العلاج المعرفي للاكتئاب(2)
ابدأ في بناء نفسك:
عندما يشعر الإنسان بالاكتئاب فإنه يعتقد بأنه عديم الفائدة وكلما زاد الاكتئاب زاد عنده هذا الإحساس. لكن من المؤكد بأنك لست وحدك في هذا فالبحث الذي قام به "د.آرون بيك" أثبت أن أكثر من 80% من مرضى الاكتئاب لديهم عدم الرضا عن أنفسهم وأيضًا توصل البحث إلى أن مرضى الاكتئاب يجدون نقصًا كبيرًا في معظم الأشياء التي لها قيمة عند الإنسان عمومًا مثل: (الذكاء– النجاح في العمل– الجاذبية والقبول لدى الآخرين– الصحة– القوة) وقد توصل البحث إلى أن صورة النفس المحبطة تتلخص في 4 أشياء هي: (الفشل–النقص–الخذلان–الحرمان) .
وإن معظم الأحاسيس السلبية تنعكس آثارها المدمرة على الشخص ذي النفس المحبطة وإن هذه الصورة السلبية تصور لصاحبها بأن الهفوات التي يرتكبها الإنسان هي أخطاء عظيمة تصيب الشخص المحبط بالانهزامية والخذلان. ونعطي مثلا لذلك:
- فصديقنا (أ) من السنة الأولى لدراسة الحقوق ذات يوم شعر بنوبة خوف شديدة أثناء وجوده في إحدى المحاضرات عندما وجه له أستاذه سؤالاً محرجًا من وجهة نظره الشخصية ودار بيننا هذا الحوار:
الطبيب: لنفرض بأنك طلب منك أن تجيب على سؤال لماذا أنت مستاء هكذا مع أنك ممتاز في التحصيل؟
(أ): أعتقد بأني سأحتال لنفسي من ذلك
الطبيب: لنفرض بأنك ستحتال لنفسك لماذا كل هذا الخوف إذن؟
(أ): لقد خشيت من سخرية زملائي.
الطبيب: لنفرض أنهم سخروا منك ثم ماذا بعد؟
(أ): سوف أشعر بالبؤس.
الطبيب : لماذا هذا الشعور؟
(أ): عندها سوف أشعر أنني إنسان ليس له قيمة وربما يؤثر ذلك على مستقبلي العلمي وسوف أحصل على درجات منخفضة وربما لا أصلح أن أكون محاميًا في المستقبل.
الطبيب: لنفرض أنك فشلت بأن تصبح محاميًا وبأنك سوف تجد لنفسك أشياءً أخرى تعملها فما الذي يقلقك؟
(أ): هذا معناه بأني ربما سأفشل من جديد ودائمًا الفشل سيلاحقني طوال حياتي.
الطبيب: وماذا يعني ذلك بالنسبة لك؟
(أ): سوف تصبح حياتي فارغة وسوف أصبح فاشلاً دائمًا وذلك يعني أنني سأكون بلا قيمة في الحياة.
- من هذا الحوار عرفت أن (أ) يعتقد بأنه من المرعب أن يفشل ويفقد ثقته في نفسه عندما يقع في أي خطأ بسيط أو تافه.
وأيضًا هو يعتقد أن أي شخص لو نظر إليه بسخرية فإن الباقين يفعلون مثل ذلك وكأن كلمة فاشل قد وُصم بها.
ويبدو أن ثقته في نفسه قليلة حتى من أي نجاح أو تقدم يحققه وهو أيضًا يقيس نفسه بنظرة الآخرين تجاهه من وجهة نظره هو وإذا كان اشتياقه لإحراز النجاح لا يتحقق بالشكل المطلوب فإن ذلك يعطيه إحساسًا بالضياع وهذا يدل على ضعف ذاته من الداخل.
إذا كنت مكتئبًا أو عندك استعداد للاكتئاب فإن نظرتك لنفسك سوف تتغير وسوف ترى نفسك في صورة مزرية، بلا قيمة على الإطلاق وأن أي اقتراح لتصحيح هذه الصورة سوف يكون من الحمق وعدم المصداقية.
ولسوء الحظ فإن هذه النظرة لنفسك عندما تكون مكتئبًا سوف تنعكس على الآخرين في نظرتهم لك، وبشكل أو بآخر سوف تقنعهم بهذه الصورة المزرية التي رسمتها لنفسك.((لسنوات عديدة وكأنها صورة رسمت لتبقى هكذا دون أي مناقشة فيما يقول المريض أو يتصوره عن نفسه)) وقد توصل العالم النفساني/فرويد إلى حقيقة أنه عندما يعترض الطبيب النفسي على مشاعر مريضه النفسية فإن ذلك قد يؤدي إلى نتائج سلبية بل يرى العكس بأنه إذا وافقه على الأقل من حيث الشكل على نظرته لنفسه بأنه محبط وبدون فائدة أو مكروه من الآخرين، فهذه الموافقة تؤدي إلى أن يشعر المريض بالثقة في طبيبه وبالتالي فسوف يوضح له الصورة الكاملة لما يشعر به في داخله.
