علاج نفسي يعتمد على ملاحظة ما هو خفي واكتشاف ما هو كامن من عوامل يتحدد على أساسها سلوك الإنسان وانفعالاته. تلك العوامل اللاشعورية قد تخلق تعاسة تظهر في صور وأعراض مختلفة مثل خصائص شخصية معينة، متاعب في العمل، مشكلات في العلاقة العاطفية مع الآخر أو اضطراب في المزاج والاعتبار الذاتي، ولأن كل تلك القوي (لا شعورية) فإن نصائح الأهل والخلان وقراءة ما يساعد النفس في الكتب والمجلات والانترنت، أو العزيمة والإصرار لا تنجح في تخليص الإنسان من آلامه وتحريره من متاعبه.
يظهر العلاج بالتحليل النفسي كيف تؤثر العوامل اللاشعورية، على علاقات المرء الحالية، وعلى أنماط سلوكياته، يعود بها إلى الخلف، إلى الطفولة والمراهقة، يفحص فيها كيف تغيرت وتطورت على مدار الوقت ويساعد الفرد على التعامل بشكل أفضل مع حقائق الحياة المعاشة حالياً.
التحليل النفسي شراكة حميمة، يعي فيها المريض جذور مشكلاته، ليس فقط على المستوي الذهني بتذكرها فقط، لكنه يعيها انفعالياً ووجدانياً بإعادة معايشتها وتجربتها مع المحلل النفسي وهنا يحتاج الأمر إلى أن يعاود المريض النفسي محلله 4 ـ 5 مرات أسبوعياً، يستلقي على الشيزلونج (الأريكة) محاولاً البوح بكل شيئ يأتي على باله، تلك الأحوال تخلق (الموقف التحليلي الذي يسمح بظهور أبعاداً معينة في العقل لا يسمح عادة بالدخول إليها بالطرق العادية في الحوار المباشر، وعندما يبدأ المريض في الكلام ويلمح إلى أصول لا شعورية لمشاكله الحالية بطريقة معينة توضح أنماطاً للسلوك في نواح كان من الصعب على المريض سابقاً التحدث عنها والتصريح بها.
يساعد المحلل النفسي مريضه في تلك العملية الوجدانية الذهنية، فيحلل، يصحح، يواجه، يوجه، يرفض، ويضيف أفكاراً ومشاعر، وخلال عملية التحليل النفسي يصارع المريض استبصاره ومفاجأته ووعيه الجديد الصادم أحياناً ،المباغت كثيراً والمزعج والمقلق، كما أنه يصارع المحلل أيضاً، ولهذا فهو يمر بألم عظيم وضيق جسيم بالضبط كعملية تنظيف الجرح بالملح، دعكه وتنظيفه مما يسبب ألماً بالغاً، متناولين في ذلك كافة صعوبات الحياة اليومية، الخيالات والأحلام والأفكار، هنا يتحد المحلل والمتعالج في معاً في إطار مجهود ضخم لتطويع وتطوير أنماط الحياة المكّبلة، بمحو الأعراض المعطلة، وذلك لتوسيع رقعة الحرية للعمل والحب، وبالتالي فإن حياة المتعالج، سلوكياته وعلاقاته وإحساسه بنفسه ستتغير بطريقة عميقة وملزمة.
التحليل النفسي للأطفال والمراهقين
يتشارك مع التحليل النفسي للكبار في الثوابت، القواعد، والأساسيات، وفي أطره العامة لفهم الحياة النفسية، ومع ذلك فهو يستخدم طرقاً إضافية لقياس القدرات الخاصة ودرجة هشاشة الأطفال. فمثلاً لكي نساعد مريضاً صغير السن، ولكي يكشف عن أحاسيسه الداخلية وقلقه الدفين، لن يكون ذلك فقط بالكلمات، ولكن من خلال الرسم واللعب والتمثيل، أما في حالات المراهقين فدوماً ما يستشار الوالدين حول الصورة العامة لحياة المراهق أو الطفل. ويكون هدف عملية التحليل النفسي للصغار هو محو الأعراض والمعوقات التي تتدخل في عملية نموه الطبيعي.
