هل يمكن أن يكون رجل في حضن امرأته ويفتقد معها الحميمية؟ وهل يمكن لابن أن يأكل من نفس الطبق مع أبيه ويراه كل صباح وكل مساء، يتسامران ويختلفان ولا يكون بينهما أي حميمية؟! هل يمكن لجار وجاره ( رغم صباح الخير ومساء الفل) وتحيات المناسبات وواجبات العزاء إلا يكون بينهما أي علاقة حميمة؟!
نعم فالاقتراب الجسدي والزماني والمكاني لا يعني أبدا الحميمية أنها تعني ذلك التوحد النفسي، والمشاركة الوجدانية العميقة التي لا تنفك أواصرها والتي تمثل نسيجا صحيحا معا في متينا ثابتا يشع بالدفء وبالقوة.
الحميمية تعبير شاع استخدامه بين العامة وصار من مفردات الناس في حياتهم اليومية وصار يناقش في أجهزة الإعلام مرة بشكل عفوي ومرة في صوره عميقة، لكن في كل الأحوال يكاد يدرك الناس مفهومه أن لم يوفقوا في تصويره أو تجسيده.
الحميمية تلك النوعية الخاصة من الاقتراب العاطفي الانفعالي بين اثنين من البشر، إنها رابطة وجدانية، وهي أيضا تلك الأعمدة القوية لرعاية كل للآخر، المسئولية، الثقة، التواصل المفتوح، والحر للمشاعر والأحاسيس، كما أنها ذلك التبادل غير المعرف وغير الحذر لتبادل المعلومات حول أهم الأحداث الوجدانية المهمة لشخصين في دائرة معا.
من أهم أنماط الحميمية المعروفة في العلاقات الإنسانية تلك الرابطة القوية التي تجمع بين الأم ورضيعها، حيث تكون الأم الراعية يقظة على الدوام ومستجيبة على الفور لأحاسيس رضيعها، لنبره وجدانه وتقلبات روحة، لانعكاسات نفسه على جسده، ولكل التيارات العاطفية التي تبدأ وتنمو وتترعرع مع الأيام في قلب الوليد وفي قلب الأم.
إن الدرجة العليا من الحميمية بين حبيبين أو زوجين تغذي سعادتها وتؤسس لثبات وانتظام العاطفة والوجدان لكل بينهما وهنا تبدو كل النشاطات ممتعه أكثر كما تبدو الحياة أكثر سخاءا وغنى، لها ألوان الطيف السبعة ورحيق كل الزهور، وحين يكون كل منهما متفتحا شفافا، مشرعه أبوابه علي مصراعيها، تستقبل نوافذهما الضوء وصوت البحر، حينها يحس كل منهما بدفء الثقة وعدم الخوف من الرفض أو الإزعاج. ويراعي كل منهما مشاعر الآخر ويصبح كل طرف مسئولا عن إدارة دفه المتعة والسعادة فينتقلان معا من قارب متعة إلى قارب سعادة وكأنهما يتمايلان علي غصن شجرة أو يهتزان على أرجوحة طفل مليء بالحبور.
إن العلاقة الحميمية تعمل كمنظم وكدرع واقيه من ضغوط وتوترات الحياة اليوميةوبدون العلاقات الحميمية سنجد أنفسنا في وحدة وغربة واكتئاب، إنها عامل مهم للغاية يؤهلنا اجتماعيا للتعامل مع مأزق ومشكلات بل ومصائب الحياة.
لقد زاد الخوف من الحميمية في مجتمعاتنا العربية تحديدا منذ بداية الثمانينات تقريبا، صرنا أكثر غربة واغترابا مع أنفسنا ومع المحيطين بنا. صارت مشكلات الحميمية أبعد من مجرد التواصل الجنسي، لقد أصبحنا مشاهدين بدلا من أن نكون متفاعلين متشاركين في لعبة جماعية أو حوار يشمل أكبر عدد منا، صرنا انعزاليين نرتاح إلى الوحدة ونستأنس بها نشاهد التليفزيون في صمت، نلعب ألعاب الفيديو والكومبيوتر، في عزله نقرأ الجريدة، نلعب الكوتشينة لكن نادرا إن لم يكن مستحيلا، نتحاور نتناقش، نقترب من بعضنا البعض ككل في حميمية دافئة.