فمثلاً: عندما يصف المريض نفسه بأنه نافذ البصيرة عن غيره من الأشخاص العاديين أو على النقيض من ذلك عندما يصف نفسه بأنه مدلل وأناني وغير أمين وأنه يفتقد الثقة في نفسه ففي كلا الحالتين يجب أن نصدقه كي نشعره بأننا نقف بجانبه ونشعر به..
وهناك سؤال يتبادر إلى الذهن: هل الشعور بالنقص فينا متأصل - هل هو وراثي-؟ وهل مرضى الاكتئاب يواجهون حقيقة ما يعانون من حزن وكآبة وضيق؟
هل نستطيع أن نجزم بأن الإحساس بالقيمة الحقيقية للذات يتوقف على المظهر الخارجي للإنسان أو على الذكاء أو الشهرة أو حتى الحظ؟
إذن لماذا انتحرت الممثلة الأمريكية المشهورة "مارلين مونرو" أو غيرها من المشاهير؟
وعلى النقيض هل الحب والصداقة يمكن أن تضيف ولو القليل إلى قيمة الإنسان؟
إن معظم مرضى الاكتئاب لا تضيف الأشياء الجميلة مثل الحب إلى أنفسهم شيئًا حيث أن حب الذات لديهم مفقود.
ولعلك الآن تسأل نفسك ببعض السخط كيف أحصل على الإحساس بقيمة الذات؟
أهم مميزات العلاج الإدراكي المعرفي هو الإصرار على رفض الإحساس بعدم الرضا عن الذات أو الإحساس بعدم جدوى النفس البشرية في الوجود في الحياة وذلك من خلال إعادة تقييم الجوانب السلبية للذات والعمل على تصحيحها.
على العموم فإن كل شواهدك بأنك ضعيف الذات ليس لها أساس من الصحة وهذه الحقيقة بنيت على دراسة أجراها العالمان: د.آرون بيك و ديفيد دراف وكان مفادها أن هناك خللاً ما في التفكير لدى مرضى الاكتئاب مثلهم مثل مرضى الفصام حيث أن لديهم سوء فهم لبعض الأمثلة الشعبية المتداولة والمعروفة لدى العامة من الناس ولا يستطيعون كذلك الحكم على الأمور العامة والتي لا يختلف عليها الأشخاص الأصحاء.
ومع أن سوء الفهم هذا وعدم الحكم على الأمور بالشكل الصحيح يتفاوت بين مرضى الفصام ومرضى الاكتئاب فهو أقل عند مرضى الاكتئاب إلا أنه أكثر وضوحًا عندهم بالمقارنة بالأشخاص الأصحاء.
هناك محصلة نهائية وهي: كلما زاد الإحساس بالاكتئاب كلما زاد الإحساس بضياع الذات وقيمتها الإنسانية.
وقد خلصت هذه الدراسة إلى أنه أثناء فترة المرض قد يفقد المريض القدرة على رؤية الأشياء بالشكل الحقيقي وأن الأحاسيس السلبية التي تصيبه قد تسيطر على الحقيقة التي يراها وبالتالي فهو يرى ما يمليه عليه عقله الباطن حقيقة واضحة ويصدقها ويعيش في وهم كبير في النهاية هو صانعه بنفسه.
يا ترى ما هي الأفكار الخاطئة والتي تسيطر عليك عندما تكون محبطا؟
إن أهم شيء يسيطر عليك هو رؤيتك للأشياء حسب إحساسك النفسي فإما أن تكون كلها جيدة أو كلها سيئة وليس هناك شيء آخر، وهذا التطرف في الأحاسيس سوف يجعل إنجازاتك في الحياة إما كلها ناجحة أو كلها فاشلة، ورغم أن هذه النظرة الخاطئة للأشياء قد يراها المريض بأنها غير صحيحة أو غير حقيقية لكنها في الواقع تبعث في نفسه القلق والإحباط.
فمثلاً: كان هناك طبيب نفساني يشعر بالاكتئاب في فترة من حياته وقد أصيب بضعف جنسي وعدم القدرة على الانتصاب لمدة أسبوعين من فترة مرضه فنرى أن واقع مرضه لم يؤثر فقط على حياته العملية بل أثر أيضًا على حياته الشخصية.