هل التحليل النفسي مجرد علاج؟
على الرغم من أن (التحليل النفسي) بدأ كأداة لتخفيف الآلام الوجدانية إلا أنه ليس مجرد علاج فقط، لكنه طريقة نعرف بها عقلنا، كيف يعمل، ينشغل، يندفع، يفرح، ويكتئب مثلاً... وطرق فهمه للعمليات الذهنية في حياتنا اليومية، ومراحل النمو النفسي والشخصي منذ الرضاعة وحتى الكهولة، ولأن التحليل النفسي معني بتفسير كيف يعمل العقل فإنه يضيف الكثير إلى عملية الاستبصار وكيف يفرزها العقل الإنساني. ومن ثَم فإنه له تأثير قوي على ثقافتنا وحضارتنا، ومعيشتنا بشكل عام.
وهكذا فإنه مَعنٍي بالسلوك الإنساني ككل وبتجزئته، الأفكار التحليلية النفسية التي تغذي وتتغذي بدراسة العلوم البيولوجية والاجتماعية، سلوك الجماعة، التاريخ، الفلسفة، والآداب. وكنظرية للتطور فإن التحليل النفسي يسهم كثيراً في علم نفس الطفل، عملية التعليم، القانون، ودراسات الأسرة. ولأنه علم يفحص تلك العلاقة المركبة بين الجسم والعقل فإن التحليل النفسي يساهم في فهم دور العاطفة والانفعال في الصحة العامة كما في المرض.
بالإضافة إلى أن المعرفة بالتحليل النفسي هي الأساس لكل اتجاهات العلاج العميقة (الديناميكية) بكل تحولاتها وتطويعها، لأن استبصار التحليل النفسي يشكل البنية التحتية لكل طرق العلاج النفسي التي توظف في الممارسة العلاجية النفسية طبية كانت أو نفسية بحتة وفي طب نفس الأطفال وفي كل طرق العلاج الفردي، الجمعي والأسري.
تراث التحليل النفسي
سيجمو ند فرويد كان أول محلل نفسي في التاريخ تعود إليه معظم الإستبصارات الثورية والعميقة لعقل الإنسان والتي قبلتها معظم مدارس علم النفس العالمية وقت ظهورها. ومع أن جهد الآخرين قبله في فهم نشاط العقل لا يمكن إغفاله إلا أن فرويد كان رائداً فذاً في فهم أهمية عمل العقل ودور النشاط الذهني اللاشعوري، ومن خلال عمله الدءوب مع مرضاه بني نظريته الشهيرة وأوضح لنا تأثيرها على التفكير والفعل خارج حدود الوعي.
إن ذلك الصراع اللاواعي يلعب دوراً خطيراً في تحديد شكل السلوك الإنساني الطبيعي والمعيب وكيف يشكل الماضي الحاضر، وعلى الرغم من أن أفكار فرويد قد قوبلت بالرفض والمقاومة وقتئذ، إلا أنه آمن بقيمة اكتشافاته التي لم يسطحها ولم يبالغ فيها حقيقة بل لم يسع للترويج لها بأي حال ورأي أن من يريد تغيير نفسه والناس فعليه مواجهة المصاعب الحقيقية ووضح لنا أيضاً أن القوى الظلامية العمياء في الطبيعة الإنسانية، أحياناً ما تكون قاهرة وأن الفهم النفسي لها وتوسيع دائرة الفهم والمسئولية يوجد فارقاً كبيراً لم يعاني ويتألم نفسياً بل للحضارة ككل.
وبناءاً على ما سبق وعلى كل الأفكار ونماذج العمل الإنساني فإن التحليل النفسي نما وتطور كنظرية عامة لوظيفة العقل الإنساني، مع كل الاحترام لفردية كل إنسان وخصوصيته وتفرد حياته.
لم يبق التحليل النفسي على جمود.. لكنه تطور وتخمر وتغذى، توسع واقتبس، ومع ذلك فإن المحللين النفسين الحاليين في العالم يفضلون الاحتفاظ بقوة دائمة في تطويع البشر الذين يعالجونهم لذلك فهم يفضلون أن يدرك المريض أن المسألة ستأخذ بعض الوقت وأنها ليست مجرد علاج كيميائي سحري يرسم السعادة الباهتة على الشفاة، وبالتالي فإن المحلل النفسي لا يقدم (شفاءاً)جاهزاً ،ولا إجابة مخادعة سهلة ولا هو (موضة)،لا يحب ولا ينهج نهج الغواية والتأثير الانفعالي الشديد والموقن كضوء الماغنسيوم الذي يلمع ثم يختفي.
