المربي الناجح هو من يتخير الوقت المناسب للنصح والتوجيه لأن النفوس بطبيعتها تمل من كثرة الوعظ عن أبي وائل قال: [كان عبد الله ابن مسعود يذكر الناس في كل خميس فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم قال أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا] صحيح البخاري ج1/ص39و صحيح مسلم ج4/ص2172
الأب الظريف اللطيف (الكويس) نتاج المجتمع المصري الحديث مناقضاً للأب الكاذب والغائب والمنافق، كعادتنا أن نجمع بين الشيء ونقيضه وأن نسعد بذلك فالأضداد كلها لدينا كشعب مصري واحد. لا ضير ولا غضاضة ولا بأس لكن هناك مشكلة بحق هي أن ذلك الأب اللطيف (جنتلمان ع الفاضي)، مثله مثل وزير بلا حقيبة، نموذج ثقافي مُعدّل (موديل)، وغالباً أنه مغيب من خطابنا الثقافي ونظامنا الاجتماعي وحديثنا اليومي عن الأبّوة،
هو في الروشتة اليومية للأسرة (شخصية بلا اسم)، وكأنه عميل مزدوج (خارج دائرة الضوء)، نلمحه أحياناً يغطيه الآخرون بكياناتهم ووجودهم ومن باب عدم الإدراك الاجتماعي لهذا الأب فإن ملايين الرجال في مصر هم هذا الرجل. وعلى الرغم من كثرة عددهم فإنهم يمثلون شريحة ضعيفة في مجتمع الرجال الحقيقيين الأب الظريف اللطيف ليس كاملاً، لكنه (جيد) ولا يمكن الاستغناء عنه.
فهو (متزوج)، (موجود................ يعني)، يحتاجه أولاده وهو يجاهد لتلبية طلباتهم يعلم جيداً أن لا بديل عنه، وعلى الرغم من (تشوشه) أحياناً إلاّ أنه مُصِر أن يكون (مهماً) لأولاده.. ولا يمكن أن يخطر على بال أولاده أو امرأته أو باله هو شخصياً أن يفرق بين (الأب البيولوجي ـ الذي يخلف العيال) وبين (الأبوة الاجتماعية التربوية) بمعناها الصحيح، لأن الاثنين بالنسبة له واحد.
ولا يمكن أن يخطر على باله ـ مثلاً ـ أيهما أهم بالنسبة للأولاد. (دخل ذلك الأب المادي) أم صورته الذكورية الحقة؟ بالنسبة له الاثنين واحد (الراجل اللي يجيب الفلوس راجل كويس ولازم صورته أمام أولاده تكون كويسة ). ولهذا فهو لا يسأل عن معنى الأبوة الناصحة المرشدة المربية أو الراعية لأولاده سواء كان معهم أو منفصلاً.
وهو ليس مزجاً لهذا وذاك وليس سوبر مان أو فارس راح ـ يجيب الكنز ولا يمكن أن يطرح سؤالاً على نفسه ترى ما هو معنى الأبوة؟! وهل هي نفس الشيء أو مرادف للأمومة؟ أو "الوالدية" الكلمة السحرية لديه ليس أبداً فعلاً مضارعاً وإنما هي اسم دائماً، ليس ما يمكن أن يقوم به لكن ما هو عليه اسم ومصطلح مرتبط بنوعه كذكر "أب"؟! اسم معناه واضح وصريح ولا يحتاج إلى تفسير.
وعلى الرغم من أنه (تقليدي) جداً.. (كلاسيكي) فعلاً إلاّ أنه أيضاً من وجهة نظره ونظر الكثيرين (عصري ومودرن وشيك وكل شيء). وهو ـ يعتقد ـ أنه متطوّر وهو ليس إحياءً للتراث العتيد ولا هو الأب المنتمي لعصر الفضاء ابن (القرية الذكية) لكنه (معشق) مع (السلطة)، يعتقد أنه مسئول عن عمل (الرجال) داخل أسرته.
ويعتقد أن أبوته تلك ضرورية ومهمة ويحاول جاهداً استلهام روح الوالدية الحنون والزواج الحميم مؤمناً بأن (خادم القوم سيدهم).