واقع المشكلة بأن صديقنا هذا قد وظف نفسه على أن يمارس الجنس مع زوجته كل يومين ولمدة عشرين سنة متواصلة ويريد أن يستمر على نفس الوتيرة دائمًا وهذا وحده يبعث على القلق، حيث أن القدرة على الانتصاب قد تقل مع الوقت والسن، وعلى هذا الأساس فقد اعتبر نفسه فاشلاً في هذه المسألة طالما لن تستمر كما يريد هو ولن تجدي خبرته العملية في تغيير هذه الفكرة.
- الآن نستطيع أن نقول بأنه لابد من وجود فكرة غير منطقية تكمن وراء الإحساس بضياع قيمة الذات عند بعض الأشخاص المصابون بالاكتئاب. هذه الفكرة مسيطرة عند معظم الأشخاص الذين يعالجون نفسيًا، وربما أيضًا تكون موجودة عندنا نحن إذا استطعنا أن نخدع أنفسنا بأن هذه الأفكار حقيقية أو منطقية.
- كثير من المعالجين النفسيين يعطون الفرصة لمرضاهم أن يخرجوا أحاسيسهم السلبية بشكل تلقائي أثناء وجودهم في الجلسة النفسية، وهذا مما لاشك فيه أسلوب طيب للتخلص من هذه الأحاسيس وكأنه يلفظها داخله دون رجعة. وهذا بالطبع يؤدي إلى تحسن المزاج بنسبة كبيرة وإذا لم يراجع المعالج النفسي مريضه في تقييم ذاته فربما يقوم المريض بخداع المعالج كما يخدع نفسه.
- إن الجلسات النفسية التي يتخللها فترات كبيرة من الصمت قد تؤدي إلى الإحساس بالقلق لدى المريض وقدر كبير من الإحباط، وعلى العكس فإذا كان هناك تفاعلاً شعوريًا بين المريض وطبيبه النفسي فإن ذلك يعطي إحساسًا بالطمأنينة والأمن وبالتالي يستطيع المريض أن يخرج ما بداخله من شعور قد لا يريد أن يبوح به في الظروف العادية حيث أن كبت هذا الشعور أو الإحساس بالأشياء السلبية يؤدي إلى مزيد من الاكتئاب ولكن ذلك غير كافٍ فلابد من استعمال الطرق العلاجية المعرفية.
- إن التنفيس عن الشعور الداخلي ربما يكون غير كافٍ لمقاومة الإحساس بضياع الذات. وكمثال لذلك فإن إحدى كاتبات القصة جاءت إلى العيادة النفسية تشتكي من شدة القلق قبل صدور قصتها الأخيرة في الأسواق وهي تعاني من هذه الأعراض منذ فترة طويلة مثل أي عمل يصدر لها وتقول أن هذه الأعراض كانت عند أمها أيضًا وهى القلق على الأشياء التي تريدها منظمة وكاملة.
كما كانت تعاني من أعراض اندفاعية في كثير من الأحيان وكانت أمها تبدي ملاحظتها على أكثر من عشرة أشياء خطأ أو غير منظمة في غرفة مرتبة ترتيبا كاملاً. وتقول الكاتبة أنها لا تستطيع أن تتخلص من هذا القلق والوسواس الذي يسيطر عليها كما لم تجد أحدًا ينصحها في كيفية التخلص من هذا الشعور.
والسؤال: هل يستطيع الإنسان أن يتخلص من الشعور السيئ والذي يعيقه عن فعل الأشياء بالشكل المُرْضي؟ هل يتخلص منه بمجرد أن يوجهه شخص ما بأن هذا الشعور هو سيء بالفعل؟ وهل يستطيع لاعب التنس أن يحسن من لعبه بمجرد أن ينصحه مدربه بأنه يلعب الكرة في الشبكة كثيرًا ويجب تصحيح ذلك الخطأ؟ هل يستطيع الشخص الذي يعاني من لعثمة في الكلام أن يحسن من كلامه بمجرد أن يركز في ما ينطقه من حروف وكلمات؟
إن التعبير عن المشاعر والاستبصار بالحالة النفسية هي أساس الحوار في الجلسات النفسية حيث يتم التركيز خلالها على مدى تفهم المريض في التعبير عن التفكير والأحاسيس والسلوك وهذا يتيح التدريب السريع على تحسن الشعور السلبي وهذا يزداد إذا تم تنظيم الوقت والجهد لذلك، وعلى حسب استعداد المريض لتقبل هذا التدريب فسوف يتم اتخاذ خطوات جدية لتحسين المزاج والرؤية الشخصية للذات.
(عن كتاب Feeling Good by David Burns )
ويتبع>>>>>>>>>>>> : العلاج المعرفي للاكتئاب(4)
اقرأ أيضاً على موقعنا مجانين :
اضطرابات وجدانية: اكتئاب Major Depression / اضطرابات وجدانية: عسر مزاج Dysthymia