وكما اعتقد وآمن فرويد فإن كل المحللين النفسيين الجدد يروا أن التحليل النفسي أهم وأقوي أداة بل أكثرها تطوراً للحصول على كم أوفر من المعلومات في وعي ذاتي أعظم ومن ثَم يحرر المرضي أنفسهم من الآلام المعطلة لديهم ويطوروا ويعمقوا علاقاتهم الإنسانية بشكل أفضل.
من الذي يستفيد من التحليل النفسي؟
لأن التحليل النفسي علاج خاص جداً، فإن الاستشارة واجبة لمعرفة ما إذا كان المُتعالج صالحاً لهذا النوع من العلاج أم لا، ومع ذلك فهناك تصوراً عاماً أن الشخص الذي يخضع لعملية التحليل النفسي لابد وأن يكون عنيداً ثابتاً ـ هذا بصرف النظر عن اضطرابه وتعطله ـ وهو غالباً ما يكون قد حقق إشباعات هامة مع أصدقائه، في زواجه، في عمله، أو من خلال هواياته واهتماماته، والتي تكون قد تأثرت سلباً بأعراضه المستمرة: إكتئاب، توتر، قلق، متاعب نفسية جنسية، أو أعراض جسمية دون سبب عضوي واضح، أو تلك التي تغرق في لُجة الطقوس الوساوس والأفكار الاقتحامية الشديدة، أو الأفكار المراوغة المترددة المتكررة، التي لا يحس بها أحد غيره. أو ذلك الذي يعيش حياة مكتومة مخنوقة منعزلة تسودها الوحدة، ويكون غير قادر على الاقتراب من أحد وخائف للغاية من الحميمية.
فالذي يكون ضحية الانتهاك الجنسي في الطفولة ـ مثلاً ـ قد يعاني من عدم القدرة على الوثوق بالآخرين. وقد يعاود الناس المحلل النفسي لكشف أسباب فشلهم المتكرر في العمل، العاطفة، ربما ليس بمحض الصدفة ولكن بسبب سلوك ذاتي مدمر، والبعض يذهب إلى المحلل النفسي لأنه ـ هو كما هو عليه ـ نمط شخصيته، حياته تحدد من فرصه في التألق والإبداع والقدرة على الاستمتاع. وآخرون يلجأون إلى التحليل النفسي لحل مشكلاتهم السيكولوجية التي قد تكون على وشك أن تُحل أو يكون الأمر قد عومل من قبل بطرق أخرى ولم يكتمل.
بصرف النظر عن طبيعة المشكلة ـ التي تختلف باختلاف الظرف البيئي ـ الإنسان، والمعطيات الأخرى، فإنها تفهم في إطار مناطق الضعف ونقاط القوة في حياة الإنسان الذي يسعى إلى التحليل النفسي وهنا يتوجب التقييم الشامل الذي يحدد من الذي سيستفيد والذي لن يستفيد فعلاً من عملية التحليل النفسي.
من هو المحلل النفسي؟
قد يكون طبيباً نفسياً وقد لا يكون، أي معالج خريج (الآداب، الإنسانيات) علم نفس، على أن يكون ذا خبرة إكلينيكية طويلة، ويكون قد تلقي تعليماً نظرياً ونفسياً تطبيقياً قاسياً وعنيداً، ومن المهم أن يكون هو أو هي قد تعرض للتحليل النفسي حتى يتخلص ـ قدر الإمكان ـ من شوائبه، فلا يطبع سوءاته على مرضاه وبالتالي يكون على درجة من الوعي بذاته والاستبصار بطرحه على المُتَعالجين وبطرحهم عليه مما يمكنه من أن يكون فاعلاً ومؤثراً بلا أخطاء وبدون إساءة للمريض (حتى على المستوي اللاشعوري).
واقرأ أيضًا:
السيكودراما الحديثة في القاهرة / تعتعة نفسية العلاج بوصفة الأعراض(3) / ما تود أن تعرفه عن العلاج المعرفي السلوكي