رجل الأسرة الطيب، ثلاث كلمات معناها في بطنها، رجل (تعني التصميم على الرجولة)، الأسرة (أبعد من حدود الذات، تلك التي تأسر أعضاءها إليها في دائرة واحدة) ، الطيب (تلك الأخلاق الحميدة).، وكلغة حوار وحديث يومي فإن رجل الأسرة الطيب هو ذلك المعطاء بلا حدود الطيب و (ممكن الغلبان) الذي لا يقول لا ، لا مانع لديه من المشاركة في أعمال البيت، ويحرم نفسه من الكثير ليرضي الجميع، ما لم مهادن، (ما بيزعلش حًدّ).
يضع أسرته في المقام الأول، قبل كل شيء وممكن وصفه بأنه (دقة قديمة)، وفي هذا الوصف إهانة في المجتمع الحالي لإنه مثل هؤلاء الرجال ينقرضون ولم يعد هناك سوى القلة غالباً ما يكون شعرهم أبيض أو أنهم بلا شعر خالص (صُلع يعني). وعلى الرغم من كل تلك الهنّات فإن (رجل الأسرة الطيب) له قوة وحيدة مميزة أنه ليس نسخة معدّله من (الأب الغائب أو الذي لا لازمة له) في مجتمع يتضور جوعاً للوالدية الصحيحة التي افتقدت معانيها.
سألت مجموعة من الأمهات سؤالاً أساسياً بسيطاً عن أزواجهن: ماذا يعني رجل الأسرة الطيب الآن في زماننا هذا؟! وجدت الإجابات فيها عدوانية وتهرب من السؤال وتكاد تركز على(الأب غير الضروري)، هنا سألت الآباء أنفسهم (عينة مستقرة عائلياً) فكانت الإجابة، رجل، زوج مستقر يعيش مع أولاده الآتين من صلبه.
إذن ما الذي يفرق بين (الأب الطيب) و (الأم الحنون) مثلاً...؟! في مجتمعنا الحالي؟! (2004) هل لـرجل الأسرة الطيب مواصفات؟ سألنا مجموعة من الناس فتراوحت الإجابات بين أن يخرج مع أسرته دائماً (نزهات مختلفة عن زيارة حديقة الحيوان مثلاً)، نعني هنا مشاركة خارج إطار البيت مع حفظ استقلالية جميع الأطراف، لكن بدا أن المهم جداً كان هو أن يتمكن من إرشاد الأولاد فيما يخص مستقبلهم، يشجعهم ويحفزهم يكوّن معهم الهدف والرؤية.
هنا يقول البعض وأن يبعد أولاده عن (أصدقاء السوء) وهم (كُثر) وكل أصدقاء هم أصدقاء سوء لآخرين. أو أن يرسم ملامح أصدقاءهم لهم، يا حبزا لو كانوا عيال لا يتمكنون من ربط رباط الحذاء أو معرفة أمور الدنيا.
(نلاحظ هنا أن كثير من المدمنين على المخدرات بشتى أنواعها يأتون من صلب رجل أسرة طيب)، هل هم غير راضين عن طيبته تلك. أم أنهم يعاقبونه على حسن ودماثة خلقه أم أن طيبته تلك ولدت فيهم تمرداً لا يقاوم لتلك السلطة الناعمة السارقة لروح الحركة، الخلاف والاختلاف؟! وعلى الرغم من أهمية الموضوع وضرورته إلاّ أنه ـ غالباً ـ ما يأتي بنتيجة عكسية لأن (المراهق) يحس بالاختناق وبتلك اللزوجة الطيبة تحيط به من كل جانب فيموت اشتياقاً لكي يرفض تلك الطيبة وتلك المثالية وكل ما شابه ذلك.
وعند سؤال مجموعة أخرى من الرجال عن مصطلح (رجل الأسرة الطيب) وجدنا بعضهم يقول: نعم دايماً نسمعه في جنازة المرحوم، في صيوان العزاء، في الديوان، وفي البيت الكبير، في البلد (الريف). ولما سألنا الرجال عن مفهوم (رجل الأسرة الطيب) العصري قال بعضهم: المسئولية تجاه الأسرة، الحب، الاهتمام، الرغبة في التضحية، أخلاقي جداً، مشغول، مثل أعلى يعترف بأخطائه، بينما يرى آخرون أن اصطلاح (رجل الأسرة الطيب) قد توارى وأصبح أكثر تعقيداً وذا أوجه كثيرة.