والغريب في الأمر إننا كمصريين كنا نتسم بالحميمية الزائدة ولكن منذ حوالي 25 سنة تقريبا بدأت الأمور تتغير، انحنى المنحني بشكل غير طبيعي وخاف الناس يخافون من الحميمية العادية أكثر من خوفهم من الجنس وممارسه الحب. ولنكن صرحاء لأقصى درجه وواقعين جدا لنعلم أن هناك من الرجال والنساء من صار بالفعل يفضل ممارسة (العادة السرية) عن (المعاشرة الزوجية), أي أن يفضل(المتعة الذاتية) عن(ممارسة الحب) أو في أحيان أخرى يبحث الرجل عن المتعة الحرام (يشتريها) بدلا عن عشق امرأته والنوم معها، أو أن يغرق حتى أذنيه في المخدرات، المهدئات، المسكنات وما شابهها بدلا عن الانغماس في تجربة المشاركة مع حبيبة.
وقد ينشأ إحساس عظيم بالذنب لدي بعض الناس إذا هم رفضوا في إطار محاولاتهم الاقتراب من الآخر فيصبح الفرد في حالة توتر مزعجة مما يؤدي بهم إلى التصرف كشخصية تتجنب النجاح، وكأنه محكوم بمنطقة راحة غير مرئية (راحة من التفاعل مع الآخر وتفادي العشق والهم وعاب الأيام).
وإذا ما عانى شخص غير مرتبط من مشكلة تتعلق بالحميمية فإنه عندما يقترب من الآخر (الجديد) فإنه فجأة وبدون مقدمات يبتعد عنه، وكأنه يخافه وهو في نفس الوقت يتمناه وكأنه لا يريده أو كأنه عاجز عن الحب بمعنى أنه معاق في حميميته، فإذا ما التقي شاب بفتاة رائعة الحسن والخلق، وبدأت بينهما علاقة إنسانية عاطفية عادية، يجد نفسه فجأة يركز على عيوبها ونواقصها دون أن يدري فيبدأ نفوره واضحا، ويبدأ في استفزازها لينهي العلاقة (دونما سبب واضح لها).
مثل هذا الشخص ربما كان له تاريخ حافل من العلاقات المتعددة التي دائما ما تنتهي عند نقطة محددة متشابهة عندما يقترب من الآخر.
وإذا لم يؤد الخوف من الحميمية إلى إنهاء العلاقة الإنسانية/ العاطفية فإنه يعمل على تدميرها ومن ثم تكون علاقة مشوهة ومزعجة ومقلقة ومربكة على كافة الأصعدة. فنجد أن الطرف الذي يتوق إلى الحميمية دائما ما يسعى إلى الاقتراب من الآخر. يحاول دوما أن يستحضر الأمور العاطفية أن يتشارك في المشاعر وأن يقضي وقتا أطول مع حبيبه، أما الآخر الخائف من الحميمية فدائما (يغطس) ولا يعرف له أحد طريقا فهي إما على التليفون، أو أنها مشغولة (قوي) في شغل البيت، ومهمومة (خالص) بالأولاد، ودائما ما يحدث هذا وهو (الزوج) في البيت، وعندما تتحدث معه لا تتناول إلا توافه الأمور، نعم، هي ست بيت هايلة تطبخ له ألذ الطعام لكنها لا تعبأ بمشاعره، وغالبا ما نجد أن طرفا يسعى ويحاول وطرفا آخر يقاوم وينتقد، واحد يحس بالرفض والنبذ والحيرة والتشوش ويتساءل ترى ما الذي فعلته خطأ؟ وتكون نهاية الأمر الاستسلام للأمر الواقع، ثم الغضب، الاكتئاب أو الهروب إلى علاقة خارج إطار الزواج، فنجد الزوج غلبان مسكينا مقهورا ونجد الزوجة تنسحب من عالم الزوجية أكثر وأكثر نجدها غاضبة على كل شيء ومتوترة من كل شيء... أحيانا كثيرة ما نجد طرفي العلاقة، أو الزوجين اللذين يفقدان الحميمية في حالة استنفار عام وأن الإصابة الناجمة عما يمكن تسميته بصراع الحميمية تؤذي الطرفين.
