقل عرضة للانتكاس بعد أن يستمرَّ جافا ثلاثة أشهر، ولا فرق كبير بينه وبين العقار القديم الرخيص الذي تناقص بحدةٍ في الأسواق في الآونة الأخيرة.
أقول لكم بعد ذلك أنني بدأت أستشعر كارثة معرفية يوضع فيها كثيرٌ من الأطباء دون دراية منهم، وسأكتفي هنا بطرح ملخص تلك الكارثة المعرفية التي أتمنى أن أكونَ مجرد متخيل لها، وسبب اكتفائي بملخص بعد كل ما عرضت هو إدراكي بأن فرش الأمثلة لن ينتهي وحجم ما يتداعى إلى ذهني حري بكتابته في كتاب، وهو في نفس الوقت غير بعيد عن الاستنتاج الذهني المباشر لكل طبيب نفسي مسلم يفكرُ فيما يحدثُ وفي ما يقاد البشر إليه من انفلات وعبر وسائل لا أظنها بحقٍّ صحيحة كل الصحة، لأن فارقا كبيرا يوجدُ بين أن تكونُ وظيفة الطب والتداوي هي معالجة الشكوى (أي عدم الرضا)، وأن تكونَ وظيفته هي خلق عدم الرضا (بالنبش عن المخبوء في حياة الإنسان)؛
وكأنما نخلق الشعور بالمرض ثم نخلق الشكوى ثم نفعل ما تقودنا إليه شركات الدواء، ألا ترون ما يريب في أن أكونَ مُطَالَبا (وإن في صورة النصيحة) بسؤال مريضاتي عن أدائهن البولي؟ لكي أكتشف أن عند واحدةٍ من كل خمسة مريضات فوق الأربعين من تعاني من انفلات قطرات البول منها لأن مثانتها مفرطة النشاط، وكذلك أن أسأل كل مريض ذي نشاط جنسي أو كل "ناشط جنسي!" عن أدائه الجنسي وعن رضاه عن انتصابه؟ هل هذا هو دور الطبيب الحكيم في تراثنا الإسلامي؟، وهل هو الطبيب وحده؟ أم أن للصيدلي وللعاملين في الحقل الطبي والإعلامي كله دورا في ذلك؟
إذن فهناك فضلا عن الكوارث التي تعيشها أمتنا في كل مجال، تضاف الكارثة المعرفية التي أراها أخطرَ ما يحدثُ في واقعنا الطبي المعاش، ذلك أن ما يحدث الآن لم يعد مجرد توجيه الأبحاث العلمية واهتمام وتركيز الأطباء في اتجاه معين لصالح عقَّار معين، فهكذا كان الحال فيما مضى، وليس ما يحدثُ أيضًا هو مجرد سحب عقَّارٍ رخيص أو مجموعة عقاقير لصالح عقَّار أغلى وأحدث لكنه من ناحية الفائدة الحقيقية للمريض أقل من أن يخلى له السوق بهذا الشكل، ولم يعد الأمر يقتصر على أن تطرح شركةٌ ما عقَّارا في الأسواق وتقدح زناد أساطيلها الدعائية لترويجه وبيعه، ثم لما تنتهي فترة احتكارها لإنتاجه -طبقا لقانون الملكية الفكرية وبراءات الاختراع- أي عندما يصبح بإمكان غيرها من الشركات أن تصنعه وتتكسب من بيعه؛
تقوم الشركة المحتكرة ببساطة بالإفراج عن نتائج الأبحاث التي تظهر عيوبه وآثاره الجسدية الخطيرة أو المميتة، مثلما حدث مع عقَّار الروفيكوكسيب Rofecoxib أو الفيوكس Viox لعلاج الآلام الروماتزمية، فقد ظلت نتائج تلك الأبحاث مخبأة إلى أن انتهت فترة الاحتكار، وإلى أن أبدعت الشركة أيضًا عقارا يتجاوز عيب العقار السابق وبأضعاف الثمن، كل هذا مفضوح ومعروف، لكن الأمر الآن أصبح يصل إلى درجة أخطر بكثير، فلا مانع من خلق المرض والشكوى إذا اقتضى ترويج عقار ما ذلك، ودائما ما يتم ذلك عبر عملية تشكيل وعيٍ منظمة للأطباء والصيادلة ثم الناس أيضًا، ولا مانع من عقد برامج توعية بريئة! على المستوى الاجتماعي، فما رأيكم دام فضلكم؟ هل المفروض أن أسأل -أو يسأل كل طبيب- أي أنثى فوق الأربعين عن أدائها البولي وأي ذكرٍ عن رضاه بنشاطه الجنسي؟ شاركونا الرأي يرحمكم الله.
ويتبع>>>>>>>> : مقال الطب والأطباء والدواء مهزلة مشاركة