ولعل هو ذلك الرجل الذي يدخل للأسرة مالاً وخيراً وراعي أسرته، وإذا فسرنا الاصطلاح أكثر لأدركنا أن ذلك الرجل الذي ينفق وقتاً أكثر مع أسرته يتعبد معهم، ويكاد المصطلح أن يتمحور حول: المرونة، وأنه ذلك الرجل الذي يشارك هموم البيت مع زوجته وأولاده ومن يؤسس لشراكة حقيقية مع زوجته ويعطي أولاده حقوقهم في التربية والتعبير.
تظهر المشكلة حينما يضع الرجل (رجولته) أو (ذكورته) أمام (أنوثة) امرأة ويحاول أن يساوي ذلك بضعفها، أو العكس فيكون هو (خادم القوم وسيدهم) لكن يعلن هذا في كل مكان، عموماً يبدو أن المشكلة تكمن في الرجال لأنهم يتحدثون لغة مختلفة في كل موقف وفي كل مكان ـ حسب الظروف يعني ـ مما يربك المواقف ويضعفها.
اختصار القول أن الرجل ضروري للأسرة فهو الواق والضمان للطفل ولسلامة المجتمع. صحته النفسية وأبوته الصحيحة هي مرآة المجتمع وإذا نظرنا حولنا في مصر (2004) لوجدنا أن (الأب) في (مأزق) والأسرة المصرية بالفعل في مأزق: مادي، قيمي،اجتماعي، أسري، أخلاقي، وإنساني.
السؤال المعلق، الخفي، المختفي، المختبيء داخل عقول الكثيرين، وعلى طرف لسان البعض: في مجتمع مصر اليوم (2004)، ما هو معنى الأبوّة!! هل هي أمر ضروري وهام. هل هي الفلوس. الشجار الزوجي. الأب الغائب ليل نهار.
هل صارت الأبوة أمراً بلا معنى، أو بلا فائدة أحياناً هل أصبحت المسألة مجرد أقوال مأثورة الأب الحقيقي هو الذي: يوفر، يحمي، يرعى ويكفل: هنا تبرز (لقمة العيش) كضرورة: لكن آباء اليوم ليسوا وحدهم ـ في أغلب الأحيان ـ من يوفرون (لقمة العيش) لأسرهم! فالأم المعيلة احتلت مكاناً ومكانة تتسع وتزداد كل يوم.
من ناحية أخرى اختلف شكل الدنيا واضطربت صورة المجتمع وساء حاله، فلم يعد ممكناً ترك الأطفال يلعبون في الشارع أو يلهون في النادي مما أضاف إلى نرجسية أسر الطبقة الوسطى تحديداً وإلى (تعقيمها) لأولادها، هنا قد يصبح (رجل الأسرة الطيب) ـ ربما ـ غير قادر على تأكيد ذاته مع أولاده فيفلت منه العيار، وأحياناً ما يطلب الأولاد (الإذن) من (الأم) باعتبارها (الأقوى).
وهكذا تتقلب الأدوار وينسحب البساط من (الرجل الطيب) إما ليستقر مع الأم (العاملة) (القوية) أو لا يستقر فيحدث الخلل وينفرط عقد النظام مما يتسبب في (الارتباك) الذي أصبحنا نراه مؤخراً في كثير من الأسر المصرية.
تعود إلى سمات (رجل الأسرة الطيب) والتي من أهمها (الحماية) كيف سيحمي أولاده من غزو التليفزيون الإنترنت ورسائل الموبايل.. قد يتمكن من بعض الأمور كأن يضع كلمة سر لمنع مشاهدة بعض قنوات (الدش) وقد (يراقب) أو (يخترق خصوصية أولاده) (يتصنت)، (يفتح الـ e-mail)، (يفتش الجيوب) ـ هذا الأمر تحديداً معقد للغاية لأن هناك خيط رفيع بين الرقابة والرعاية وبين اختراق الخصوصية والتلصص.
اقرأ أيضاً على مجانين:
عفة اللسان ونظافته، ضرورة حضارية/ المصريون وبانوراما النفس والجسد(2) / المصريون والتعليم/ السيكودراما الحديثة في القاهرة