يشتاق الطرفان إلى دفء الاقتراب من الآخر ولكن عندما يقتربان من نقطة معينه يتوتران. فيسلك أيهما أو كلاهما طريقا يزيد من المسافة بينه وبين الآخر. وعندما تزداد المسافة بين الطرفين يزداد التوتر والقلق ويزداد أيضا الحنين إلى الاقتراب. ويكون من الطبيعي هنا أن نجد الزوجين يفتقدان بعضهما ويسامحان بعضهما ويتحركان باتجاه الآخر أكثر ولكن بحساب ثم تبدأ عملية الاقتراب والحذر وربما، ربما ثم تتجه اتجاها عكسيا.
إن درجه الاقتراب ومدتها والمشاعر التي يحملها كل طرف في قلبه وعلى كتفيه تحدد كثيرا من الأمور كما أن نمط الزوجين أو الصديقين يختلف باختلافهما وباختلاف الأشخاص والظروف لكنه غالبا ما يأخذ نفس المنوال وإنه من السهل التكهن بمستوى الحميمية بعد فترة من الاقتراب أو الدفء بين اثنين، لكن احتمالات الفراق وانحسار الحميمية تعود لتطل من جديد لتؤسس نمطا آخر من التعامل.
0إن آليات (ميكانزمات) السلوك التي يبتعد به طرف عن آخر يكون في كل الأحوال فرديا ويعتمد في لحظته واستمراريته على شخصية الطرفين في العلاقة، وعلى نوعية شكلها وخلفيتها الثقافية لذلك فإن تفسير النمط هو اقتراب أحدهما من الآخر جدا، ثم نجد أن أحد الطرفين العلاقة فجأة وبدون مقدمات يبدأ حربا شعواء فينسحب الآخر وينغمس في هواياته، في أحلام يقظته، في مسلسل تليفزيوني في الشئون السياسية، وهنا يدرك الآخر مدى الهوة فيسقط مريضا بألم مبهم واكتئاب عصبي أو يزيد وزنه بلا مبرر، وقد يلجأ الآخر إلى التبذير في الإنفاق العشوائي بشكل انتقامي جنوني أو يركز على عمله ومشاكله فيه، أو ربما يهرب إلى علاقة خارج إطار الزواج كما ذكرنا سابقا.
بالطبع لا يدرك أي من الطرفين ما خلف ذلك السلوك، ولا يدركان ماهيته ونوعيته وبذور تكونيه، لذلك تبدأ دورة اللوم والإيلام لما آل إليه حال علاقتهما التائهة.
مخاوف الحميمية لا تظهر للعقل الواعي بشكلها الواضح ولكن بدلا عنها تظهر توترات تتعلق بالأداء الجنسي. وعند المواجهة يتعرض البعض على التفسير القائل بأنهم يعانون من الوحدة وأنهم على مستوى الشعور يتوقون إلى الاقتراب من الآخر، تعود جذور الخوف من الحميمية إلى الطفولة وقبل الإدراك البالغ بالأمور الحسية.
وانطلاقا من نظريات التحليل النفسي فإن الصراعات المتعلقة بالحميمية لها أصول في العلاقة مع الوالدين خاصة الأم وقد يكون غريبا أن نعرف أن ثمة علاقة بين رومانسية مع شخص غريب يكون لها مدلول الخوف من الانفصال عن الأم. والحميمية عند البالغين يكون لها مدلول لا شعوري بالتوحد مع الأم والالتصاق بها في مرحلة الطفولة وهناك نظرية أخرى تؤكد أن مشاكل الحميمية ما هي إلا نتائج غريزية لتطور الإنسان النفسي البيولوجي، والاجتماعي فالذي يتولد لديه الخوف من الحميمية عند الكبر يكون قد عانى من تجارب مؤلمة سلبية ومحبطة في الصغر بمعنى أنهم لم تتح لهم فرصة تكوين الثقة الأساسية Basic Trust التي تحدث عنها اريكسون تجاه والديهم وتجاه الأشخاص الحميمين في حياتهم ففي مرحلة طفولتهم الحساسة والحرجة تفتقد مكونات الدفء العاطفي الذي يشكل الحميمية فيما بعد.
اقرأ أيضاً :
سر الخلافات الزوجية المتكررة / المجتمع المصري وظاهرة رجل الأسرة الطيب / نفسية المصريين / عفة اللسان ونظافته، ضرورة حضارية